«أنا بخير وأنت لست كذلك».. هكذا يمكننا أن نلخص مرض البارانويا النفسى، حيث يشعر المصاب بأنه «عظيم ورائع» من ناحية، وأن «محيطه يكرهه ويعاديه ويستهدفه» من ناحية أخرى.
يمكننى أن أقول بثقة إن الشذوذ فى فكر وسلوك المتطرف ينطلق من ذلك الشعور، الذى يبرر له عداءه للآخر المختلف عنه- داخل مجتمعه وخارجه-واستباحته ارتكاب أفظع الجرائم بحق هذا الآخر.
ولأننى أميل للشرح العملى لكونه أسرع وأيسر فى تقديم المعلومة واستيعاب المتلقى لها، دعونا نحاول تطبيق رأيى هذا على حالات التطرف التى طالعناها فى الجزء الأول من هذه السلسلة من المقالات، الذى أرجو أن تراجعه فى حال لم تكن قد قرأته بعد.
«1» كانت دولة أشور العراقية القديمة مفتقرة إلى مقومات الازدهار، التى تمتعت بها النماذج الحضارية المحيطة من بابليين وفينيقيين ومصريين وغيرهم، فكانت الحاجة هنا هى إسكات الشعور بالنقص فى مواجهة أبناء تلك الحضارات.. من هنا ولدت فكرة «نحن عباد الإله أشور الذى ميزنا- فقط لأننا نحن- عن باقى البشر بأن أمرنا بالتسيد عليهم وإنزال أشد وأغلظ بمن يتحدى احتلالنا أرضه وسلبنا ثرواته».
من هذا المنطلق، خرجت الجيوش الأشورية من عاصمة الدولة «نينوى» لتجتاح العراق والشام ومصر، وترتكب بها أعتى المجازر سالفة الذكر.. طبعا لم تقف تلك الشعوب مكتوفة الأيدى، وسعت للمقاومة والتحرر من النير الأشورى، هنا تطورت فكرة التفوق الأشورى وضمت فكرة أخرى هى «إن العالم يبغضنا لا لأن وجودنا يرتبط بالدمار وسفك الدماء، ولكن لأن هؤلاء القوم الذين لا يؤمنون بأشور العظيم يحقدون على انتصاراتنا وإمبراطوريتنا العظيمة، ولذلك لا بد أن نذيقهم مزيدا من الدمار والإذلال».
هكذا كانت فكرة معاداة العالم أسهل عند الأشوريين من محاولة تحدى الظروف، وتطويع الطاقة البشرية الجماعية لتقديم إنتاج حضارى ذو قيمة، وهكذا تشكلت حلقة مفرغة من الحرب والصراع الذى يتلخص فى «إما نحن أو هم»، وهو صراع لا ينتهى عادة إلا بدمار أحد الطرفين أو كلاهما».
صحيح أن قانون العالم آنذاك كان «إما أن تغزو أو أن تغزى»، لكن حتى الغزوات آنذاك كانت الحرب تمثل فيها الوسيلة لا الغاية، وكانت عادة ما تنتهى بتجارب حضارية راقية وتأمين للسلام، كما كان من الملوك المحاربين فى مصر القديمة فى غزواتهم فى الشام وحوض النيل، لكن الأشوريين آمنوا بالحرب لمجرد الحرب، فكانت نهايتهم نتيجة مستحقة.
«2» ما دام مجتمع الإسكندرية القديم مستوعبا للتنوع والاختلافات، وكانت المجامع الحضارية بالمدينة كـ«الآجورا» - ساحة الحوار الشعبى - و«الجمنيزيوم» - منتدى الفكر والتأهيل لاستحقاق المواطنة السكندرية - والمؤسسات الثقافية والعلمية كالمكتبة والموسيون - المؤسسة الأكاديمية السكندرية - ساحات للحوار والمناظرات والمجادلات الثرية.
لهذا مثل اغتيال شرذمة من المتطرفين للعالمة هيباتيا حدثا شاذا فى تاريخ المدينة العريقة، كانت هيباتيا من معتنقى ديانة الإله السكندرى البطلمى سيرابيس، وكان قتلتها مسيحيين، ولكن متى كان اختلاف المعتقد الدينى مشكلة فى الإسكندرية القديمة؟ لماذا قتلوها إذن؟
كان هذا لأن قتلتها عانوا قصورا فى قدراتهم الذهنية والعلمية عن مجاراة مجتمع المدينة المتسامح، المتخذ من الحوار وقرع الحجة بالحجة منهجا له، فكان شعورهم بالعجز عن التعايش مع الجو العام سببا للشعور بالاغتراب عن مجتمعهم، فكان السعى لتغيير المجتمع بالقوة الباطشة والترويع والإرهاب هو «منهج البليد» لفرض الرأى بالقوة، والقضاء على أى رأى آخر تحت تهديد القتل والتنكيل. وكان لا بد من تقديم نموذج رهيب لـ«عقاب» من يخالفهم، وأى نموذج أفضل من اغتيال أبرز عالمة ومفكرة سكندرية آنذاك فى وضح النهار أمام أعين الجميع لهدم منظومة الحوار المجتمعي؟ ولكن كان لا بد من ستار لإضفاء «المشروعية» على تلك الجريمة، وأى ستار خير من «نصرة الإيمان على الوثنية»؟
«3» المدقق فى أنساب وأصول أبرز الأسماء من فرقة الخوارج، يلاحظ بسهولة أنهم كانوا ينتمون لقبائل وعشائر أقل شأنا من قبيلة قريش، التى شغلت ذروة المجتمع العربى قبل وبعد الإسلام.
بدأ الأمر بزمرة من المشتغلين بقراءة وتدارس القرآن الكريم عرف أصحابها بـ«القراء»، ورغم مكانتهم المحترمة فى قبائلهم وعشائرهم فإنهم كانوا يتألمون من كونهم أقل شأنا من الصحابة، الذين كان أبرزهم من قريش، ورغم أن المجتمع الإسلامى الناشئ، كان يقدم الفرص المفتوحة للبروز وشغل المكانة المحترمة على أساس التقوى والعلم، إلا أن «القراء» كانوا يطمعون فى الاستحواذ على المكانة السياسية العليا التى شغلها قرشيون، فالنبى عليه الصلاة والسلام كان قرشيا، وكذلك الخلفاء الراشدون.. فكيف السبيل إلى طريق مختصر لامتلاك المكانة المنشودة؟
لهذا لم يكن غريبا أن يسارع هؤلاء لاستغلال نشوء معارضة لبعض سياسات الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان لينضموا لها، ظاهريا تحت مسمى الانحياز لمطالب مشروعة، وباطنا لضرب التصدر القرشى للمشهد السياسى، من خلال خلق سابقة للاجتراء على اتهام أحد كبار الصحابة بالمروق من الدين، كبداية لاتهام أى مخالف لهم بذلك، ولم يكن غريبا كذلك أن يسعوا لتغليف المعارضة السياسية المشروعة بغطاء دينى، ولتحويل الاختلاف الطبيعى فى الرأى والرؤية ووجهة النظر إلى معادلة مقيتة هى «أنت ضدنا= أنت كافر» وقاعدة احتكارية فاسدة هى
«نحن الدين والدين نحن».. وأن يؤدى ذلك إلى قيامهم بترويع أهل المدينة باحتلالهم لها عن طريق حشد جموعهم، وفرض وجودهم لا بقوة الحجة وإنما بأسلوب الأمر الواقع، ومحاصرة مقر الخليفة ثم قتله.
كان من الطبيعى بعد ذلك أن تعجب هؤلاء القوم كثرتهم، وأن يعتبروا أن قيامهم باحتلال عاصمة الدولة ذاتها وقتل رأس الدولة نفسه «نجاحا لمنهجهم، وأن يطوروا ذلك المنهج إلى تكفير المجتمع كله واستهداف الخليفة التالى- الإمام على بن أبى طالب- باعتبار أنهم وكلاء الله فى الأرض، والمطبقون لقاعدة الحكم لله.. فمن وجهة نظرهم الفاسدة: قد آتت فكرة «الطريق المختصر لتسنم ذروة السلطة» أكُلها.
«4» مسلم بن عقبة صاحب «وقعة الحرة»، والخليفة الأموى يزيد بن معاوية، هما الوجه الثانى للعملة الفاسدة التى يحتل الخوارج وجهها الآخر،
فكل من مسلم ويزيد يفعلان نفس ما كان يفعله الخوارج «إضفاء غطاء دينى لشرعنة قتل المخالفين والتنكيل بهم». فقط كان الخوارج فى جانب المعارضة، وكان يزيد يمثل السلطة لما يوصف بـ«الدولة الدينية»، وهو نموذج ما زال المتطرفون يسعون للترويج له وإقامته إلى يومنا هذا.
لا يقتصر الأمر على ذلك، فيزيد عندما اختار مسلم بن عقبة بالذات لقيادة الجيش للتنكيل بأهل المدينة، كان يعرف جيدا ما الذى يفعله، فاختار لتلك المهمة البغيضة رجلا يبغض قريش ويبغض أهل المدينة، أى أننا أمام نموذج لكيفية استغلال وتوظيف الضعائن الشخصية والقبلية لخدمة غرض سياسى وكل ذلك تحت ستار دينى.
هل يبدو الأمر معقدا؟ انظر فى التاريخ لتجد حالات متكررة، لذلك استغلال أصحاب فكر متطرف لعداوات قبلية أو عشائرية وتوظيفها تحت غطاء «مجاهدة المخالفين لصحيح الدين»، سترى ذلك يحدث حتى فى تاريخنا المعاصر.
وضع الخوارج على أحقادهم القبلية رداء الدين، وكذلك فعل مسلم بن عقبة، وكانت حماقة يزيد هى أن يسمح بتوظيف ذلك فى خلافاته السياسية، فالتحالف مع متطرف أشبه بأن تضع يدك فى جحر للثعابين السامة أو أن تتلاعب بكرة نار ضخمة.
وللحديث بقية فى المقال المقبل إن شاء الله..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة