إذا كان الجميع متفقين على أن الفارق فى الدرجة وليس فى النوع، بين الجمهوريين والديموقراطيين، من حيث التعامل مع السياسات الخارجية والموقف من دعم الاحتلال، والاعتراف بأن السياسات العالمية تحكمها المصالح والتوازنات، فالمفترض أن تسعى الأطراف الإقليمية إلى التعامل من خلال معلومات ومواقف وتوازنات، بعيدا عن المزايدات والاتهامات التى تميز الحال القائم، فالسعى للانتصار لا يقوم على أوهام، بل على وقائع وقواعد، وأن يوظف كل طرف ما يمتلكه من أوراق، اقتصادية وسياسية، ويتخلى المزايدون عن طريقة لم تثمر سوى التفتيت والعداء.
كان الاقتصاد هو الورقة الحاسمة فى الانتخابات الأمريكية، والتى رجحت كفة ترامب على بايدن وكامالا، وقد تكون السياسة الخارجية لعبت دورا، لكن العامل الحاسم كان الاقتصاد الذى ازداد سوءا مع بايدن، وقد فاز بايدن بناء على ترويج أن التعامل مع كورونا أضر الاقتصاد، ووعد بالتعويض ولم يفعل، بل إن الاقتصاد تراجع مع بايدن بأكثر مما جرى مع الجمهوريين.
أما الازدواجية وإضعاف النظام الدولى، وعدم قدرة الولايات المتحدة على إدراك التحولات فى مراكز القوة والنفوذ فى العالم، فهى أمور مشتركة بين الجمهوريين والديموقراطيين، وهى تطورات تفرض نفسها على العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وخروج الاتحاد السوفيتى، وإن كان بايدن أعاد الحرب الباردة والتدخل فى حرب أوكرانيا وروسيا، حيث دخل وجر معه أوروبا كطرف فى حرب كان يمكن تجنبها، ونفس الحال فى ما يتعلق بتغذية الحرب فى غزة، وانحياز بايدن وإدارته إلى الاحتلال تماما، والعجز عن التدخل واستعمال أوراق الدعم لإيقاف الحرب، التى تجاوزت الانتقام إلى حرب إبادة وتصفية عرقية وقتل للأطفال.
هناك اتفاق بين الجمهوريين والديموقراطيين فى العلاقة مع الاحتلال، وكان ترامب هو أول رئيس أمريكى يطبق قرار نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، وواجه رفضا ومعارضة من حلفائه قبل خصومه، بينما دعم بايدن الإبادة الإسرائيلية فى غزة، وبالتالى هناك توافق بينهما، وهو ما يفرض على الأطراف الأخرى التعامل مع هذا الواقع، وقد حدث التعامل مرات من هذه الزوايا، وتوظيف أوراق السياسة، فعلها الرئيس السادات مع أمريكا ونجح فى استعادة الأرض بعد انتصارات أكتوبر، وبالرغم من أنه تعرض للمزايدة والاتهامات من قبل أطراف عربية وإقليمية، فقد هرع كل خصوم السادات بعد سنوات وفى ظروف أكثر تعقيدا ليحصلوا على ما حصل عليه، ونجح السادات فى اختراق العلاقة بين الاحتلال والولايات المتحدة، وقد أعلن بوضوح أنه لا يحارب إسرائيل ولكن يحارب أمريكا، وهى رؤية - بالرغم من وضوحها- يتجاهلها تيار المزايدة، المتوافر فى كل عصر.
وقد سعت مصر تحديدا منذ الخلافات «الفلسطينية - الفلسطينية» فى 2007، لأن تعالج الشقاق، وتعقد مصالحه بين الفصائل المتناحرة، وظلت الجهود قائمة حتى يوليو 2023 قبل أشهر من الحرب، وكان السعى المصرى قائما على حقيقة أن الفلسطينيين يجب ان يذهبوا معا إلى أى تفاوض أو اتجاه لحل الدولتين، الذى يفترض أن يكون الهدف الأول، وليس الانخراط فى مغامرات تخدم أطرافا إقليمية، ولا يمكن اعتبارها فى الصالح الفلسطينى.
وأى قراءة لأحداث 7 أكتوبر 2023، تشير إلى أن ما صنعته من تحولات يتجاوز الكثير مما تم خلال عقود، فقد بدت أنها تحولات كيفية لتراكمات كمية على مدى عقود، أول نتيجة كانت حرب الإبادة التى يشنها الاحتلال بعنف غير مسبوق، وبمزاعم أن الاحتلال تعرض لتهديد وجودى، وبدا الصراع هو حرب «المتطرفين» وتجار الحرب فى كل المعسكرات، تم تدمير أكثر من نصف غزة، بينما كل الجولات السابقة لم تكن تتجاوز الأسابيع، وخسائرها فى الكم والكيف أقل بكثير، وللمرة الأولى تتحول إلى مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، وتنفيذ اغتيالات لعدد كبير من قيادات لحزب الله، واغتيال إسماعيل هنية داخل إيران، وخلال المواجهة اضطرت طهران إلى الإشارة لمسؤولية حزب الله عن عمليات منها محاولة اغتيال نتنياهو، مع إشارات لاحتمال عقد صفقات حول لبنان.
كل هذا تم قبل أن تنتهى الانتخابات الأمريكية بفوز ترامب، وهو الذى سبق وألغى الاتفاق النووى الذى عقده أوباما، ما يضاعف من تعقيد الموقف، ويدفع إلى صفقات أوسع أو صدامات، وتغيير فى شكل ومضمون التقاطعات والتفاعلات الإقليمية.
كل هذه التطورات، يفترض أن تدفع الأطراف المختلفة للتعامل بأوراق وواقعية، بعيدا عن القياسات والادعاءات والمزايدات الفارغة، التى لا تعنى سوى الهزيمة الواقعية، والفوز فى الافتراض.
مقال أكرم القصاص
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة