لم أَتَلَقّ الأنباءَ الأُولى عن «طوفان الأقصى» باستحسانٍ على الإطلاق. كنتُ فى جَمهَرةٍ من الناس وقتَها، أغلبهم من الصحفيين، وقد تدفَّقت الأخبارُ بعدَّاد القتلى فى غلاف غزَّة، وتنوَّعت الردودُ بين مُترقِّبٍ ومُتحفِّزٍ ومسرور؛ أمَّا أنا فقُلتُ لهم بلهجةٍ غاضبةٍ إنَّ الغزِّيين سيدفعون ثمنًا ثقيلاً، وسيُنْحَرُ منهم عشرةٌ أو عشرون مُقابلَ كلِّ قتيل، ولن يقلَّ الحسابُ على اليوم عن ثلاثة أشهر من النار والدم. ربما بدوتُ لهم مُتشائمًا أو خائرَ العَزم؛ لكنّنى أستعيدُ المشهدَ الآن وفى روحى أضعافُ ما كان فيها من الأسى، وفى الصدر خجلٌ مكتومٌ من فرط رومانسيِّتى. دارت الروزنامةُ عامًا كاملاً، وما يزال الجرحُ طازجًا كلحظتِه الافتتاحيّة، ووجيعة القطاع تمدَّدت فى الزمان والمكان؛ حتى ما عاد معروفًا إلى أين ستمضى المأساةُ بالناس، ولا متى تنتهى. وقع آلافُ المنكوبين فى قبضة عدوٍّ شرس، لا يُذكَرُ له أنْ وفَّر فرصةً للولوغ فى دمهم؛ فماذا وقد أتته الذريعةُ على طبقٍ من فضَّة، أو بالأحرى من جماجم وأشلاء؟!
تجاوز العدوانُ الإسرائيلىُّ كلَّ السوابق المعروفة، وأقصى ما تخيَّله العارفون بالعدوِّ وسيرته المحشوَّة بمئات المجازر وعمليَّات الإبادة المُمنهَجَة. وما يزيدُ النكبةَ ثِقَلاً أنها مُعلَّقةٌ فى فراغٍ تتخطّفه الإراداتُ المُتصارعة والنوايا السوداء: الصهاينةُ فى جانب، والمُمانعة فى الآخر، ورخاوة المجتمع الدولىِّ بينهما، مع عجزه المُفرط عن التدخُّل، وفرض ولاية القانون والأعراف الإنسانية. والظاهر إلى اللحظة أنَّ الحربَ لن تضع أوزارَها قريبًا، وفى جعبتها ما لا يقلُّ فداحةً عمَّا أسبلته على البلاد والعباد. إنه نزاعٌ بين أيديولوجيَّات حارقة، يدفعُ ثمنَه مَنْ يطلبون الحياةَ فى حدِّها الأدنى، وتضيعُ حقوقُهم مرتين: إحداهما بسرقة الأرض والمصير، والثانية بارتهان وجودهم لإملاءات لم يُستَشاروا فيها، ولم تُبشِّرهم بتُفَّاحةٍ فى آخر طريق الأذى، وليس فى وِسْعهم أن يفرّوا منها وقد صار مستقبلُهم خلفهم، وحاضرُهم مُقطَّعًا بسكاكين الأُصوليَّة الحليفة والمُعادية.
جاءت اللحظةُ الصاخبةُ على شوق من نتنياهو. كان ذئبُ الليكود عائدًا للحكومة بعد غيابٍ قصير، وما فى حوزته إلَّا حصانة المُستوطنين واليمين التوراتىِّ؛ ولأجلها أبرم اتفاقاتٍ تقودُ بالضرورة لنزاعاتٍ مع بقيَّة الطَّيف السياسىِّ. وقد اشتعلت الجبهةُ الداخليَّةُ سريعًا، وتتابعَ الرفضُ الهادرُ من الشارع لبنود الصفقة التى أطلَّت برأسها مُبكِّرًا، فى خطة الإصلاح القضائى، والترضيات الإضافية بشأن الاستيطان وتجنيد الحريديم وغيرهما. تقلَّب المجالُ العام بين شدٍّ وجذب، واحتشد المتظاهرون، وبدا أنه لا سبيلَ لتسويةٍ من الداخل. كان الرجلُ فى حاجةٍ ماسّة لحربٍ تسدُّ منافذَ العداوة، وتُعيدُ ترتيبَ الجبهة الداخلية وبناء مناخ الإجماع. وإسرائيل من يومها تعيشُ على حدِّ السكين، وتزدهرُ بالفوضى. ومن هُنا؛ تلقَّى هديَّةَ الطوفان، أو اصطبر على تجهيزها كما تقول بعض التقارير. المهمُّ أنه وجدَ ضالّتَه الضائعةَ فى تل أبيب على أطراف غزّة.
لم يكُن «الطوفانُ الحماسىُّ» قرارًا صائبًا، باعتبارات التكتيك أو الاستراتيجية؛ ليس لأنَّ المُقاومةَ فعلٌ مرذولٌ قطعًا، ولا لخلافٍ على حاجة القضية للتنشيط بعد سنوات الجمود؛ إنما لأنَّ السياق لم يكن يُبشِّر بالتعقُّل من الجانب الآخر، ومن طِباعه الجنون فى الأحوال العادية. وسيّان أن يكون «السنوار» قد ذهب للمُغامرة طامعًا فى استغلال مأزق غريمه، وساعيًا لتعميقه، أو أغرته الهشاشةُ البادية من الاحتلال أن يُكثِّف الضربات على رأسه، وربما كان القرارُ إذعانًا لإرادة قادته وحُلفائه فى المُمانعة، أو أنه تطلَّع لخَلطِ الأوراق وإرباك الجميع، على أمل أن تكون الموجةُ ثقيلةً لدرجةٍ تجرفُ الجميعَ؛ فتكون المواجهة الشاملة أو التسوية الواسعة. لم تعُد الأسبابُ والمُثيرات محلَّ اعتبار؛ وقد ذهبت الأمورُ فى اتِّجاهٍ يُخالف ما أرادته الحركة، وما عاد بإمكانها الرجوع عمَّا أحدثته فى بيئتها، ولا تمرير أهدافها من قنوات الآخرين؛ حُلفاء كانوا أم مُعادين.
قضى المُناضلُ الأُصولىُّ عقدين فى سجون الاحتلال، واختبر الصهاينة من قربٍ، ويعرف عقليَّتهم جيِّدًا. والرهان على ذكائه لا يسمحُ بافتراض أنه أراد الوصول للنقطة التى يقف عندها اليومَ. ثمَّة احتمالٌ أنه أراد عمليَّةً محدودة؛ يُوقِّع فيها بالحضور على أرض العدوِّ، ويعود بنَفَرٍ من الأسرى لصفقةٍ لاحقة، على أن ينحصر الأمرُ فى الإغاظة لا الاستفزاز، والإيلام المُزعج لا الإيذاء المُوجِع. هُنا يصحُّ افتراض أنَّ التخطيط لم يكن منضبطا، والعشوائيَّةَ تحكَّمَتْ فى التنفيذ؛ فأغرت القسَّاميِّين بتَوسِعة الضيِّق، وحفَّزَتهم الرخاوةُ على أن يكبشوا ما تطاله أياديهم؛ أى أنَّ القصَّةَ القصيرة انتفخت فى أفواه الساردين فصارت روايةً. أمَّا الاحتمالُ الآخر فأنّه تطلَّع للعبث فى أنياب الضباع، مُراهنًا على آمالٍ طيِّبة أو تطميناتٍ وَردِيَّة، مفادها أنْ يُلاقيه المُمانعون. ولعلّه تصوَّرَ أنَّ الفوضى ستضعُ الإقليمَ بكامله فى عين العاصفة؛ ما لم يُبادر باستنقاذ القطاع على وجه السرعة، وبالتبعية ستنحصِرُ الخسائرُ وتتحصَّنُ المكاسب، ويكون بوِسْعِه أن يُؤكِّد ولايتَه على القضية ومجالها الحيوىِّ، وأن يُثَبِّتَ بمشروعيَّة النضال العُنفِىِّ، ما اقتطعه من السُّلطة بالانقلاب والانقسام العمودىِّ قبل عقدين. وفى المُحصِّلة، وعلى أى وجهٍ نُقلِّبُ الصورةَ؛ يبدو أنه أخطأ الحسابات وأساء التصرُّفَ، وما أراده مُغامرةً محسوبةً قد استحالَ فى يديه مُقامرةً انتحاريَّةً كاملةَ الأوصاف.
تسبحُ إسرائيل منذ نشأتها فى بحر دم. بل الأوقع أنها ما تأسَّست أصلاً إلَّا على القتل والإبادة. وهى بلدٌ مُنحَطٌّ بالوقائع والتواريخ، وفى وَعيِها نزعةٌ نازيَّةٌ لم تنتقل إليها من خبرةِ التعرُّض لأفران هتلر؛ إنما تستندُ لذخيرةٍ نُصوصيَّة مُستجلَبَة من التوراة وتقاليد الحاخامات. والخصومةُ مع عدوٍّ بتلك الوقاحة يجبُ ألَّا ينصرفَ النظرُ فيها عن ماضيه، ولا أن يتعامى صاحبُ القرار عن سوابقه. والخطيئةُ هُنا ليست أنَّ المُقاوِمَ افترض فى المُحتلِّ ما يُناقضُ تاريخَه فحسب؛ بل أنه تخطَّى اللحظةَ بشروطِها الظاهرة، وما استوعبَ أنَّ الارتباكَ الحادثَ فى تل أبيب سيُتَرجَمُ مزيدًا من العنف خارجَها، وسيكونُ الهروبُ للأمام غايةً مطلوبةً لذاتها، بغَضِّ النظر عن ثِقَل وطأة الطوفان، وعدَّاد خسائره، وحِسبَة المنافع والمضار المُترتِّبة على التفاوت المُمكِن فى مستويات الردِّ. ربما لو لم يُبادر الحماسيِّون؛ لَكَان زعيمُ الليكود اخترعَ المواجهةَ بطريقته؛ لكن الفارقَ أنَّ إرخاءَ حبل السنوار أعفاه من مهمَّة التلفيق والتبرير، ويسَّر له أن يتمادى فى اقتراحاته الجنونيَّة بعيدًا من السياسة والقانون، ودون حاجةٍ لإقناع حاضنته بالتكاليف الباهظة. عِبئُه الأكبرُ فى المسألة كان يخصُّ توفيرَ السياق الدرامىِّ لتطويح اللعبة الداخلية خارجَ الحدود؛ وقد حَملَه قائدُ حماس عنه تطوُّعًا.
بتقديرٍ موضوعىٍّ مُتجرِّد. تأذَّت إسرائيلُ ماديًّا وبشريًّا؛ لكنَّ القطاعَ العليل دفعَ الفاتورةَ الأفدح. صحيح أنَّ القضية عادت للواجهة؛ لكنها الحماسةُ العاطفية التى واكبت أحداثًا شبيهة فى السابق، كالانتفاضة الأُولى واستشهاد محمد الدُّرّة وأربعةِ حروبٍ سابقة على غزَّة، وسرعان ما تنطفئ ويعودُ العالمُ لحياته العاديَّة. مَوازينُ القوَّة مُختلَّةٌ تمامًا، وتميلُ بوضوحٍ لصالح الاحتلال، ويزيدُ من ثِقَلِها أنَّ الفلسطينيين مُنقسمون على أنفسهم، وما زالت سَرديَّةُ نتنياهو عن «غياب الشريك» فعَّالة نسبيًّا؛ على الأقل لدى حُلفائه المُتسلِّطين على النظام الدولىِّ. وإزاء أكثر من 42 ألف شهيد، وثلاثة أمثالهم جرحى ومَفقودين، وبقيَّة السكَّان بين مُشرَّدٍ ومَطعونٍ بالجوع والأوبئة، لا يُمكن إطلاقًا الحديث عن مكاسب ماديَّة أو معنويَّة للبشر والحجر. عادت القضيَّةُ للوراء كثيرًا، ربما لِمَا قبل «أوسلو» ورجوع مُنظَّمة التحرير للنضال على تراب الوطن. ومن قَبيِل السخف محاولة القول إنَّ 1200 قتيل منهم أكبرُ وأهمُّ من تلال الأشلاء مِنَّا، أو أنَّ ارتباكَ الاقتصاد يُوازى تحطيمَ القطاع وجَعلَه بيئةً غير صالحةٍ للحياة؛ مع ما وراء هذا من غطاءٍ يتمتَّعُ به العدوُّ، فيضمنُ له تعويضَ خسائره المدنيَّة والعسكريَّة أوَّلاً بأوَّل، بينما لا يُعرَفُ حتى الساعة كيف سيكونُ «اليوم التالى» فى غزَّة، وما آفاق إعمارها وانتظام أحوالاه، بينما يتوقَّفُ تحديدُ المانحين على طبيعة صفقة التهدئة، وضمان ألَّا تكونَ الأموالُ حطبًا مُؤجَّلاً فى جولةِ احتراقٍ مُقبِلَة.
انبنى التصوُّر العَمَلانىُّ للهجمة على أدوارٍ مُتخيَّلَة من محور المُمانعة. بدا ذلك واضحًا من بدايات الخطاب السياسى لحماس، ومُطالبة مُتحدِّث القسَّام المُلَثَّم لإيران بالتدخُّل، أو تنشيط أذرع الشيعيَّة المُسلَّحة. ومنذ استُدْعِىَ الراحلُ إسماعيل هَنيَّة لطهران، وتعرَّض للتوبيخ على تكرار النداءات؛ تأكَّد أنَّ رأسَ المحور سينأى بنفسه، وأقصى ما قرَّر تقديمَه أن يدفعَ «حزب الله» من جِهة لبنان، فيما أسماه حسن نصر الله «حرب المُساندة والإشغال». وهكذا أيقن نتنياهو أنه يخوضُ نِزالاً غير مُتكافئ، وستُترَك له مهمّة التصعيد؛ ليُقرِّرها بحسب الإمكانية والاحتياج. وقد ذهبَ إليها فِعلاً بعدما فرغَ من غزَّة؛ إذ استدار ناحية الضفَّة الغربيّة ليُؤمِّنَ ظهرَه، ثم انتقل للشمال مُمعِنًا فى التنكيل بالحزب. وما أحرزه خلال سنةٍ لم يَرِدْ على ذهنِه فى أكثر مَناماتِه خيالاً؛ ناهيك عن أن يُحصِّلَه بتلك السهولة. يكفى أنه ما طاله من اللبنانيين فى 2006، ولا كان عارفًا كيف سيقصُّ ريشَ «حماس» بعدما أنجز غايته من الاستثمار فيها؛ فتآكلت بيئةُ النضال وضَمُرت السلطةُ ومرافقها، ومعها ما تبقَّى من ميراث أوسلو ومكاسبه الزهيدة. واليومَ، والصراعُ يدخلُ عامَه الثانى؛ صار طامحًا بدرجةٍ أكبر من أيَّة لحظة سابقة فى إعادة ترسيم الخرائط؛ لا على صعيد الفصائل الغزِّيّة فحسب، أو إنهاء حالة التعايش مع المخاطر الوُجوديَّة المُرعبة شمالاً؛ إنما لجهةِ استجلاب إيران للساحة، والقضاء على عناصر قوَّتِها واحدًا بعد آخر، أكان فى الأذرُع الطويلة، أم فى المشروع النووى، وربما التطلُّع لإطاحة النظام، وإعادة الجمهورية الإسلامية لحالٍ شبيهة بزَمَنِها البَهلَوىِّ ونكهتِها الغربية الفاقعة.
عملٌ مثل «طوفان الأقصى» لم يُطبَخ بِلَيل، وفى أبسط التقديرات سبَقَتْه استعداداتٌ مُكثَّفة لسنواتٍ، وربما اكتملت خطَّتُه قبل أن يعود نتنياهو للحكومة مُجدَّدًا. وإذا تقبَّلْنَا صَوابِيَّة الفكرة من جهةِ المُقاومة المشروعة؛ بعيدًا من الملاحظات الأخلاقيَّة، فالتوقيت لا يُمكن أن يكون سؤالاً هامشيًّا. وليس صائبًا على الإطلاق أن تُطلَقَ هجمةٌ بهذا الحجم قبل سنةٍ من الانتخابات الأمريكية، فضلاً على أن تكون فى ولاية بايدن، صديق إسرائيل التاريخىِّ المُتفاخر دومًا بصهيونيَّته. المُبرِّرُ الوحيد هُنا أنَّ «السنوار» أطلقَها على استعجال، بعدما تزايدَ الحديثُ عن اقتراب التطبيع بين الرياض وتل أبيب، مع عجز طهران عن المُناكفة بأثَرِ اتفاقها مع المملكة فى بكين. لكنَّ الأسبابَ لا محلَّ لها فى تقدير النتائج، وقد كان الهامشُ ضَيِّقًا للغاية بين استنفار البيت الأبيض، وأن تتضاءل خياراتُه مع بروز ترامب واشتعال المُنافسة. وبطبيعة الحال؛ كانت واشنطن حاضرةً فى الخطَّة الحماسِيِّة، وربما تصوُّروا أنها ستسعى لتجفيف بِركَة الدم سريعًا، اتِّصالاً بالحسابات الانتخابية، وبالمصالح الاستراتيجية فى الإقليم، وما تُلاقيه مع روسيا على الجبهة الأوكرانية؛ لكنها بدلاً من التدخُّل الحاسم أو التلطيفىِّ، تلاقت على رؤية نتنياهو، وانتقلت سريعًا من لَجْم التصعيد إلى إدارة المواجهة الشاملة، وهى اليومَ أقربُ ما يكون لطرفٍ مُباشر فى الحرب ومُلحقاتها، ليس بالإمداد والتسليح وإسناد الصهاينة فحسب؛ إنما بالجاهزية الكاملة للصدام مع إيران فى كلِّ الساحات.
تُصبحُ الحربُ انتحارًا إذا لم تكُن قادرًا على النصر، أو لا تعرفُ كيف تخسر بتعقُّلٍ وانضباط. أمَّا أخطرُ ما فيها فأنْ تقرأَ السياق على غير حقيقته، وتبنى تقديراتك الاستراتيجية على ضلالاتٍ وأوهام. لقد أسَّست إيرانُ «محورَ المُمانعة» على صِفَة الدفاع المُتقدِّم، واستثمرت فيه ليُدافِعَ عنها لا العكس؛ ولن تُضحِّى بأُصولها الباقية إنقاذًا لاستثمارات عابرة. وإسرائيلُ لها دورٌ مُطابِقٌ فى الوعى الغربى، مع فارق أنها أقوى وأكثر استعدادًا، وأنَّ حُلفاءها ثابتون فى دعمها، وليسوا مُضطرِّين للتخلِّى عنها أو التضحية بها. هكذا اختلَّت المُعادلةُ من أوَّلها، لأنَّ التصويبَ على دولة الاحتلال ظاهرُه أصالةُ الحرب، وباطنُه الوكالة عن الولايات المتحدة وحلفِها الأطلسى، أى أنَّ طهران رأسًا برأسٍ مع واشنطن، لا تل أبيب، وهذا مِمَّا يقضى بالخسارة حتمًا، أو يفرضُ الانسحابَ الاضطرارىَّ فى نهاية المطاف.
حتى لو كانت النِّيّةُ حَسِنةً؛ فقد انقلب «الطوفان» بعد سنةٍ إلى نكبةٍ ثانية. كانت الإشاراتُ واضحةً على طموح «السنوار» فى مُحاكاة انتصار المصريِّين فى 6 أكتوبر، بدءًا من اختيار يوم السبت، وفى أجواء أعيادٍ يهودية، وصيغة الهجمة المُتجاوزة للموانع الصناعيَّة؛ لكنه لم يأخذ التجربةَ بحَقِّها. وبعيدًا من الأسباب، وهل يستلهمُ التجربةَ الوحيدةَ الناجحة، أم يُحاولُ مُنازعتَها فى القيمة والأثر؛ لخَلقِ سَرديَّة أُصوليَّة لا تنفصل عن مُناكفة دول الاعتدال؛ فإنه ما أصاب شيئًا منها على الإطلاق، ولهذا أسبابٌ نفسيّة وموضوعية عدّة. فارقُ السادات أنه كان زعيمَ دولةٍ لا ميليشيا، تُحرِّكه عقيدةٌ وطنيَّةٌ صافيةٌ من شوائب الأيديولوجيا والتحالُفات المشبوهة، وقد وطَّد جبهتَه الداخليَّة وحزامَ إجماعها الناعم قبل أن يتوسَّل القوَّةَ الخَشِنة. الآن؛ يبدو المستقبلُ غامضًا، وأسوأ مِمَّا من الماضى. أقصى ما تتمنَّاه «حماس» أن تعود عامًا ويومًا، ولو على جُثَثٍ وطَلَل. إسرائيلُ تضرَّرت فى الأمن والاقتصاد؛ لكنها أفضلُ فى كلِّ ما عداهما، وإزاء تفاوُت أهداف الطرفين، يبدو أنَّ الحربَ مُستمرّةٌ سنةً إضافيَّة، أو على الأقلَّ لحين الاستقرار على ساكن البيت الأبيض. وحال عبور «هاريس» فإنها ستجدُ أوضاعًا جيوسياسية مُرتَّبة سَلَفًا، وستستهلك شهورَها الأُولى فى مُقايضة نتنياهو، لتقبلَ النزالَ الطويل بدلاً من الصدام الشامل؛ أمَّا لو تخطّاها «ترامب» فستكون المنطقةُ على موعدٍ أسوأ؛ وقد دعا لقصف المنشآت النووية الإيرانية، ويطمحُ فى توسعة إسرائيل كما قال.
استنبط الصهاينةُ «عقيدةَ الضاحية» من جولة 2006. طوّروا أدواتهم، وما زال الخصوم على قديمهم. لم تخُضْ إسرائيلُ حربين مُتشابهتين إطلاقًا؛ بمعنى أنها تستفيدُ من الدروس وتُطوِّرُ التكتيكات. وقد أُعيدَ تفعيلُ استراتيجية الإبادة وحَرق البيئة الحاضنة بدلاً من الاكتفاء بالمُقاتلين، وها هى تُطبِّقُها مُجدَّدًا فى منشأها الأوَّل، ولم يَعُد «حزب الله» قادرًا على الصمود أو النجاة من مصيرٍ أقلّه الضمور والانطفاء. وبينما يصعُب على أحد الطرفين الوصول للنصر الكامل؛ فإنَّ بقاءَ الصراع على صُورته القائمة يصبُّ لصالح الأقوى والأكثر قدرةً على الهيمنة وتعويض الفواقد. نتنياهو أفضلُ من قبل سنة، وائتلافُ الليكود يزدهرُ بالقياس على ما كان عقب تشكيله، وحتى مُعارضوه يتلاقون معه على خيار الاصطدام بإيران، والدعوة لإعادة بناء مُعادلة رَدعِها بالحديد والنار. تغيّرت عقيدةُ الاحتلال تمامًا، وما عاد يتهيَّبُ الحروبَ الطويلة ومُتعدِّدة الجبهات، ما يُبشِّر بنزالاتٍ كاسرة فى الحال والاستقبال.
الأخلاقُ نِسبيَّةٌ؛ وهذا ما لا يَعيه الأُصوليِّون. إذ يرونَ القِيَمَ دومًا من منظورهم فحسب؛ وهكذا تعتقدُ النازيَّةُ الصهيونية أنها على صَواب، وتُنافِسُها الشيعيَّةُ المُسلَّحة، ويتخادمان ولو دون اتِّفاق. وبينما تقولُ أُصوليَّتُنا إنها تُنافح عن «وَقفٍ إسلامى» وتسعى لإلقاء إسرائيل فى البحر، تُمارسُ أُصوليَّةُ العدوِّ كلَّ ما تنطوى عليه الفكرةُ، وتُبرِّر مواقفَها بصراع الأيديولوجيا والهُويَّات الحارقة. هكذا نقولُ ويفعل، ونستعرضُ العضلات الخائرة على بَلطَجىٍّ وَقِح؛ فنُعينُه على حربِ الذرائع، ونعودُ وحدَنا بأنفٍ نازفٍ وجَسَدٍ مُثخَنٍ بالجراح. وهذا ما جرى فى الطوفان؛ إذ أخرجت «حماس» صُوَرًا للهجمة على صِفَة التَّبَاهى؛ فارتدَّت دعاياتُها عليها إبادةً وتنكيلاً. تجمَّد الزمنُ كرُكام غزّة، وسالت الجُغرافيا كدماء أهلها، ولدى الطرفين طموحٌ لإعادة رسمِ الخرائط؛ ولو على خلاف ما تقضى به حقائقُ الأرض والتاريخ. صار المشهدُ مأساةً كاملةً، ولا عُذرَ للقاتل فى جريمته، كما لا وجاهةَ لمُجافاة فضيلة المُراجعة والاعتذار وتقويم مسارات الفصائل بداعى «فقه الأزمة»، أو تحت شعار ألَّا يعلو صوتٌ فوقَ صوت المعركة. ليس التوقُّف آخر المشكلات العالقة؛ إنما أنَّ ما حدثَ قابلٌ للتكرار دائمًا، طالما لم تتبدَّل الرُّؤى، ولم تُعِد فلسطين بناءَ أجندتها الوطنيَّة الجامعة، وتُعيِّن العدوَّ على نفسها بأن تُفرِّط فى عناصر قوَّتها، وفى فرصة أن تُوظِّف مَواجِعَها الإجباريَّة لصالح السياسة وتحصيل المُكتسبات. نتذكَّرُ اليومَ ونبكى؛ لكنَّ الذكرى التى تنفعُ المؤمنين تبدأ وتنتهى من الوقوف على الخطأ، ومن استيعاب الدروس؛ وضمان ألا نُصوِّب نيرانَنا الصديقة على صدورنا، وألَّا نُلدَغَ من جُحْرِ الأعادى كلَّ مرّةٍ كسابقتها؛ كأننا نهيمُ عِشقًا بالنكبات المُتكرِّرة، ولا نعرفُ سوى أن نبدأ الجولات كلَّها من الصفر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة