لم نكن أطفالا عندما قامت الحرب وعبرنا القناة، كنا نودع طفولتنا إلى الشباب، بعد سنوات لمحنا فيها الحزن على وجوه آبائنا وأمهاتنا، رأينا الترقب والانتظار فى العيون والقلوب، ولهذا بدا يوم العبور بفرحته كأنه يوم قيامة، وما زلت أرى الفرحة فى وجه أبى، وهو يصعد على السطوح ليبحث عن علامات الانتصار، بعد سنوات من الانتظار.
يوم العبور كان كل شىء يسير طبيعيا، ذهبنا للمدرسة ورجعنا اتغدينا ونحن نتابع بيانات أولية عن اشتباكات، حتى كان البيان السابع، الذى يحمل بشرى العبور، صحيح أن أجواء الحرب لم تغادر البلد طوال السنوات ما بعد 5 يونيو، والمظاهرات بالجامعات، تطالب الرئيس السادات بالحرب، وتهاجمه وتنتقده، وتتوالى السنوات، عام الضباب وعام الحسم لم يأت، والرئيس السادات يتحمل كل هذا وهو يجهز للحرب بكل قوة وتخطيط واستعداد وصمت، أوحى بأن قرار الحرب ليس قريبا.. لم يعط أى انطباع بأنه سوف يفعلها، بجانب أنه قضى سنواته الأولى فى مواجهة تشكيك ومواجهات لتثبيت سلطته، وقد جاء بعد أسطورة ناصر، الذى ترك أثرا وجمهورا يشعر بالخوف والشك بعد ارتباطه إنسانيا بعبدالناصر.
السادات بقى تحت اختبارات القوة لسنوات، لهذا جاء بيان العبور، ليرسم صورة جديدة للرئيس السادات لدى الآباء الذين عاشوا انكسار الهزيمة، فقد كان السادات ينتزع شرعيته، ويكتسب بخطاباته المميزة صورة جديدة، وهذه الخطابات كان السادات يحرص على أن تكون مصاغة بأسلوب فيه من المقولات والعلامات، وهى عبارات ـ للمفارقة ـ اتخذت مكانها بعد رحيل السادات، بجانب أن سنوات حكمه بقيت محاطة بالتحديات والصدمات الاقتصادية والسياسية، ولم تخرج البلاد من مسؤوليات تكاليف حروب غالية الثمن، إلى استعجال جنى الثمار، وهى سنوات تحتاج إلى دراسة وتحمل مفاتيح ما جرى بعدها، أيضا أهمية إعادة الاعتبار للرئيس السادات الذى تحمل كثيرا وتولى وحكم فى فترة من أكثر الأوقات صعوبة وقسوة من دون أن يعيش ليرى نتاج جهده.
مع فرحة الأحباء والأمهات، وكل المصريين فى الشوارع والاحتفاء بالجنود والضباط العائدين فى إجازات خاطفة، أو الشهداء الذين كانت البلدة كلها تخرج لوداعهم، كان هناك من احتفل وفرح أفراحا مضاعفة بالعبور، هم المهجرون من مدن القناة، الذين تم نقلهم من مدن القناة بورسعيد والسويس والإسماعيلية إلى محافظات الدلتا، كان أهالى بورسعيد انتقلوا إلى مدرستنا السابقة، التحرير، وانتقلنا إلى مدرسة الثورة لفترتين، بعد تخصيص مدارس من البلدة لاستيعاب آلاف المهجرين من أهالينا فى القناة، تعرفنا عليهم واختلطنا بهم واختلطوا بنا فى المدارس والبيوت، ومن أصدقائى كان نادر وممدوح، تزاملنا وتبادلنا الزيارات.
فرح مئات المهجرين الذين استقبلناهم فى بسيون بالغربية، من بورسعيد والسويس، سرعان ما اندمجوا فى البلد، وظلت صداقتى مع نادر وممدوح ومحمد وغيرهم، وظلوا يتابعون خطوات تحرك الرئيس السادات لافتتاح قناة السويس عام 1975، حتى بدأت عملية الإعمار، وعادوا إلى بيوتهم.
وما زلت أتذكر فرحة ورقص نادر وممدوح بعد بيانات العبور، وأنه يقرب موعد عودتهما لبورسعيد، بالرغم من أنهم لم يكونوا ضيوفا، لكنهم فرحوا وسعوا للعودة إلى بيوتهم، هناك قليلون بقوا لسنوات أخرى أو عادوا أو تزوجوا وعاشوا، لكن بقيت أيام العبور فرحا وسعادة لآباء وأمهات ومئات المهجرين الذين عادوا لبيوتهم، وبقيت مدن القناة رمزا لصمود المصريين وقدرتهم على تحمل الهزيمة، واستعادة أيام الانتصار.
كل لحظة من هذه الأيام تحمل قصة وذكرى، ودرسا للحاضر والمستقبل، كان المصريون قلبا واحدا فى كل مكان يساند ويحتضن ويرقص، وهو يرى أبناءه وآباءه يعبرون المستحيل إلى النصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة