خالد عزب

عباس حلمى الأول .. إعادة قراءة تاريخية

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024 03:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ولد عباس حلمى بن طوسون باشا بن محمد على سنة 1299 هجرية/ 1812 ميلادية، وتنقل فى عدد من الوظائف الحكومية أثناء حكم جدة محمد على مما أكسبه خبرات فى إدارة الدولة، اشترك فى حروب الدولة مع إبراهيم باشا بالشام، تولى مديرية الغربية سنة 1833 م، فمفتشا للأقاليم البحرية سنة 1835 م، ثم كتخدا بك حتى عين واليا على مصر مع وفاة عمه إبراهيم باشا عام 1848 م ثم وفاة جدة محمد على 1849 م الذى كان يعانى من أمراض أعاقته عن ممارسة السلطة بعد وفاة ابنه الأكبر.

كان عباس حلمى مدركا أن وضع حكم مصر بعد محمد على سيكون تحت فكى كماشة أحد أضلاعها الدولة العثمانية التى سعت لانتقاص الاستقلال النسبى الذى حصلت عليه مصر، ثم السيطرة على مصر مرة أخري، والضلع الآخر هو الضغوط الأوروبية المتعددة للحصول على أكبر مكاسب من مصر خاصة مع الصراع الفرنسى البريطانى للهيمنة على مصر، لذا سعى لسياسة حذرة رأى البعض أنها كانت سببا فى تراجع مصر، سياسة عباس الحذرة تطلبت تقليص النفقات حتى لا يلجأ للاستدانة، ولذا لم يندفع فى مشاريع دون طاقة الدولة، بل قاد عملية تحديث محسوبة وفى عهده أرسل عددا من المبعوثين فهو لم يوقف البعثات نهائيا، وكان من المبعوثين محمود باشا الفلكى الذى ابتعث لفرنسا لدراسة الهندسة وأصبح أول عالم مصرى فى الفلك، أما تقليص التعليم الذى رمى به فقد بدأ فى عهد محمد على كسياسة من الدولة، لقد كان الهدف من التعليم هو إعداد الكوادر للجيش ولمشروعات التصنيع وكذلك إعداد الموظفين للجهاز الإدارى للدولة، لكن فى عام 1831 م أرسل محمد على خطابا لابنه إبراهيم يبدى فيه تخوفه من التوسع فى التعليم الحديث حتى لا تواجه مصر أزمة تشغيل أولئك الخريجين كما حدث فى أوروبا التى عانت من تعليم أبناء العامة وذكر فى خطابه : (  فإذا كان هذا المثال أمام الأنظار فمن الواجب أن تتفضلوا فتكتفوا بتعليم القراءة والكتابة لعدد وافر منهم لأعمال الرياسة غير مولعين بتعميم ذلك التعليم) وقد انعكست أزمة 1840 / 1841 م فى أعقاب تقليص دور مصر وطموحات محمد على بعد أن أدركت الدول الأوربية خطورة انتصاراته على الدولة العثمانية عليها، ففى أكتوبر 1841 م وافق محمد على على عدة قرارات اتخذتها لجنة شكلت برئاسة إبراهيم باشا للنظر فى شئون التعليم، ألغى بمقتضاها عددا من مدارس المبتديان كما ألغيت المدرسة التجهيزية فى القاهرة ومدرسة الموسيقى غير أن لجنة برئاسة رفاعة الطهطاوى رأت الابقاء على بعض المدارس ووزع عددا من طلاب مدرسة الطب على مدرسة الزراعة والطب البيطري، أما المدارس الابتدائية فقد رأت اللجنة الاكتفاء منها بخمسة واحدة منها فى القاهرة والباقى فى الأقاليم على ألا يزيد عدد طلابها عن 780 طالبا بعد أن كانت 67 مدرسة قبل عام 1836 م وقد وافق محمد على على تلك القرارات فى 4 يناير 1842م.

تميز عهد عباس حلمى الأول باستباب الأمن فى ربوع مصر وهو ما انعكس على أداء الاقتصاد المصرى وظهر جاليا أيضا فى عصر سعيد باشا من بعده، ويعود ذلك إلى سياسة بدأت فى عهد محمد على واستمرت فى عهد عباس حلمى الأول بقوة إذ قدمت الحوافز للبدو لتوطينهم عبر منحهم مساحات من الأراضى لزراعتها مما أدى لاستقرارهم وبدأت حياة الحضر تدب فيهم، وكان عباس حلمى جزءا من هذه السياسة التى أدت إلى نتائج إيجابية فتحول البدو لحلفاء للدولة والأسرة العلوية مما ساهم فى تأمين الطرق أيضا، خاصة الطريق من القاهرة للسويس الذى كانت تنقل عبره التجارة الدولية الأتية من الإسكندرية فالقاهرة فالسويس، وهذا يفسر بناء عباس قصر الدار البيضاء على أول طريق السويس من القاهرة والذى عبره أمن بدو صحراء السويس فجعلهم يحرسون هذا الطريق، كانت علاقة عباس بالبدو سببا فى حبه للخيل العربى الذى تبناه وحرص على إيفاد البعثات للجزيرة العربية لجلب الخيول الأصيلة ومعظم سلالات الخيول العربية فى العالم الآن تعود له حيث كان أول من قنن جذور هذه الخيول فى سجلات ورباها طبقا للأصول المرعية.


امتلك عباس حلمى الأول مشروعا حداثيا فلم يكن منغلقا على نفسه لذا لأول مرة يشيد امتداد لمدينة القاهرة فى الصحراء على الطراز الأوروبى سابقا الخديو إسماعيل فى ذلك، أثبتت الحوادث ومجريات الأمور بعد عصر عباس بُعدَ نظره، حين أقام قصرًا له فى صحراء الحصوة أو الريدانية، ولم يكن قصر عباس، مكانًا منفيًّا بالصحراء، بل شيد فى منطقة تعد امتدادًا عمرانيًّا طبيعيًّا للعاصمة، حيث انتهت قرافة المماليك، بل دخلت قبة العادل طومان باى ضمنه، فضلًا عن قربه من منطقتى الظاهر وباب الشعرية، وهما الامتداد الشمالى للمدينة، وصحب إنشاء قصر عباس تشييد حى سكنى جديد، عُرف بالعباسية، وزعت أراضيه على أعيان مصر وأثريائها وأفراد الأسرة المالكة، ويتضح من المصادر التاريخية أن العباسية خططت كحى سكنى حديث، كان عباس قد أصدر أمرًا فى 27 جمادى الآخرة 1265 هـ/20 مايو 1849 م إلى رئيس مجلس الأحكام بسرعة تنفيذ هذا المشروع لتعمير مدينة القاهرة، وحث رجال الدولة على سرعة البناء ووضع عقوبات على عدم أو تأخر التنفيذ، ونص هذه الإرادة:


"غنى عن البيان أن أبنية موطننا العزيز مدينة القاهرة ليست على الطراز الحديث - وهذا يعنى أن عباس أراد تشيد مساكن العباسية على الطراز الرومى أو الأوربى الذى بدأ يشيع فى مصر - وأن المساكن الموجودة فيها قديمة ومشرفة على الخراب، وحيث إن البلاد وما حواليها والحمد لله فى أمن وأمان وأمراؤها كلهم من أصحاب الثروة واليسار، وهنا يشير إلى الاستقرار الذى حدث فى مصر بدءًا من العام 1811 م حين نجح محمد على فى القضاء تدريجيًّا على خصومه، وبالتالى درء الاضطرابات المستمرة التى كانت تسود القاهرة - وحيث إن صحراء الحصوة ممتازة بجودة هوائها، فيجب فى هذه الحالة إقامة العمارة بها، والإقامة فيها والاستفادة والتمتع من بهائها - الطقس الجيد هنا أحد أسباب رغبة عباس فى إقامته هذا الحى السكنى - لهذا قد صدرت إرادتنا بعد عودتنا من الأستانة لوضع خطة وافية لهذه الصحراء وتقسيمها قطعًا أساسية وتوزيعها على أمراء وذوات مصر ليبنى كل واحد قصرًا فخمًا لنفسه " . ويؤكد باقى الأمر على عدم التزام الأمراء والذوات بالبناء فى العباسية إلا عدد قليل منهم، وشدد عليهم بسرعة البناء.


والأمر يكشف عن تحول خطير فى توجهات الدولة تجاه السياسة العمرانية، وبدأ تدخلها بصورة مباشرة فى التخطيط العمرانى للمدينة، بل وإلزامها السكان بطرز محددة، وهو ما نرى صداه بقوة فى عصر إسماعيل، غير أن محاولة عباس لم تنجح بصورة جيدة، لأن الأرستقراطية وطبقة الحكم لم تستجب له رغم محاولاته، وربما مرجع هذا أن الاعتراض من قبل صفوة المجتمع على الإقامة هناك، يرجع إلى قلة القطاع الخدمى فى العباسية، حيث لم توفر الحكومة البنية الأساسية للتعمير مثلما حدث فى الإسماعيلية مثلًا، ولكنها تركتها رهنا لرغبة الناس فى وقت لم تكن فيه وسائل المواصلات تتيح فرصة للاتساع فى نطاق يبعد كثيرًا عن القاهرة مقر الأعمال والمصالح فى تلك الفترة، بل فى بيئة أكثر صحراوية من شبرا مثلًا، لكن المحاولة أصبحت أكثر جرأةً ونجاحًا فى عصر إسماعيل، ونحن نرى أن قصر فترة حكم عباس، وهى ست سنوات غير كافية للحكم على هذا المشروع، إذ إن المشروعات العمرانية تتطلب وقتًا كافيًا لكى تكتمل خاصة فى مشروع لم يعتد المصريون على مثله من قبل، إذ كانوا غالبًا ما يرغبون فى السكنى إلى جوار المدينة القديمة وفى داخلها أو بالقرب من شاطئ النيل لا فى الصحراء.


وإعادة تعمير المدينة القديمة يحتاج إلى أموال طائلة، خاصةً إذا أراد عباس فتح شوارع جديدة أمام حركة العربات، وإقامة قصور له على نحو ما فعل إسماعيل، بينما الأسهل والأقل كلفةً الانتقال إلى خارجها، وكان لعلاقة عباس القوية مع القبائل العربية والتى كان يراها ظهره الذى يحميه ويرتكز عليه فى مواجهة أعدائه، خاصةً تركيا والأجانب، مع العلم بأنه سعى إلى إعلان مصر دولة مستقلة عن تركيا، كما سعى إلى نقل ولاية العهد لابنه إلهامي، كان لهذه العلاقة أثر فى اختيار قصوره خارج المدينة حتى لايسببوا أية اضطرابات أمنية بها، وحتى يسهل له الاتصال بهم، خاصة فى قصر الدار البيضاء الواقع على طريق القاهرة السويس، وكان قد شرع فى بناء هذا القصر فى عام 1265 هـ/1849 م.


أهمل هذا القصر بعد وفاة عباس وآل بالشراء إلى الخديوى إسماعيل، الذى شيد به مجمعًا عسكريًّا وميدانًا لسباق الخيل عام 1846 م، وبنى هناك كشكًا سماه "الأنفياترو" يشرف على ميدان السباق لكى يستطيع هو وضيوفُه الأجانب مشاهدة المسابقات ، واهتم إسماعيل بربط العباسية بالقاهرة بطريق سمى بسكة العباسية، كما شيد قصرًا بالعباسية، احترق فيما بعد، وتستخدم بقاياه كمستشفى للمجانين حاليًا.


وصفوة القول أن العباسية كانت مشروعًا عمرانيًّا لم تتح له فرصة النمو الكاملة، ولكن أثبتت الأيام جدواه، ولو كان عباس نجح فى نقل الحكم إلى ابنه لاكتسبت المنطقة أهمية متزايدة، لكن التحول السياسى بنقل السلطة إلى سعيد باشا، ثم إسماعيل من بعده، كان له الأثر فى التحول العمرانى تجاه المنطقة المحصورة بين القاهرة وشاطئ النيل، وقد بقيت بعض الأجزاء من القصر وثكناته إلى اليوم. لكن فى مرحلة لاحقه بنيت مصر الجديدة على يد البارون امبان وهو ما أكد بعد نظر عباس حلمى الأول .

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة