عادل السنهورى

كيف استعد الشعب المصرى لحرب أكتوبر..؟

السبت، 05 أكتوبر 2024 05:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ملحمة أسطورية كبرى لم ولن تتكرر في تاريخ الحروب القديمة والحديثة والمعاصر. بطلها هو الشعب المصري بأكمله الذي خاض برجاله ونسائه وشبابه وأطفاله معركة التحرير واسترداد الأرض واستعادة الكرامة والعزة والكبرياء.

في العلوم العسكرية يقولون ان الاستعداد الجيد للمعركة لا يقل في أهميته وضرورته بأي حال من الأحوال عن يوم المعركة نفسه وأن انتصار الجيش  في الميدان يسبقه صمود الشعب بالايمان والوعي والثقة في النصر في الداخل. فما بالك بشعب بأكمله-35 مليون نسمة هو عدد المصريين عام 1973- شارك بقصد أو بدون قصد في أضخم خطة خداع استراتيجي للعدو 
طوال 15 شهرا تقريبا قبل يوم العبور والنصر في السادس من أكتوبر العاشر من رمضان
الجيش المصري فوق أرض سيناء حارب بشجاعة وبسالة مطمئنا الى وقوف شعبه الى جانبه ومساندته ودعمه له بكافة صورة الدعم والتضحية رغم الفوارق في التسليح والتكنولوجيا مقارنة مع جيش العدو . لكن كان الزخم الشعبي من المصريين بكافة أعمارهم وطوائفهم وانتماءتهم كان هو السلاح الأقوى والأمضى من كل أسلحة " العدو الاسرائيلي" في المعركة والدعم الأميركي اللامحدود له.


في اللحظة الأولى ومع اتخاذ القيادة السياسية والعسكرية للرئيس الراحل أنور السادات باقرار خطة الخداع الاستراتيجي في يوليو من عام 72 أصبح المصريين جميعا على قلب رجل واحد، في المصانع والحقول والجامعات والمدارس والاعلام والفن والرياضة استعدادا ليوم العبور والنصر الذي انتظروه لسبع سنوات.


اعترف العدو قبل بعبقرية المصريين في الخداع وقالت جودلدا مائير رئيسة الوزراء الاسرائيلية وقال موشيه ديان وزير الدفاع وقادته وأجهزة مخابراته أمام لجنة اجرانات للتحقيق في أسباب الهزيمة " لقد خدوعونا المصريين"، وأقر الداهية والثعلب السياسي هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي الاشهر في مذكراته بالخديعة الكبرى .. كان هو نفسه ورقة وظفتها مصر في خطة الخداع بالمقابلة التاريخية بينه وبين  وزير الخارجية المصري المصري محمد حسن الزيات، يوم 6 أكتوبر 1973، لبحث مفاوضات السلام مع اسرائيل..!


طلبت مصر اللقاء في نفس يوم الحرب، بهدف احكام واكمال  خطة الخداع الاستراتيجي وإمعانا في السرية لساعة الصفر الذي لم يكن يعرفها الزيات نفسه خلال إجراء المباحثات بين الوزيرين، تدفقت الأنباء بعبور القوات المصرية لخط بارليف وبدء الحرب، وعندها غضب كيسنجر، لأنه أدرك وقوعه في الفخ وتعرضه للخديعة الدبلوماسية، فوقف منتفضا قائلا للزيات "عن أي مفاوضات تتحدث والحرب قد بدأت؟!" خدع المصريون أجهزة المخابرات العالمية التي كانت تعمل لحساب اسرائيل وتساعدها لمنع تحقيق النصر. على المستوى السياسي والدبلوماسي والعسكري.


في الداخل سارت عملية الخداع بصورة مبهرة وكان لها دورا تاريخيا لمن كان يراقب ويتابع الحياة اليومية للشعب المصري وحتى يوم المعركة. كانت الحياة تسير بصورة طبيعية واعتيادية داخل الشارع المصري. فمن كان يسعى ويراقب ويتجسس في الداخل أرسل بتقاريره بأنه من المستحيل أن تحارب مصر والناس تعاني من أزمات تموينية ومظاهرات واحتجاجات واستعدادات لشهر رمضان المبارك والتجهيز لبدء الموسم الدراسي يوم 29 سبتمبر 73 والاعلام مشغول بالرياضة وأخبار الدوري العام وتخصيص مساحات أكبر لكرة القدم وأخبار مجتمع الفن في المسارح ودور العرض وحفلات كبار الفنانين والفنانات.
الاعلام المرئي والمقروء التزم بخطة الخداع  وكأن صالة تحرير واحدة تدير منظومة الاعلام المصري في الاذاعة والتليفزيون والصحف والمجلات.


صدرت التعليمات بنشر واذاعة أخبار تسريح رديف من الضباط والجنود ولقاء وزير الدفاع المشير اسماعيل أحمد علي مع نظيره الروماني يوم 8 أكتوبر بالقاهرة وزيارة قائد القوات الجوية اللواء حسني مبارك الى ليبيا عصر يوم 6 أكتوبر، وفتح باب التسجيل للجنود والضباط لأداء العمرة في رمضان.


وتسريح أحد الضباط الأطباء وتعيينه مديرا لمستشفى الدمرداش وتصريحه بانتشار أحد الأوبئة بالمستشفى لاخلاءها واخلاء عدد آخر من المستشفيات في القاهرة وباقي المحافظات بسبب انتشار الفيروس الغامض( استعدادا لاستقبال الجرحى في المعركة).


وتنشر الصحف وتفرد مساحات لفضيحة غرق محصول القمح المصري  بسبب أطار الشتاء واضطرار الحكومة المصرية لاستيراد أقماح من الخارج..!


والتعليمات بنشر أخبار احتجاجات طلبة الجامعات ضد القيادة السياسية بسبب تقاعسها في اتخاذ قرار الحرب..!


اهتمام اعلامي باستعدادات الناس لشهر رمضان وضخ كميات كبيرة من السلع في الجمعيات التعاونية واستعداد الأسر المصرية لشراء مستلزمات العام الدراسي الجديد الذي بدأ يوم 29 سبتمبر عام 73 – وقبل الحرب بأسبوع كامل- وانتظم أكثر من 2 مليون تلميذ وتلميذة وطالب وطالبة المدارس بصورة طبيعية وسارت العملية التعليمية بشكل اعتيادي حتى ظهيرة يوم السبت السادس من أكتوبر( مازلت أتذكر هذا اليوم ، كنت في بداية الصف الرابع الابتدائي للفترة المسائية ولا أنسى مشهد الأستاذ محمد أبو طاحون ناظر مدرسة سعد شتا الابتدائية بدسوق  رحمه الله وهو يقف ليخبرنا بحماس وفرحة كبيرة ببدء الحرب وعبور قواتنا ويبلغنا بالاجازة حتى اشعار آخر مع خطبة قصيرة بضرورة الالتزام بالتعليمات اثناء أيام المعركة)
استمر الخداع الاعلامي بتخصيص صفحات كاملة لأخبار الرياضة والمجتمع والفن والحفلات والعروض السينمائية. كان الدوري العام المصري قد انطلق يوم 7 سبتمبر والصحافة مشغولة بالمباريات وبعودة حسن شحاتة لاعب الزمالك من فريق كاظمة الكويتي واتجاه الأهلي لتعيين مدرب أجنبي اسمه هيديكوتي بمرتب شهري 600 دولار . وفي الاسبوع الخامس للدوري تستكمل مباريات الدوري يوم السبت 6 أكتوبر في الساعة الثانية والنصف بالمباراة الشهيرة بين بطل الدوري في الموسم الماضي فريق غزل المحلة وفريق الطيران على ملعب نادي الترسانة بميت عقبة وفجأة وعند الساعة الثالثة تجأر اصوات الجماهير بالهتاف للطيران عقب سماع البيان العسكري الثالث بصوت المذيع حلمي البلك ويحيي عبد العليم وبعبور القوات مانع قناة السويس ويحتفل اللاعبون ويصمم الحكم ابراهيم الجويني على استكمال المباراة وفقا للتعليمات..!


في دور العرض السينمائية لا صوت يعلو فوق اكتساح فيلم "خلي بالك من زوزو" لايرادات الجمهور وتحقيقه رقما قياسيا ببلوغه الأسبوع الـ52 على التوالي حتى يوم المعركة. في سينما ديانا وبارداي يعرض فيلم " شيئ من الحب" لعادل امام ونور الشريف وسهير رمزي، وفيلم " الشحات " لمحمود مرسي في سينما ميامي وروكسي وريو والفيلم الأجنبي " نساء شرسات" في سينما راديو.


المسارح مشتعلة بالعروض المسرحية، فرقة ثلاثي اضواء المسرح تعرض " روميو وجولييت" على مسرح الريحاني وفرقة تحية كاريوكا تعرض " نيام نيام" على مسرح ميامي وعزت العلايلي ونجوى فؤاد في مسرحية " عريس وعروسة" وأمين الهنيدي يعرض مسرحية " سبع ولا ضبع" وأخبار أخرى عن الاستعداد لمسرحية " مدرسة المشاغبين"
أخبار المجتمع والحفلات وأين تذهب هذا المساء تحتل مساحات كبيرة  في صفحات الصحف وتتصدر أخبارها في الاذاعة، حفلات شادية ومحرم فؤاد وشريفة فاضل وفايزة أحمد وشهرزاد وشفيق جلال وسيد الملاح والاعلان عن حفل عيد الربيع. وحفلات أشهر الراقصات وسرادقات المداحين في رمضان. وقرءان فجر يوم المعركة من مسجد سيدنا الحسين للقارئ الشيخ محمد أحمد شبيب بآيات تبشر بالنصر من سورة " آل عمران".


هذه السيمفونية المصرية الرائعة والمدهشة نفذها الشعب بقصد أو بغير قصد، بعلم أو بدون علم، تنفيذا واعيا دقيقا وتخطيطا مدروسا ومحكما من القيادة الشجاعة لأضخم خطة خداع استراتيجي حيرت وخدعت أعتى أجهزة المخابرات بما فيها الموساد والمخابرات الأميركية والبريطانية والأجهزة المخابراتية المعاونة لها ..فكانت النتيجة الانتصار المذهل  يوم السادس من أكتوبر  وما بعده..







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة