كان على أبواب الخمسين، رجلاً وقورًا بوجهٍ مُستدير ومُشرَّب بالحُمرة، وملامح تنُمُّ عن مَلاحِةٍ قديمة، ما أخفَتْها السنين ولا لوَّثتها المُعاناة. تفتَّح وعيى الخاص على حرب أكتوبر مُبكِّرًا للغاية، من خلال «عَمّ دسوقى» عامل الخدمات فى مدرستى الابتدائية، وأحد أبطال الملحمة الوطنية العظيمة كما سنعرف بعد ذلك. يسكنُ بيتًا ريفيًّا بسيطًا على بُعد ستمائة مترٍ تقريبًا من العمل، يقطعُها فى زهاء الساعة جيئةً وذهابًا؛ لا لشىءٍ إلَّا أنه يستندُ إلى عُكَّازٍ معدنىٍّ، ويُريحُ جسدَه الرشيق على ساقين اصطناعيِّتين. ولم أفهَمْ وقتَها لماذا لا يُوفِّرُ طاقتَه الضئيلةَ فى المشوار المُرهق؛ فيستعينُ بواحدٍ من سائقى الدراجات النارية فى القرية، أو بكرسىٍّ مُتحرِّك لن يعدَم مَنْ يُعينه عليه من أطفال الجيران. لكنها كانت روح المقاتل العنيد؛ إذ يحملُ فخرَه على كتفيه، ولا يحبُّ أن يدارى وسامَ البطولة الذى كُنّا نراه عجزًا، على قدر عقولنا الصغيرة، بينما يراه دليلاً حَيًّا على أنه كان هناك فى ساعة النداء، ويستحقُّ أن يكون مشمولاً بالاحتفاء مع بقيَّة زُملائه الحاضرين فى دروسنا. والعسكرية التى هذَّبت روحَه وصقلتها، كانت حاضرةً فى مهمَّة تهذيب أرواحنا؛ فالعَمُّ الذى تولَّى حراسةَ الباب الرئيسى ودَقِّ الجرس بانتظام، بدا كأنه لم يُغادر الجبهةَ بعد، فكُنَّا ننتظرُ أجراسَه لينتظِمَ إيقاعُ يومنا، ولم نُفكِّر فى الهروب إطلاقًا؛ لأنه هُناك على «دِكَّة المُراقبة».
أخذت الحربُ من «عمّ دسوقى» ساقين، وربما عددًا لا يستطيعُ حصرَه من الرفاق؛ لكنها منحته حكايةً تُوجِب الفخرَ، وتستحقُّ أن تُروَى على أسماع الناس دون مَلَلٍ أو انطفاء. وأهمُّ ما فيها أنَّ أكتوبر أسطورةُ البُسطاء والعاديين؛ وليست مُصادفةً عابرةً أن تتلاقى الذكرى سنويًّا مع افتتاح عامٍ دراسىٍّ جديد، وأن يكون أوَّل ما نُلاقيه على باب المستقبل رجلاً من صُناَّعها، ودرسًا تطبيقيًّا لِمَا قرأناه فى الكُتب أو سنقرأه. لقد ودَّعْنا شهداء وقِطَعًا من الأبدان على رمال سيناء؛ لكننا وصلنا ما كان مقطوعًا فى جسد الوطن، وتركنا أرواحَ رجالنا الطاهرةَ على الثغور، تحفظُ ما استعدناه وتُبقِى الأُمثولةَ الفدائيَّةَ حَيّةً فى الصدور، وما من بيتٍ إلَّا له ابن أو قريب أو جار قضى نحبَه أو ينتظر، وما بدَّل المصريِّون تبديلاً. إنها أكبرُ من ذكرى معركةٍ أفضت إلى حقٍّ ضائع، أو مكَّنت للكرامة الوطنية بعدما أُهدِرَتْ غدرًا فى أرضها. وإذا كان من عادة الزمن أن يهضِمَ الحوادثَ مهما كانت عظيمةً؛ فإنَّ الجغرافيا كتاريخٍ صلب تتكفَّلُ بإبقاء الحكايات طازجةً مثلما كانت فى أوَّلِها، وها نحن بعد إحدى وخمسين سنةً من العبور، نقف على أطراف أصابعنا فى اليوم نفسه، كأننا كُنَّا معهم هناك، أو نتطلَّعُ لرؤية أطيافِهم فى مواكب تجديد الذكرى، وإنعاش الذاكرة.
ربما لم يعُد مُتاحًا أن نسرِدَ جديدًا عن اليوم. فالمواقف والأرقام والبطولات دار عليها نصفُ القرن الفائتُ فما تركَ فيها غامضًا ولا مَنسِيًّا؛ لكنَّ العبرةَ كائنٌ حَىٌّ يتمشَّى بيننا، ويتنفَّسُ الهواءَ معنا، ولا تفنى دروسُه أو تجرى عليها حساباتُ الموت والحياة. وعِبرةُ الحرب أوَّلُها أنَّ الحقوقَ لا تتقادم ولا تضيع، وأنَّ العزائمَ أمضَى من توازُنات القوَّة وانحراف رياح العالم، وما يراهُ البعضُ مُستحيلاً قد يكونُ أقربَ مِمَّا يتصوَّر الجميع؛ شريطةَ أن تصدُق النوايا، وتتوهَّج الآمال، وأن تُؤخَذُ الأمورُ بحقِّها دون إفراطٍ أو تفريط. ويحدُثُ أن تُهزَم، لخطأٍ منك أو لمُبادرةٍ من العدوِّ؛ إنما لا يقع الانكسارُ الكامل إلَّا لو صدَّقت فى بأسِه وضعفِك، وسلَّمت للعجز عن رَدِّه والتعالى عليه، ولعبت مع الخصم ضدَّ نفسك؛ بالرخاوة أو جَلْد الذات. وما فى السيرة الأُكتوبريَّة على النقيض من كلِّ هذا؛ إذ تجسَّدت فيه خريطةُ الرفض والتمرُّد على أنصعِ صورة، واكتملت حقيقةُ أن يكون التعثُّرُ حافزًا لا عائقًا، والانتكاسُ مدخلاً إلى التقييم والتقويم، والمرارةُ درسًا افتتاحيًّا لضَبْط المقادير والنكهات، وشَحذ الذائقة لاختبار وَصفَتِها الحُلوة، على ما تحبُ وترضى.
غامتْ السُّبل فى العيون ذات يومٍ من يونيو 1967. بدا أنَّ بلدًا عظيمًا يتداعى تحت وطأة الهزيمة، أو هكذا تصوَّر المُنتصرون مُؤقَّتًا، ومَنْ كانوا يرقصون معهم رقصةَ الفرح العابر. أيَّامٌ وانتفض المجاريحُ على شواطئ بورسعيد؛ فأغرقوا المُدمِّرة إيلات وغيّروا معادلات الحروب البحرية، ومن بعدها بدأت تجربةُ المصريين فى التمرُّد والانفلات من القيود. كانت معركةُ رأس العش إيذانًا بحربِ استنزافٍ طويلة، اختبرَ فيها الجيشُ عقيدتَه، وبدأ يُفكِّكُ أسطورةَ العدوِّ التى طُبِخَت على استعجال، ولنحو ثلاثِ سنواتٍ تالية ما قصَّرَ المُلاَّكُ فى الغرب، ولا ارتاح الغُزاة فى الشرق. بينما كانت ورشةُ الإصلاح فى أَوْجِ نشاطِها؛ ففُتِحَتْ الجروحُ للوعى لا للتباكى، وأُعيد النظرُ فى الإخفاقات وجوانب القصور، وبدأ العمل على بناء المُؤسَّسة العسكريَّة من جديد. كانت المُناكفة والعمليات النوعية، كما فى العبور المُتقطِّع من «المجموعة 39 قتال» وغيرها إشارةَ الفسيولوجيا على حياة الجسد، وصلابة مناعته، بينما التأهيلُ فى الخطوط الخلفيَّة عن قناعةٍ حقيقية بالمحنة، واعترافٍ صادق بها، ورغبةٍ أمينة وجادّة فى تجاوزها. والحكاياتُ هُنا أيضًا لا تنقطع، ولا يتَّسعُ مقالٌ لإيرادها، ولعلَّ تفاصيلَها مِمَّا بات معروفًا للكافة، وإذا كانت قد مهَّدَتْ للحرب الثأريَّة بالتجربة والمِرَاس وترقية القدرات؛ فإنها صنعَتْ النصرَ استباقًا، بالعَزم والثِّقة وتعرية المُحتلّ من أوهام الغَلَبَة والامتناع.
بُنِيَت سرديَّةُ الهزيمة على صيغةٍ تُحصّنها من انتفاضة المهزوم، وتوسَّلت الردعَ المعنوىَّ بأكثر مِمَّا كان فى مقدورها على أرض الميدان. هكذا نُسِجَتْ الحكايةُ باستيلادٍ قسرىٍّ؛ من أوَّل النصر السهل فى سِتّة أيام، إلى الإفراط فى العُنف والتنكيل بالأسرى، وتتابُع الحوادث بعدها لغَرض «كَىِّ الوعى» فى مُستويَيه الرسمىِّ والشعبى. إظهارُ التفاوت فى القُدرات، وفكرةُ السيطرة على ثلاثِ دُوَلٍ دفعةً واحدة، وبناءُ مانعٍ صناعىٍّ تَفَاخروا بأنّه يتجاوزُ «خطَّ ماجينو» الفرنسى فيما بين الحربين العالميِّتين، ولم تنقطِعْ حالةُ التلاعُبِ النفسىِّ بكلِّ الصُّوَر الحارقة، أكان فى المحاولة الناعمة مع السيناويِّين فى «مُؤتمر الحَسَنة» بعد سنةٍ وعِدّة أشهر، أم فى الوحشيَّة المُفرِطة ضد مُدن القناة طوال السنوات الستِّ، أو فى عملياتٍ غير إنسانيَّة ولا أخلاقية كما فى قصف مدرسة بحر البقر. كلُّ الحسابات العقليّة والمادية كانت تقولُ باستحالة تجاوز الرادع المعنوىِّ؛ ناهيك عن المَيْل الفادح فى ميزان القُدرات والدعم الخارجى، بينما على الجانبِ الآخر كانت طاقةُ الغضب كفيلةً برَدمِ كثيرٍ من الفجوات؛ أمَّا الأخذُ بالأسباب فكان رافعةَ البلد الموجوع، لبناء جسوره العريضة وصولاً إلى التشافى الكامل.
كان الوصولُ إلى الضفَّة الشرقية للقناة مُعجزةً كاملةً؛ ليس لبُعدٍ مَكَانىٍّ عن الرابضين على مسافة عشرات المترات منها، إنما لأنها ابتعَدَتْ كثيرًا فى الزمن. كان الفاصلُ بمقدار البُعد بين الشرق والغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وبحجم الحرب الباردة بين قُطبين تحالفا ضدّ النازيّة، ثمَّ انقلبا عَدُوَّين يسعى كلٌّ منهما لاحتكار العالم وشَطب الآخر. حُسِبْنَا على الطرفِ الضعيف منهما، وكان العدوُّ فى حماية «الفتوَّة الجديد». وليس فى مقدور السادات أو غيره أنْ يُبدِّل التوازُنات القائمة بمعزلٍ عن صُورتها الدولية، وعليه ألَّا يُسلِّمَ للصديق القديم وقد بدا أنه عاجزٌ عن إسناد سَرديَّته أو حسم معاركه، كما لا يصحُّ أنْ يقتربَ من غريمه لدرجة الاحتراق، ولا أن يبتعد لحدِّ العداوة والقطيعة الكاملة. وهكذا كانت الحربُ سياسيَّةً قبل أن تصير عسكريَّةً، وهى على كلِّ حالٍ صورةُ من السياسة، على ما قال المُنَظِّر البروسىُّ كارل فون كلاوزفيتز، وبالمنطقِ ذاتِه ستُدَارُ من أوَّلِها إلى آخرها، ولن يستوعِبَ الناظرون من الخارج أو المأخوذون بالأيديولوجيات اللاهبة ما كان قائمًا وقتها، ولا ما تبدَّل خلال الصراع وفيما بعد تجميده؛ لهذا سيظلُّ «المنوفىُّ الأسمرُ» سابقًا للجميع بعشرات الخطوات، وما ذهب إليه قبل خمسة عقود، صار مستحيلاً على غيرِه اليوم، وربما فى المستقبل القريب.
هُزِمْنَا لا لأننا لم نعرِفْ العدوَّ فحسب؛ إنما لجهلنا بأنفسِنا أيضًا. كُنا مُستَنزَفِين فى ساحاتٍ عدّة، وما كانت حربُ اليمن قد وَضَعَتْ أوزارَها بعد. خبرةُ «عبدالناصر» المُباشرةُ مع الصهيونيَّة لم يُحدِّثها منذ الصدام على أرض فلسطين، وكانت صِفةُ العصابات غالبةً عليهم فى الوعى، وإن صاروا جيشًا نظاميًّا قبلَها، وترسَّخت بِنيَتُهم المُؤسَّسية لاحقًا. حتى تجربةُ العدوان الثلاثىِّ لم يُستَفَد منها كما يجب، ولعلَّها حُسِبَت على الفرنسيين والبريطانيين لا على إسرائيل؛ فاعتبرنا أنهم كانوا هامشًا لا مَتنًا، وما توقّفنا الوقفةَ الضروريَّةَ أمام مخاطرهم المحدقة بنا.. والخروج من أَسْر الأوهام البالية تطلَّبَ أن نتعمَّقَ فى فَهم الخَصْم، وقبله أن نتبحَّرَ فى معرفة مصر الحقيقية، والتماس قُدراتها الكامنة، واستكشاف مَواطن ضعفِها أيضًا، وكَسْر طوق الشعارات الخانقِ ومُبالغات رؤية الذات على مرآةٍ مُقعَّرة. ثمَّ أنْ نبنى قواعدَ المجد على ركائز صلبةٍ؛ لا بالأغانى والهتافات الشعبوية. ولعلّ خطابَ التنحىِّ كان مُقدِّمةً للاستفاقة؛ بما فيه من اعتراف واعتذار، وما ترتَّب عليه من نوبةِ صَحوٍ أعادت مُراجعةَ المُستقرّ وترتيب المُبَعثَر، وتخطيط معالم الرحلة الطويلة والشاقة مع التخلُّص من آثار الهزيمة، والاجتهاد فى صياغة مُعادلة النصر.
زبدةُ القول أنَّ الحقَّ لا يغنى من القوّة، ولا يقومُ بمفرده مقامَ الاستجابات الواجبة فى المسائل الوجودية، وبما لا يتقيَّد بالحال تضحيةً بالمآل، ولا يُبدِّد المُمكن طمعًا فى المأمول؛ وإن لم تتوافر إمكاناته المطلوبة. عرفَ السادات نفسَه وعدوَّه؛ فتمكَّن من تفعيل قدراته على أقصى ما يُمكن، ومن ترويض الخصم بالسلاح والسياسة على السواء. بدأت الرحلةُ بتمصير التجربة النضالية، بدءًا من طرد الخبراء السوفييت، وما وراء ذلك من إبعادٍ للمُؤثِّرات الخارجية، وتنقيةٍ للجبهة الوطنية من أثقال المُناكفة بين موسكو وواشنطن. وفِعل المقاومة على هذا المعنى الناضج؛ قد يقبلُ الضيمَ حِينًا أو الصمتَ أحيانًا؛ لكنه لا يندفعُ خارجَ عقال العقل، ولا يتعجَّلُ الطموحات الكُبرى طالما أنَّ الأكتافَ لم تقوَ بعد على حَملِها. وهكذا يتمثَّلُ التحدِّى فى تجسيد وطنٍ مُستقرٍّ وقادرٍ على أن يُسدِّد فواتيرَه المطلوبة، ثمَّ أن تتحقَّق الوحدةُ الإلزاميَّةُ كجدارٍ يُعزِّزُ قدرةَ المُقاتلين، ويُثبِّت عزائمَ المُدافعين من ورائهم فى الجبهة الداخلية. وقد احتمل السادات كثيرًا من النقد والغمز والتعريض، واصطبر على أشواك الداخل والخارج؛ لكنه ما قدَّم رجالَه إلى النار إلَّا بعدما صار واثقًا أنه ستُعطى بقدر ما تأخذ، وستُنضج الآمال الوطنية بقدر ما تشوى جلود طالبيها، وتحرق ما طاب لها من طوابير الفداء.
قيمةُ «أكتوبر» أنها أوَّل موجةٍ حقيقية تجتاحُ المشروعَ الصهيونىَّ، وأوَّلُ ارتدادٍ انكماشىٍّ أُجبِروا عليه بعد عقودٍ من التوسُّع الهائج. كانت سيناءُ تُفّاحةَ إسرائيل الشهيّةَ؛ إذ تتجاوز ثلاثةَ أمثال فلسطين التاريخية، وتعلو قيمتها الجغرافية والاستراتيجية على الضفَّة الغربية وقطاع غزَّة، وعلى ألفٍ ومائتى كيلو متر اقتطعتها من هضبة الجولان. لهذا لم تكن مُجرَّدَ استردادٍ للأرض جزئيًّا بعد ستِّ سنوات فقط من اغتصابها؛ إنما كانت مُفتَتحًا لمرحلةٍ جديدة لا تبدو فيه الدولةُ العِبريَّة غُولاً مُتسلِّطًا على المنطقة، أو عِلَّة توطَّنت جسدَها ولا سبيلَ لوَقفها أو التداوى منها. إنها السرديَّةُ الجديدة التى سطّرتها مصر، وعجز الباقون عن قراءتها فى وقتها، وعلى وجهها السليم، فكان من نتيجةِ ذلك أنهم ظلَّوا يتخبّطون خمسةَ عقودٍ تالية، وما غادروا زمنَ النكبة الأُولى بمُلحقاتها، كما لا يعرفون اليومَ كيف يستعيدون ما ضيَّعوه فى السبعينيات، ولا كيف يستنسخون التجربةَ المصرية فى ترويض الصهيونية وتقويض مدِّها الكاسح.
نحتفلُ اليومَ بالذكرى الحادية والخمسين للنصر، وغدًا السنويَّة الأُولى لأحداث «طوفان الأقصى». وغاية المُحاكاة واضحةٌ للغاية فى الثانية، بدءًا من التاريخ، وطبيعة العملية، ومفاجأة العدوِّ فى أسبوع أعياد واحتفالات. أمَّا فارقُ الرجال فشاسعٌ وعظيم، وفوارقُ العقيدة والتأسيس النضالى أكبرُ وأعظم. ليس السنوار كالسادات، ولا القسَّاميّون كالجنود المصريين، كما لم يَعُد الظرفُ كما كان عليه فى الإقليم والعالم. وبعيدًا من الافتراض الأوَّل والمبدئىِّ لحُسْن النيّة؛ فلعلّه كان اختيارًا على صورة «المسجد الضِّرار»، غايتُه أن يستنبت ذكرى جديدةً تُزاحِم المنطقةَ فى نصرِها الحقيقى الوحيد على العدوِّ المشترك، وتنتزعُ موطئَ قدمٍ للأُصولية الدينيَّة حتى تُصوِّر نفسها فى قبيلة الفاعلين ضد الصهيونية ومشروعها المُنفلت. وما أنجزه السادات ليس أنه أعطى إشارة الهجوم من غرفة القيادة المُحصّنة؛ إنما أنه خاض الحربَ قبل الجنود، بالسياسة والعلم والتخطيط، وحصَّن جبهته الداخلية أوَّلاً، وظلَّت عينُه على أن تكون مُغامرةً لا مُقامرة، وأن يعودَ منها سليمًا بالأرض والمجد، لا أن ينتزع التصفيق وآهات الجمهور فى الافتتاحية، ثمّ يُورثهم النكبات والجروح المُتقيِّحة فى الختام.
للحربِ وظيفةٌ واحدة لا غير، أن تُحدِّد المنتصرَ من المهزوم، وما لم تُنجِزْها فإنها تصيرُ مجازفةً مجانيَّة لا تُغيّر قواعد اللعبة، ولا يُستَحْصَلُ منها إلَّا جانبها الخشن، وآلامها الثقيلة. والسادات اجتهدَ قدرَ ما أُتيح له أن يُفعِّل أدوات الحرب، ثمَّ اتَّخذ زمامَ المُبادرة لإكمال ما قصَّر فيه الميدان بوسائل أخرى، والخلاصة أنه بعد أسابيع من القتال، خاض شهورًا وسنواتٍ من المعارك التى لا تقلُّ سخونة، وتوصَّل فى نهاية المطاف إلى الخُلاصة المطلوبة من الحروب، أن يُعرَفَ الفائزُ من الخاسر، ويُعاد ترسيم الحدود بينهما بما يُترجم ذلك على أرض الواقع. الحِسبةُ ليست أن نخوض الحرائق لمُنتهاها بصدورٍ عارية؛ إنما أن نعود منها بملابسنا الكاملة كلما كان هذا مُمكنًا. والسادات فعلها بالقوّة والحيلة، وقدَّم مقاعد على الطاولة للآخرين كى يجنوا معه مكاسب ما زرعه بسواعد مقاتليه؛ لكنهم مارسوا الثبات فى غير مواضعه، والتعالى فى المواقيت الخاطئة، وأقصى أمانيهم اليومَ أقلُّ كثيرًا مِمَّا عُرِضَ عليهم فى زمن الداهية الشهيد.
خرجَ من مجمرة المُراهقة السياسية وقتها فريقان: مُمانَعةٌ تُجرِّب الأدوات القديمة وتنتظرُ نتائجَ مُغايرة، ومُعتدلون هذّبتهم السنين والتحالفات فصاروا أقرب إلى العقل ممَّا كانوا. والحال أنَّ الجولان فى قبضة إسرائيل، ولا يجد الفلسطينيون ثُقبًا ليُجسِّدوا فيه دولتهم المأمولة، ومَن تجرّأوا على السادات بالقول والفعل، عاد أغلبهم إلى حظيرة الفهم، وكثيرون بادروا إلى خياراته القديمة تطوّعًا، مع فارق أنه أعاد من خلالها أرضه السليبة، وما حقَّقوا من هداياهم المجانية شيئًا لبلادهم ولا للقضايا الزاعقة. أكتوبر كانت فاصلاً وجوديًّا بين مرحلتين مُهمَّتين، نعرف فيهما أنفسَنا وعدوَّنا على وجهٍ يُطابق الواقع، ونُؤسِّس لحروبنا المُقبلة بالوعى والمنطق والبصيرة، وبحقِّها فى الجاهزية والاستعداد. حاربنا وقتَ أن كانت الحرب واجبًا لا بديلَ عنه، وتوقّفنا عندما كان التوقُّف خيارًا مُثمرًا وأقل كلفة، وما جمَّدنا المشهدَ على العداوة الساخنة، ولا البرودة المُضيِّعة للحقوق. كان السادات عميقًا فى تحديد الأزمة، وموضوعيًّا فى التماس الحلول، وكانت العقيدةُ سلاحَه الأمضى، أمَّا الكنز فكان فى جبهته الداخلية المُتماسكة. الحرب كانت على شيطان النفس أوَّلاً، وعلى شعور العجز والهشاشة والانكشاف، وعلى الانصراف الذُّهانىِّ من الحاضر إلى الإقامة العليلة فى الماضى بأوهامه وهواجسه. لقد كانت حربًا انتصرنا فيها لأنفسنا على أنفسنا، فتحقَّق لنا النصر على العدوِّ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة