قبل أقلِّ من سنةٍ وقفَ الرئيسُ السيسى بين رجال القوات المسلحة، فى اصطفاف الفرقة الرابعة المُدرَّعة بالجيش الثالث الميدانى فى السويس. كانت الأجواء على الجبهة الشرقية آخذةً فى الاشتعال بين فصائل المُقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلى، والجهودُ المصرية على أشُدِّها لإحداث اختراقٍ سياسىٍّ وإنسانىٍّ يُوازن الأوضاعَ المُحتدِمة، ويتصدَّى لمُخطَّطات اليمين الحاكم فى تل أبيب. والمشهدُ العسكرىُّ الملىء بالرسائل وقتَها، سبقَتْه تحرُّكاتٌ دبلوماسيَّة على أرفع المستويات، ورسائلُ صريحةٌ وشديدة القوَّة وجَّهتها القيادةُ السياسية فى حفل تخرُّج الأكاديمية العسكرية العام الماضى، وبعدها فى قمَّة القاهرة للسلام، وعشرات الاتصالات واللقاءات التى ازدحمَ بها الجدولُ الرئاسىُّ، وأفضت فى خُلاصاتها إلى إزاحةٍ كاملة لسيناريو التهجير الذى راهن عليه نتنياهو وائتلافُه فى أيَّام العدوان الأُولى، وإلى تقديمٍ واسعٍ لعنوان «حلِّ الدولتين» بعدما غاب طويلاً عن خطابات الطرفين، وتجاهلته أنظارُ العالم بقُواه الكُبرى ومُؤسَّساتِه الناظمة للعمل الدولىِّ مُتعدِّد الأطراف.
منذُ اللحظة الافتتاحيَّة بعد «الطوفان» سجَّلت مصر موقفًا واضحًا، ينحازُ للحقوق الفلسطينية العادلة، ويُشدِّد على أنه لا حلَّ بالقوّة. لقد تصدَّت لارتداداتٍ لم تكُن مسؤولةً عنها، غلَّفَتْها دعاياتٌ إسرائيليَّة من جُملة محاولات حكومتِها وأجهزتها الأمنيّة للهروب من إخفاقها الكبير، لعلَّ أبرزَها التشدُّد فى مَنع الجهود الإغاثية، مع زَعمٍ بأنَّ معبرَ رفح بكامله تحت الولاية المصرية، بينما لم تتوقَّف من جانبها عن قصف مُحيطِه والطُّرق المُؤدِّية إليه من جانب غزَّة. وإذ تكفَّلَتْ المُؤسَّسات المصرية الظاهرةُ والغاطسةُ بإدارة المواجهة فى الجانب الدعائىِّ؛ فلم تُقصِّر من أعلى مستوياتها لأدناها فى العمل الناعم أو الرسائل الخَشِنَة بالتوازى، وكان الغرضُ أنْ يتحقَّق التقويضُ المُبكِّر للسرديَّة الصهيونية، جنبًا إلى جنب مع فتحِ منافذ لإنجاز الواجبات الإغاثيَّة المطلوبة، وتنشيط إمكانات التوصُّل إلى توافُقاتٍ تسمحُ بلَجْم الجنون المُتصاعد، أو على الأقلِّ تستكشفُ فُرَصَ الوصول إلى تسويةٍ عاقلة، مع الالتزام الدائم بألَّا تفضى المُغامرة إلى تضييع القضيَّة أو إعادتها عقودًا للوراء، ولا التضحية بأُصولها الكُبرى تحت سقف الاستجابات الانفعالية، أو فتنة الشعبويَّة والغرام المُلتاث بالشعارات غير المُثمِرَة.
ألغَتْ مصرُ وقتَها، بتوافُقٍ أردنىٍّ فلسطينىٍّ، القمَّةَ التى كانت مُقرَّرة سلفًا فى عمّان مع الرئيس الأمريكى جو بايدن، على أثر قصف المستشفى الأهلى «المعمدانى». واستقبلَتْ بعد ساعاتٍ وفودًا من عشرات الدُّوَل، فى أسرع وأوسع فعَّاليّةٍ دوليَّة تُنَظَّمُ بشأن الأزمة المُتفجِّرة حديثًا، ويومَها أذعنَتْ تلُّ أبيب بعد عَنَتٍ ومُماطلة؛ فتولَّتْ الفِرَقُ المصريَّةُ تأهيلَ الجانب الفلسطينىِّ من رفح، وبدأ تدفُّق المُساعدات. وفى غضون شهرٍ تقريبًا أُبرِمَت الهُدنةُ الأُولى والوحيدة حتى الآن، وسمَحَتْ بنحو أُسبوعٍ من الهدوء، مع تبادُلِ حِصَّةٍ من الأسرى والمُحتجَزين لدى الجانبين. وقد يصحُّ القول إن اتِّفاق نوفمبر تأسَّس على خُطوات القاهرة المُتتابعة، مع غيرها من المواقف والإجراءات، أو يختلفُ البعضُ على لَضْم الحوادث فى نسيجٍ واحد؛ إنما يظلُّ التقديرُ المنطقىُّ قائمًا بشأن السياقيَّة العريضة التى أنشأت الأزمةَ داخل فلسطين، وحملَتْ بشائرَ تفكيكها من المُحيط القريب، قبل أن تستفحِلَ المُعضلاتُ لاحقًا بأثر اللوثة الإسرائيلية، وفجاجة الانحياز الغربى، ودخول أطرافٍ إقليميَّةٍ على الخطِّ استثمارًا لحالة الهياج، وسَعيًا لصَرفِها فى رصيد صراعاتٍ أكبر وأشدّ راديكاليَّةً مِمَّا تحتمِلُه البيئةُ الفلسطينية.
مشهدُ السنة الماضية تكرَّر مُجدَّدًا. ينتقلُ الرئيسُ من حفل تخرُّج الدفعات العسكرية الجديدة قبل أيَّام، إلى اصطفاف الفرقة السادسة المُدرَّعة فى الجيش الثالث الميدانى بالإسماعيلية. والرسائلُ المُعلَنَة والمُضمَرة لم تختلِفْ عمَّا فات، بفارقِ أنَّ الصورةَ بدَتْ واضحةً للغاية مُقارنةً بالحالة السالفة. وحشيَّةُ الاحتلال لم تكُن ناتجةً عن الغيظ ورغبة الثأر من الطوفان فحسب؛ واشتباكُ جانبٍ من الطَّيْف الأُصولىِّ فى المنطقة ليس خالصًا لوَجه فلسطين، والصراعُ العادلُ فى جوهره، يُرادُ له أنْ يتزحزحَ، بالأصالة أو الوكالة، إلى مُنازعةٍ عقائديَّةٍ بين مَشروعين مُتصادِمَيْن فى المنطقة. وهُنا تتعاظمُ مسؤوليَّاتُ الدُّوَل الإقليميَّةِ الوازنة وأدوارُها، انفتاحًا على باقةٍ من الأهداف التى يتعيَّن ألَّا يتقدَّم أحدُها على الآخر: السعىُ لإنقاذ المنكوبين وانتشال القضية من وَهدَتِها، بالتزامن مع مُواصلة جهود تأطير الحرب وتدقيق مراميها الخَفيَّة، وألَّا يتحقَّق لأحد الطرفين ما يُراهن عليه نزوعًا إلى المُواجهة الشاملة، على أمل أن يحترقَ فيها الجميعُ، أو يخرج من غابة النار سالمًا، بالمُصادفة أو ضآلة الحجم. وفى ذلك تتساوى أهميَّة الفاعليَّة السياسية، مع الدأب الدبلوماسى، وضمان الجاهزية العسكريَّة الدائمة، بحيث تتكاملُ جهودُ الحوار مع رسائل الرَّدع بمعناها المُزدَوَج: القُدرة على تغيير المُعادلات بالقوَّة لو فرَضَها الظرفُ، وبقاء الحزام العضوىِّ لفلسطين آمنًا؛ بما يُقوِّضُ حسابات طَرَفَى الحرب فى الميدان والسياسة، انطلاقًا من حقيقة أنَّ الهيمنةَ الكاملةَ لن تتأتَّى لأحدهما، طالما أنَّ فريقًا ثالثًا يقفُ على الثغور؛ جاهزًا لإحباط مُخطَّطات الرابح منهما، أو لفَرْضِ رُؤاه عليهما حالما يخسران معًا.
معنى الرَّدْعِ لا يتطلَّبُ استخدامَ القوَّة بالضرورة، أو يتضادّ أصلاً مع استخدامها. فالفكرةُ فيه أنك قادرٌ على تحريك التوازُنات القائمة عندما تأتيك الفرصة، أو تستشعر وجوبيَّة ذلك. وإذا كانت مصرُ ثابتةً على خطابِها المُعتدِل، وتلعبُ أدوارًا تَهدَوِيَّة لغايةِ امتصاص منسوب السخونة العالى فى الجوار؛ فإنها فى فعاليَّاتها المُخطَّطة بعنايةٍ، كما فى تفتيش الحرب أمس، تصنعُ مشهدًا دراميًّا تتداخلُ فيه التفاصيلُ القديمة والجديدة، وتكتملُ معانيه من مجموع الصورة الكاملة. إنها إذ تستعرضُ جانبًا من قوَّتِها الصُّلبة فى نشاطٍ دَورِىٍّ من أنشطة مؤسَّستِها العسكريَّة، لا يُمكن إغفالُ عاملِ التزامُن بين الحدث وذكرى انتصارات أكتوبر. والمعنى؛ أنَّ المشهدَ الذى كان قبل نصف القرنِ تقريبًا، يقومُ اليومَ مكان التفعيل المادىِّ للرسائل الخَشِنَة، فلا نكونُ فى حاجةٍ إلى الزَّمْجَرة والصِّياح، ولا إلى الوصول لحافَّة التصعيد المُباشر. السببُ الأوَّلُ أننا على الحقيقة لَسْنا طرفًا عُضويًاّ فى الجولة القائمة، بالباعث الأيديولوجى أو الاعتبارات الحركيَّة؛ ثمَّ إنَّ حضورَنا فى دوائر الأمن القومىِّ الواسعة لم يكُن محلَّ شَكٍّ إطلاقا، حتى عند أشدِّ لحظاتنا ضعفًا وهشاشةً فى 2011 وما بعدها، بينما تتكفَّلُ بَصمَتُنا الثقيلةُ على الذاكرة العِبريَّة بحَمْل الإشارات التى تعجزُ صواريخ المُمانَعة عن حَملِها، أىْ أنَّ التاريخَ يتجسَّدُ حاضرًا فى الجغرافيا، ويصيرُ قادرًا بمُجرَّد الاستدعاء المُناسباتىِّ المحفوف بعلاماتٍ ماديَّة، على أن يُحدِثَ آثرَه القديمَ بالصورة التى كان عليها فى وقوعه الأوَّل، وبهذا تكونُ اللغةُ الدبلوماسيَّةُ المُتحَفِّظَة تعبيرًا عن قوَّةٍ كامنة؛ بأكثر مِمَّا تُقرَأُ على معنى الحياد أو تجاوُزِ المخاطر القائمة والمُحتمَلَة.
عَملِيًّا، يسقطُ الرَّدْعُ عندما تُضطَرُّ إلى تسييجِه بالنار. الفلسفةُ كلُّها أنْ يظلَّ العدوُّ مُرتدِعًا عن التفكير فى كَسر الخطوط الحُمر، أو التجرُّؤ على اختبار حدود التوازُنات القائمة بين الطرفين. فعلَتْها حماس فى «طوفان الأقصى» على خلاف ما توهَّمَتْ إسرائيل، وعندما ردَّتْ الأخيرةُ بعدوانٍ غاشم على القطاع، كانت تُعِينُ مُقاتلى القسَّام على تهشيم ما تبقَّى من حواجز نفسيَّةٍ؛ إذ النجاحُ الكاملُ فى ترميم المُعادلة الردعيَّة يقتضى أن يقتنعَ الطرفُ الآخرُ بالخُطورة أو انعدام الجدوى؛ لكنه بمُجرَّد أن يرُدَّ من جانبه، وعلى أيَّة صورةٍ، فإنه ينسفُ فاعليَّة الإرعاب ويجرُّ عَدوَّه مُضطرًّا لجولةٍ ثانية. يحدثُ ذلك بالضبط على الجانب المُقابل لغزَّة، إذ تطرَّفت إسرائيلُ فى التحرُّش بإيران؛ طَلبًا للحرب أو طمعًا فى دفعها وراء حدود جديدة للرُّعب والتحجيم؛ وإذ رَدَّت زعيمةُ الأُصوليَّة الشيعية على غريمتها التوراتيَّة بسِربٍ من الصواريخ الباليستية خلال الأسبوع الماضى؛ فإنها كانت تُشدِّد على عدم انصياعِها لرغبة تلِّ أبيب، وتُجبرُها على التعقيب، ومن الرَدِّ إلى الردِّ على الردّ، قد تتزحزحُ الحساباتُ قليلاً باتِّجاه الصِّدام الكاسح أو التناوُش المحسوب؛ إنما لا يُمكن الحديثُ إطلاقًا عن أىِّ معنىً من معانى الرَّدع بين الطرفين، وبالضرورة بين مُلحقاتِهما من الحُلفاء والساحات الرديفة.
والقانونُ ليس بعيدًا من ذلك. فالمَنطقُ أنَّ الفاعليَّةَ الكاملةَ لا تحتكمُ للاعتبارات العسكريَّة فحَسْب؛ إنما تمتدُّ للقُدرة على تبريرها، ثمَّ تحصينها لاحقًا من الاستهداف السياسى. وإذ تخوضُ إسرائيلُ حربًا ظالمةً على المدنيِّين العُزَّل فى فلسطين، وتُوسِّعُ مروحةَ عُدوانِها باتِّجاه لبنان، فضلاً على أجواء التصعيد الصاخبة مع الجمهورية الإيرانية؛ فقد تعرَّت على امتداد السنةِ المُنقضية من أيَّة مشروعيَّةٍ قانونية، أو حصانةٍ أخلاقيَّة، وتكبَّدت خسائرَ فادحةً فى الصورة والمكانة؛ بحسابات الضمير والنظام الدولىِّ. والمَقدرةُ على تقويض مُمارساتِها المُنفَلِتَة هُنا لا تصحُّ أن تنطلقَ من مُلاقاتِها على أهداف التهييج والإشعال، ومُنافستِها فى تهشيم ما تبقَّى من قِيَمٍ وأعرافٍ، لن يتحقَّق الخروجُ النهائىُّ من الأزمة مُستقبلاً إلَّا بها؛ ناهيك عن أن يجرى ذلك عبر «فاعلية من خارج نطاق الدولة»، أو بأنظمةٍ مُقوَّضَة فى شرعيَّتِها واستقامة سلوكيَّاتها. والدولةُ المصريَّةُ إذ تُقدِّمُ طرحَها البديلَ، مَمزوجَة فيه السياسة بالقوَّة؛ فإنها تُؤكِّدُ أن امتلاك عُدَّة المُغامرات ليس مُبرِّرًا كافيًا لخوضِها، وأن المآلَ الأخير ينبغى أن يحتكِمَ لاعتباراتِ الحقِّ والتعايُش، بينما لا يُمكن أن تقومَ الخياراتُ الصِّفريَّةُ مقامَ البديل عن بعضها. وعليه؛ فإنها بقدرِ ما تتوحَّدُ مع الفلسطينيِّين فى أجندتهم الوطنية الجامعة، وإنْ غَيَّبَها الانقسامُ المُصطَنَع والمُغَذَّى من الخارج لعَقدين كاملين؛ فإنها تنأى بالنَّفس عن أن تكونَ طرفًا فى صناعة الفوضى، أو تشجيعها والاستثمار فيها، وتنظرُ لمُتطلِّبات السِّلم فى لبنان على الدرجة نفسِها من نظرتِها لغزّة؛ فكلاهما تُترجِمُ صورةً زاعقةً عن أثرِ الافتئات على فكرة الدولة، أكانت مُتحقِّقةً فِعلاً أمْ فى طَور التشكُّل والاستيلاد القسرىِّ، وكلاهما أيضًا تُعينُ العدوَّ فى حربِ الذرائع من حيث لا تدرى، وبحُسْنِ نِيَّةٍ أو بأغراضٍ مشبوهة، ويتعيَّنُ أن يُرفَعَ غطاءُ الإسناد عن اليمين الهائج بكلِّ صُوَرِه، إنْ بنكهةٍ دينيَّة يهوديَّة أو مذهبيَّةٍ شِيعيَّة، ولا سبيلَ لذلك إلَّا أن تتأمَّن الجبهاتُ الداخليَّة بذاتها أوَّلاً، وأن يُصارَ لمشروعٍ تحرُّرى ينبعُ من الحاجة والاقتدار، ولا يرتهنُ لحساباتٍ تُكرِّرُ أخطاءَ الماضى؛ دون استيعابٍ لما يحتشِدُ به من عِبَرٍ وانكسارات.
كان الرئيسُ السيسى واضحًا فى خطابِه أمسِ؛ لجِهَة أننا لا نحملُ أجنداتٍ خَفِيَّةً ضدَّ أحد، ولا نتطلَّعُ إلَّا لتخليص المنطقة من مِحنَتِها وُصولاً إلى السلام والمُساكَنة الهادئة. ويكتسبُ الخطابُ المصرىُّ قوَّتَه من عامِلَين مُتضافِرَيْن؛ إذ هى الدولةُ الوحيدةُ التى قدَّمَتْ تجربةً عمليَّةً لهزيمة الاحتلال الإسرائيلى، كما أنها صاحبةُ النُّسخةِ الأكثر تكامُلاً وفاعليَّة بين السياسة والسلاح. وعليه؛ فإنها تتحدَّثُ عن التسوية من واقع استشعارها لكُلفة الحرب على الأوطان والأجيال، وتُحذِّرُ من مغبَّة المُغامرات العنيفة وفى يدِها رايةُ الانتصار الخفَّاقَة منذ خمسةِ عقود. وعلى تنوُّع الخطابات الناعمة والخَشِنَة فى الإقليم؛ فإنَّ أحدًا لم يختبِر تلَّ أبيب مثلما اختبرَتْها القاهرة، وبهذا فإنها الأقدرُ حينما تُصعِّدُ لهجتَها، والأصدقُ إذ تُحافِظُ على أدائها الاستيعابىِّ الرَّصين. إنه الانطلاقُ من ثابتٍ أُصولىٍّ لم يُفرِّط فى الحقوق سابقًا؛ لكنه يطلبُها بحَقِّها، وأخذًا بكلِّ الأسباب الضامنة لاستعادتها بتَوازُنٍ بين المنافع والتكاليف، وبهذا لا يُمكن التشكيك فى عقيدتها الراسخة وقد بَرْهَنَتْ عليها عَمليًّا، ولا الانصراف عن تقييمِها لآثار النزوات والمُقامرات الغائمة؛ وقد دفعَتْ فاتورةً باهظة للخروج منها. لقد وقعَتْ أخطاءٌ سياسيَّة أفضت لنكسة يونيو، وما كانت القوَّةُ وحدها كافيةً للتداوى منها؛ إنما حضرَتْ السياسةُ أيضًا على معنى «دَاوِنى بالتى كانت هى الداء». وبعيدًا من سيولة العاطفة والخطابات فى كلِّ البيئات؛ فإنَّ الحروبَ مهما طالَتْ ستقودُ حتمًا لطاولات الحوار.
فى تخريج الدفعات العسكرية خلال السنة الماضية، ألقى الرئيسُ خطابًا مُطوَّلاً تناولَ فيه قضايا المنطقة كلَّها تقريبًا، وعَرَّج على الأوضاع فى بيئات النار المُحيطة، وفلسفة مصر فى إدارة مفاتيح أمنِها القومىِّ برؤيةٍ كُلِّية مُترابطة. وفى نسخة العام الجارى هنَّأ الخرِّيجين والمُؤسَّسة، وتحدَّث من موضوعات الخارج عن فلسطين حصرًا، وقد تكرَّر التركيزُ و«تَبئيرُ القضيَّة» فى مشهد تفتيش الحرب أمس. ولا يعنى هذا أنَّ ذهنيَّة القيادة انصرَفَتْ عن بقيَّة الملفَّات، أو وَضَعَتْها فى مرتبةٍ مُتأخِّرة؛ بقدرِ ما يُشير إلى توجيه الرسائل فى وجهةٍ مُحدَّدة، وتأكيد أنَّ الفاعليَّةَ الوطنية بطابعِها الروتينىِّ الدَّوْرِىّ، ربما تحملُ إضاءاتٍ تتجاوزُ صيغةَ الروزنامة التشغيلية المُعتادة، وتتقصَّدُ أن تمنحَ الخاصَّ معنىً عُموميًّا. إنها رسالةُ اليقظة والجاهزيَّة، وأنَّ طَوقَ المخاطر المُحيط بمصر لا يصرِفُ نظرَها عن الأولويَّات الاستراتيجية، وسواء كانت القلاقلُ على بقيَّة المحاور طبيعيَّةً أم مُصَنَّعةً من قوىً إقليميَّةٍ ودوليّة؛ فإنها لن تكون حائلاً دون الالتفات للتحدِّيات على وقتِها، ما يعنى أنَّ التسخينَ فى جانبٍ لن ينعكس إرباكًا للآخر، وهذا مِمَّا قد يُخفِّضُ منسوبَ التوتُّر فى النهاية على كلِّ الأصعدة، أو أقلّه لن يرخى حبلَ التقديرات لدى المُتصارِعين شرقًا، تحت وَهْمِ أنَّ السياق العام فيه ما يكفيه، وأنَّ القضيَّةَ الفلسطينيَّة لن تكونَ شاغلاً مركزيًّا لمُتَّخِذ القرار على ضِفاف النيل.
استُهلِكَ كلامٌ كثيرٌ وذخيرةٌ أكثرُ من آخرين؛ لأجل إيصال الرسائل عند منسوب أقل وضوحًا وفاعليّة. وما تولَّدَ عن الشَّبَق النضالىِّ غير البصير إلَّا مَزيدٌ من الجنون فى إسرائيل، والتصلٌّب من حُلفائها. وإذا صحَّ النظرُ لطُوفان الأقصى على صورةِ «خيار الضرورة»، أو هكذا سَعَتْ حماس لتَسويغِه مَحمولاً على الانسداد الذى فرَضَه العدوُّ على القضيَّة قهرًا؛ فإنَّ «حرب الإسناد» من جبهة لبنان أفضت إلى تكسير عِظام حزب الله، ووَضَعَتْ بيئته والدولة بكاملها فى عين العاصفة. وقيادةُ المحورِ الآنَ تُسحَبُ ببطءٍ نحو الفخِّ الذى تجنَّبَتْه طويلاً؛ وبينما دشَّنَتْ قواعدَ مُتقدِّمةً من الميليشيَّات الحليفةِ لتَنوبَ عنها فى حماية المشروع الأيديولوجىِّ؛ تجِدُ نفسَها مُضطرَّةً اليومَ للتصدِّى للغَريم بنفسها، أو إظهار الرخاوةِ ومَنحِه صورةَ نصرٍ رخيصةً وغير مُكلِّفة. أمَّا المُنجَزُ الوحيدُ طوالَ السنة الماضية؛ وبعيدًا مِمَّا نزلَ بالقطاع جرَّاء خطأ التقدير وخِفَّة الحسابات الفصائلية والمُمانِعة؛ فيُمكِنُ حَصرُه فى إفساد مُخطَّط التهجير القسرىِّ، وكان زاعقًا فى الخطابين الرسمىِّ والشعبىِّ لإسرائيل عند بواكير الحرب، وغاب تمامًا عنهما منذ شهور، بعدما تصدَّت له مصرُ بقوّةٍ على كلِّ المستويات.. صحيحٌ أنه لم يُزَحْ تمامًا من العقليَّة الصهيونية؛ لكنها تتيقَّنُ من انعدام قابليَّته، وانعدام فُرَص توقيعِه على الأرض؛ أقلّه من جهة مصر وما أَرْسَته من ثوابتَ لا تقبلُ النقاشَ بشأن الخطوط العريضة لمُستقبل غزّة، والبيئة الفلسطينية إجمالاً.
مشهدُ الاصطفاف لتفتيش الحرب يبعثُ على الفخر، ويُؤكِّد قُدرات المُؤسَّسة العسكرية التى تحتفلُ بذكرى انتصارها المُلهِم، بينما تقفُ على تَلَّة عالية من الجاهزيّة والإمكانات اللوجستيّة. وإلى جانب ما يحملُه من إشاراتٍ داخلية وخارجيّة؛ فإنه ينطوى على معانٍ ضِمنيَّةٍ ذات طابعٍ نقدىٍّ وتفكيكىٍّ لحال الاحتدام الإقليمية، أهمّها الفارق بين الدُّوَل والميليشيَّات، وأنَّ إرادةَ السلام تُولِّدُ الثِّقَة فى السِّلم والحرب، وتفرِزُ الأوطانَ الطبيعيَّةَ العاقلة، عن غيرها من المشاريع الأُصوليَّة التى تُخبّئُ طابعًا عِصابيًّا؛ وإن اتِّخذت صِفَة الدولة ظاهرًا. ينطبقُ هذا على إسرائيل طوالَ تاريخها، وعلى بعض خُصومِها بعدما تلوَّنت هويَّاتُهم بألوانٍ عِرقيَّة أو عقائديَّة مُضَلِّلة. إنها رسالةُ العقيدة الوطنية الصافية، والسلاح غير المُلوَّن، والاعتدال فى القول والفعل؛ لأنك لا تحتاج إلى الصَّخَبِ لو كُنتَ قادرًا فعلاً، كما لن ينفعَكَ على الإطلاق إنْ كُنتَ ضعيفًا. وفى هذا إشارةٌ بعِلْمِ الوصول لمن يهتمُّ أو يعنيه الأمر، ربما مفادُها أنَّ الصبرَ عن ثِقَةٍ يُزعِجُ بأكثر مِمَّا يُطمئِنُ، وأنَّ الرصاصة التى ستقتُلك قد لا تسمعُ صوتَها على الإطلاق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة