ارتبطت هيبة الدولة، بما تحظى به من نفوذ، في محيطيها الدولي والإقليمي، بينما تبقى الأدوات التي يمكن من خلالها بناء النفوذ الدولي متغيرة، بحسب المعطيات المتاحة عالميا، وهو ما يبدو على سبيل المثال، في الاختلاف الكبير بين الحقبة الاستعمارية، من جانب، والنظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من جانب آخر، والنظام أحادي القطبية، الذي أفرزته الحرب الباردة من جانب ثالث، وهو ما يعكس العديد من المتغيرات التي تشهدها أدوات الهيمنة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، بحسب الظروف العالمية، وقدرات القوى المسيطرة على العالم، على تقديم رؤى خاصة بها، وتعميمها على العالم، وهو ما بدا في الحقب الثلاثة المذكورة.
فالحقبة الاستعمارية ارتبطت بالقوة العسكرية التي حظت بها الامبراطوريات العظمى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، والتي اعتمدت في المقام الأول على انتزاع سيادة الدول، لتصبح تابعة لها، وبالتالي تحقيق التوسع الجغرافي، بينما كانت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قائمة في الأساس على صراع الأيديولوجية بين القوى المنتصرة في الحرب، بين الرؤى الاشتراكية السوفيتية، والرأسمالية الأمريكية، وما ارتبط بهما من مفاهيم، في حين كانت الهيمنة الأحادية، هي حقبة تعميم رؤى المعسكر الغربي لتصبح ذات صبغة عالمية، باعتباره المنتصر في الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينات من القرن الماضي، وهو ما بدا في محاولات الغرب لفرض مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، عبر ممارسة كافة أشكال الضغط، بين خطابات الشجب والإدانة، مرورا بالعقوبات، وحتى الانغماس في حروب عسكرية.
ولعل الحديث عن النفوذ، في المرحلة الراهنة، والتي تشهد لحظة مخاض، ربما تسفر عن تغيير في خريطة القوى الدولية الحاكمة للعالم، يبدو الصراع المرتبط بالحقبة الجديدة، بين مفهومي الأيديولوجيا من جانب، والوطنية من جانب آخر، في ضوء صعود حركات اليمين المتطرف، وتغلغلها في العديد من دول العالم، وهو ما يبدو في دول أوروبا الغربية، والتي باتت تشهد بزوغا يمينيا، مدعوم بالحالة الأمريكية التي تهيمن عليها الظاهرة "الترامبية"، نسبة إلى الرئيس السابق دونالد ترامب، والمرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة وأن تلك الظاهرة وصعودها ليس مرتبطا في واقع الأمر بفوزه على غريمته الديمقراطية كامالا هاريس من عدمه، في ضوء ما يحظى به من شعبية كبيرة، ناهيك عن الانقسام الكبير في الشارع الأمريكي، وهو ما يعكس حالة من عدم الاستقرار، ربما تطول حال فوز أي من المرشحين.
إلا أن الصراع بين الأيديولوجيا والوطنية، ربما يتجلى بصورة أوضح في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء الحرب الراهنة، التي يشهدها الإقليم منذ عام مضى، والتي تمثل نموذجا واضحا لتلك الحالة من الصراع الجديد، وربما بصورة أكبر في الموقف الذي تتبناه إسرائيل، تحت إدارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والذي يحمل وأعضاء حكومته لواء اليمين المتطرف، في ضوء الموقف التصعيدي غير المسبوق، والذي يبدو في الانتهاكات الكبيرة المرتكبة في قطاع غزة أولا، ثم التحول نحو توسيع نطاق الحرب نحو دول أخرى، على رأسها لبنان وسوريا والعراق، مع دخول إيران على خط الأزمة، وهو الأمر الذي يحمل تماهيا بين مصلحة نتنياهو الشخصية، في ضوء رغبته في الاحتفاظ بالسلطة، وبالتالي يبقى إطالة أمد الحرب السبيل لتحقيق هذا الهدف، من جانب، ورؤى اليمين، وخصوصا أعضاء حكومته، سواء بن غفير أو سموتيريش، واللذان سبقا لهما وأن هددا بالانسحاب من الائتلاف الحكومي حال الرضوخ إلى وقف إطلاق النار.
والمفارقة الملفتة، في هذا الصدد، تبدو في غياب البعد الوطني، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها حالة السخط الشعبي، تجاه استمرار الحرب، وهو ما يبدو في الاحتجاجات التي شهدتها شوارع تل أبيب ضد الحكومة الإسرائيلية، بالإضافة إلى الفشل الذريع في تحقيق أهداف المعركة، وعدم القدرة على حسمها في مواجهة ميليشيات مسلحة، وهو ما يعني كسر هيبة العسكرية الإسرائيلية، في حين يبقى تراجع نفوذ الدولة العبرية، خاصة بين حلفائها، وهو ما يبدو في سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين من قبل دول غربية معروفة بدعمها للاحتلال، بالإضافة إلى دعوات أوروبية بحظر تصدير السلاح لها، ناهيك عن التوتر الملموس مع إدارة بايدن، والتي تعد الداعم الرئيسي لها، وهو ما يمثل ضررا بالغا للمصلحة الوطنية، تعكس تضاربا بينها وبين بعدا الرؤية الأيديولوجية للفئة الحاكمة.
ومن أبرز سمات الصراع الجديد بين الأيديولوجيا والمصلحة الوطنية، هو طغيان الطبيعة الأهلية، في ضوء ما يترتب عليه من انقسام، يتجاوز العلاقة التقليدية، والمعتاد عليها بين السلطة والمعارضة، خاصة مع توجهات اليمين المتطرف التي لا تتماهى في جزء كبير منها مع مفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة، وهو ما يبدو في النموذج الإسرائيلي، من خلال تشبث نتنياهو بالبقاء في سدة الحكم لأطول فترة ممكنة، حتى وإن كان ذلك على حساب بلاده ومواطنيه، أو حتى الرهائن المحتجزين لدى الفصائل، بل وبدا كذلك من قبل في الحالة الأمريكية، مع رفض ترامب لما آلت إليه الانتخابات الأخيرة، والتي أسفرت عن فوز منافسه آنذاك جو بايدن، وهو ما أدى إلى مشهد اقتحام الكونجرس، والذي يمثل نقطة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة.
وهنا يمكننا القول بأن الرؤى الأيديولوجية تحولت من مجرد أداة لخدمة المصالح الوطنية، عبر تعزيز نفوذ الدولة، وهو ما بدا في حقبتي الحرب الباردة، ثم الهيمنة الأحادية، نحو حالة أشبه بالصراع، جراء التعارض بينهما، في اللحظة الراهنة، وهو ما يمثل خطورة بالغة، جراء ما قد تسفر عنه من انفجار القوى المهيمنة، سواء دوليا أو في مختلف أقاليم العالم من الداخل، وهو ما يعكس تراجع التأثير التي تحظى به تلك الدول، خلال السنوات الأخيرة.