إذا أردتَ أن تُردِى العدوَّ فلا تُصوِّب على ساقيه؛ إنما فى كلِّ الأحوال لا بديلَ عن التصويب.. وعلى طُول ما سُجِّلَ من مواقف عربية وإسلامية لصالح فلسطين، فلعلَّ المحطَّة الأخيرة أعلاها وأكثرها تقدُّمًا. كانت الثوابت واضحةً دومًا على مستوى الدُّول والحكومات، كما فى حال مصر قيادةً وشعبًا؛ إنما فى الفعاليات الجامعة بدَتْ المسألةُ شَكلانيَّةً ضميريَّة، بأكثر مِمَّا تُطلِقُ بغَرَض القَنْص. وكأنَّ الصورةَ اتَّضحت مُؤخّرًا؛ واستقرَّ فى الوعى ما لا مفرَّ من إتيانه عاجلاً أم آجلا؛ أى أنْ يُعوَّض الفارقُ الشاسع فى خشونة الميدان، بإدخال الخشونة على أُفق السياسة.
عمليًّا؛ لا يُمكِنُك إحراز الأهداف بينما تقفُ فى أطراف ملعبك، وتضعُ الواجبات الدفاعية فوقَ الأدوار الهجومية، وإذا كانت عقيدةُ الصهاينة أنَّ «ما يتعذَّر بالقوّة، يتيسَّر بمزيدٍ من القوة»؛ فإنَّ مُجاراة العدوّ فى خياراته الساخنة لا تعودُ مُفيدةً على الإطلاق، كما لا يفيد اختصامه بالسياسة دون امتلاك أوراقٍ للضغط والمساومة. والثابت من سابق التجارب أنَّ إسرائيل لم ترتدع بالحرب؛ باستثناء التجربة المصرية فى أكتوبر 1973، كما لم يُروِّضها النقدُ وخطابات الضمير.
إنها بلدٌ قاتل، يحيا على حدِّ السكين، ويُؤمِّنُ الجرائم بفَرض مُعادلتِه على الخصوم، ولا يربحُ إلَّا لأنه يُصادر الكُرةَ من المُنافس، أو يرسمُ له مساراتٍ وجوبيَّةً للتحرُّك بها. والسبيلُ الوحيد لإنزالها عن الشجرة؛ أن تُدارَ اللعبة على نحوٍ مُفارق، وأن يتكثَّف الهجوم عليها من الخاصرة الهشّة، ولو كان التكافؤ بعيدًا فى ميدان القتال؛ فليكُن التصويبُ على السرديَّة نفسِها، وهى أضعف ما تستندُ إليه دولة التوراة المطبوعة بالدم.
المقاومةُ على هذا المعنى تبدو سلوكًا ناضجًا لا انتحاريًّا، يتوسَّلُ الطرائقَ المُمكنة لتحريك الأحجار على الرُّقعة، وليس للتضحية بها مجانًا ومن دون أسباب مُقنِعَة. والضابطُ العقلانىُّ للمسألة يسمحُ باختبار السلاح كما تُختبَرُ السياسة؛ إنما لا يكون أىٌّ منهما مطلوبًا لذاته، بل بقدر ما يُضيف للقضية فى نضالها التراكمى، ويُعزِّز مسارها الصاعد وقدراتها الشاملة. أمَّا وجاهةُ الخيارات فتصير محكومةً بالإجماع، أو الوفاق على الأقل، ولا يحقُّ لفصيلٍ أن يستبدَّ بالآخرين، أو يتسلَّط عليهم، أو يقترحَ أجندةً فى غير أوانها، وبدون جاهزيَّةٍ لإدارة الجولة المُقترَحَة من الصراع، وتحديد الآلية اللازمة لتثميرها لصالح الاستراتيجية والغايات الكُبرى.
القصدُ مِمَّا فات ليس أنْ ننتقد «طوفان السنوار» انحيازًا لمُنظَّمة التحرير؛ فيرُدّ آخرون تعريضًا بمُهادنة السُّلطة الوطنية لصالح الفصائل الأُصوليَّة. الحقيقةُ الوحيدة أنَّ ما جرى قبل سنةٍ لا سبيلَ إلى تداركه، وفواتير الأرواح والدماء سُدِّدَت بالكامل، ولا فارقَ بين أن يعتذرَ المُتسبّبون فيها أو يُكابروا، كما أنه لا غايةَ اليومَ تتقدَّم على وقف الحرب، واستنقاذ القطاع، أو ما تبقّى من رُكامه وخرائبه، ثمَّ الوقوف على الأسباب بدلاً من الوقوف على الأطلال، والبحث فى أفضل السُّبل لإنضاج المُقاربات الوطنية والنضالية، وضمان ألَّا تتكرَّر الخسائر الكبيرة، على الأقلّ ما لم تكُن شَرًّا لا بدَّ منه أو تمهيدًا لمكاسب أكبر.
وإذا كان مُستحيلاً بعد سنةٍ من الإبادة الجماعية، أن يتحدَّث عاقلٌ عن النصر أو الصمود بمعناه الإيجابى؛ فإنَّ السياقَ الراهن يُرتِّبُ التزاماتٍ على كلِّ الأطرافِ المُوزَّعة على امتداد الطّيف الفلسطينى. واجبُ الداخل أن يبدأ رحلةَ المُراجعة بغَرَض التقييم والتقويم، وأن يتحلَّى بفضيلة الاعتراف بالخطأ؛ كمدخلٍ إلزامىٍّ إلى تحديث الرؤية وتطوير آليات العمل. أمَّا الخارج فعليه ألَّا يكون خنجرًا فى الظهر أو غمامة على العين، وأن ينصُرَ أخاه ظالمًا أو مظلومًا، بالردِّ عن الانحرافات الماسّة بعدالة القضية واستقامة مسارِها، وبانتهاج المسالك الكفيلة بالإسناد الفاعل؛ بعيدًا من الشعبويَّة والدعايات المُتأجِّجة عاطفيًّا، ومن الاستتباع والتوريط فى أدوارٍ وظيفية «فوق فلسطينية».
الاحتلالُ أكبر عائق أمام الوحدة أو التسوية، وقد استثمرَ فى الانقسام، ولم يُوفِّر فرصةً لإفساد السياسة وتغييب الحلول السلميّة، إنما الموضوعية تفترضُ القولَ إنَّ نتنياهو لم يُقسِّم البيئة الفلسطينية إلَّا من جهة حماس، وكُلَّما نفدَتْ ذرائعُه كانت الفصائل تُغذّيه بغيرها. قد يُقال إنه لا يحتاجُ لأسبابٍ، وخبرتنا مع إسرائيل أنها لا تُسمِّى قبل الذبح، ولا تبحث عن أجوبةٍ منطقية لأسئلةٍ تعرفُ أنها لن تُلزَمَ بها من الأساس؛ لكنَّ المُقاربة الجادة لا يُمكن أن تقفزَ على احتماليّة التوظيف المُضاد للجهد التحرُّرى؛ بما يُسوِّغ السرديّة الصهيونية ويُكسِبها وجاهةً لدى داعميها على الأقل. والخروج من الفخِّ يتطلَّبُ الاعترافَ بالسقوط فيه أوّلاً، ثمّ التوقف عن الحَفر على وجه الاستعجال.
بدأ زعيمُ الليكود جولتَه الحربية الأحدث من أزمةٍ خانقة. كان فى حُمَّى الغضب الشعبىِّ من سياسات ائتلافه التوراتىِّ المُتطرِّف، ومشروعه المُلوَّن لتقويض صلاحيات المحكمة العُليا. و«الطوفان» أرخى له طوقَ النجاة على اشتياقٍ، وكان طبيعيًّا أن يستثمره إلى المدى الأقصى. تتواترُ التقارير فى الصحافة العِبريّة عن اتِّصال عِلمه بتبدُّل الأوضاع على الجبهة الغزّية، ورصد تحرُّكاتٍ غير اعتيادية من جانب الحماسيين فى القطاع. ربما وقعت المفاجأةُ فعلاً، أو كانت مرصودةً وتُرِكَت لغرضٍ فى نفس يعقوب، ودون توقُّعٍ لحجم الضربة، وما ولَّدته من خسائر مادية ووجيعةٍ عاطفية، وإهدارٍ للكرامة وصورة الردع.
سيرةُ الضَّبع الجارح لا تخلو من وسائلَ قذرةٍ لغاياتٍ أقذر. لقد حرَّض على رابين بعد أوسلو حتى اغتياله، ثم ورث رئاسة الحكومة ليُدشِّن لحقبةٍ جديدة لا ترى الفلسطينيين أصلاً؛ ناهيك عن فكرة التفاوض معهم ومنحهم أيّة مُكتسبات. صعَّد فى خطابه اليمينى لاستفزاز حماس، فلاقَتْه على الموعد بأُصوليَّة أشرس من أصوليَّته، وهكذا بُنِيَت علاقةُ التخادُم بينهما بقصدٍ منه وسذاجة منها، والشواهد كثيرة من المُبادرة العربية مقابل العمليات الانتحارية، إلى الشرعيّة والانقلاب، ونظرية الحق التوراتىِّ إزاء دعائية الوقف الإسلامى.
والخلاصةُ؛ أنه لا سبيلَ لمُقارعة الحديد بالصفيح، ولا للانصراف عن السياسة اعتقادًا فى السلاح بمفرده. وإذا كان نتنياهو يُريد شيئًا واحدًا من الفصائل؛ فأنْ تبقى دومًا بملابس الحرب، وألَّا تُغادر حظيرةَ المُمانَعة أو تقطع روابطها مع الشيعيّة المُسلَّحة. يُريدُ أن يظلَّ الجدلُ فى نطاق الميدان أو على حواشيه، وأن تنصرف الجهود كلُّها إلى إسكات البنادق، ورعاية المراحل الفاصلة بين كلِّ حربين، على عهد النار التى لا تنطفئُ إلَّا لتندلع مُجدَّدًا. وكَسرُ الدائرة الجُهنميّة لا يُمكن أن يتحقَّق طالما ظلَّت الولاءاتُ مُوزَّعةً هُنا، وكُلفةُ المُغامرات زهيدةً هُناك.
سجَّلت القمَّةُ العربية الإسلامية بالرياض قبل يومين موقفًا مُتقدِّمًا للغاية بحسابات السياسة، وكانت أغلب مُداخلات القادة والرؤساء قويَّةً وساخنة. أمَّا البيانُ الختامىُّ فقد قطعَ شوطًا بعيدًا باتجاه التصعيد، واختبار خياراتٍ وبدائل غير ما درجت عليه آليّات العمل المُشترك. والرسالة أنَّ حدَّة النبرة وعُلوِّها إنما يُعبِّران عن مُقاربة مُغايرة، ويُخاطبان الآخرَ فى كلِّ مُستوياته بمنطقٍ غير اعتيادىٍّ، يحملُ إشارات البَرَم وعدم الرضا إلى الحُلفاء الغربيِّين مِمَّن يرعون المَقتَلة، ويُلوِّح بحالِ الغضب والتصعيد للعدوِّ المُباشر، والأهمّ أنه ينقلُ الصراع إلى ملعبٍ أوسع من فضاء غزَّة وحدود لبنان، نزوعًا لتعميمه وتدويل الخصومة فيه، وإكسابه طابعًا حركيًّا وقانونيًّا أكثر صخبًا، وأقل انشغالاً بالمواءمة والتوازنات الإقليمية والدولية.
دعا المجتمعون بوضوح، إلى حشد الجهود الدولية لتجميد عضوية إسرائيل فى الأُمَم المتحدة. بجانب تجديد المُطالبة بمحاكمة الدولة العِبريّة، وإصدار مُذكّرات توقيفٍ لقادتها السياسيين والعسكريين، وترقية فلسطين من مقعد المُراقب إلى العضوية الكاملة. وباقةُ الأهداف المُعلَنَة تُمثِّل انتقالاً ضروريًّا وواسعًا إلى الأمام، وتُعبِّر عن جاهزيَّةٍ لحقبةٍ مُختلفة فى الاشتباك مع الاحتلال وتجاوزاته، ووَضع العالم أمام مسؤولياته القانونية والأخلاقية، بحيث لا تظلُّ المُناكفة دائرةً فى نطاق الدعايات ورمزيَّات الضمير والتعاطف؛ بل أن تعود قضيّة فلسطين إلى منشأها الأساسىِّ، وأن تتعلَّق أجراسُها فى رقاب المسؤولين عنها منذ البداية، دُوَلاً ومُنظَّمات.
ربما تتعذَّرُ إدانةُ تلِّ أبيب، ويكونُ الوصولُ إلى تقويض شرعيَّتِها مِمَّا يُلامسُ حدودَ المُستحيل؛ لكنَّ المُحاولةَ مطلوبةٌ فى كلِّ الأحوال، ولا مُبرِّر للتفريط فى فُرصةٍ مهما بدت بعيدةَ المنال. وبينما تتبدَّلُ الراياتُ فى واشنطن، من إدارةٍ ديمقراطية رخوة وصهيونية الهوى، إلى أُخرى جمهورية مُنحازة قطعًا؛ لكنها لا تُحبُّ الحروب ولا تُريد الاستمرار أو الاستثمار فيها؛ يصحُّ الرهانُ على سياساتٍ أكثر جدّية واستقامة، أو على الشقوق الواسعة فى مرحلة التسليم والتسلَّم، بما يسمحُ بتمرير الرؤية العربية الإسلامية للعالم، وربما النجاح فى اقتناص قرارٍ تاريخى يُضافُ للذخيرة القديمة من القرارات.
السابقةُ الأقرب كانت خلال السبعينيات. وقتها تقدَّمت خمسٌ وعشرون دولةً بمشروع قرارٍ للجمعية العامة، ينصُّ على اعتبار الصهيونية شكلاً من العنصرية، ويُساويها بممارسات الفصل والقمع التى كانت دائرةً وقتَها فى زيمبابوى وجنوب أفريقيا. كانت مصرُ على رأس الحاملين للمُسوَّدة، ومعها بقيّةُ الدائرة العربية باستثناء السودان وجيبوتى وجُزر القمر، بجانب شركاء من آسيا وأفريقيا، ونجحت الخطوةُ رغم الضغوط والاعتراضات، وظلَّت الوصمةُ قائمةً برقم 3379 فى نوفمبر 1975؛ حتى إلغائها بعد ستّ عشرة سنة.
كانت مُنظمة التحرير التى تأسَّست فى الستينيات قد نجحت فى تسويق نفسها، وفتحَتْ قنوات اتِّصال مع الشرق والغرب، وأحاطت نفسَها بدعمٍ عربىٍّ ورشادةٍ ذاتيّة. سمحَ لها ذلك ببناء علاقاتٍ واسعة مع كثير من الحكومات، وحضور ياسر عرفات خطيبًا على منصَّة الأُمَم المتحدة فى العام 1974، وبأثر الحركة الدؤوب، والاستثمار الواعى فى الإمكانات والظروف المحيطة، توصَّل الفلسطينيون لإدانة الصهيونية، ثمَّ كانت انتفاضتهم الأُولى فى الثمانينيات «انتفاضة الحجارة» تتويجًا للجهود الفصائلية والشعبية، ومنهما تولَّدت الدعوة إلى مدريد. اشترطت إسرائيل إلغاءَ قرار العنصرية؛ فتحقَّق لها ما أرادت، وفاز «عرفات» ورفاقُه بأوسلو والسُّلطة وأُوّل عودة شرعية للنضال من أرض الوطن.
لسنا الآن فى مجال تقييم اتفاقية أوسلو ومُخرجاتها، ولا ما أفضَتْ إليه تجربة «أبوعمار» ومنظَّمة التحرير. إنما القصدُ أنَّ تكامُلَ الأدوات وفاعليَّة الجهود، تضافرا لتغيير المُعادلة القائمة منذ زمن النكبة، وتحويلها من الإلغاء الكامل إلى الاعتراف المشروط، وحتى لو تتابعت المراوغات بعدها لإفساد ما تحقَّق للفلسطينيين وتفريغه من مضمونه؛ فإنَّ الدروس المُستخلَصَة من القصة، وربطًا بالحالة النكبوية الراهنة، أنَّ تفعيل القوَّة الوطنية على معناها الشامل، أفادَ المُدوَّنة النضالية بأكثر مِمَّا أُفِيْدَت من خيارٍ بمفرده. ومهما كانت الرياحُ عاليةً؛ فالتجارب الناجحة قابلةٌ لإعادة الإنتاج، شريطةَ أن تستوعبَ الدروس، وتُطوِّر أدواتها بما يُلائم المُتغيِّرات.
راهنَ نتنياهو منذ الطوفان على تقطيع الوقت، واستحلاب طاقات الجميع وصولاً إلى غايته. مضى على الطريق بنازعٍ وجودىٍّ يفرضُ عليه الاستئساد؛ لكى لا يذهب إلى السجن أو مزبلة التاريخ. الرجلُ الذى يرى نفسَه مَلِكًا يهوديًّا، يُنافِحُ عن إرثه السياسىِّ بكلِّ السُّبل، وعن فخرِه الدائم بأنه الوحيد بين زعماء إسرائيل الذى لم يمنح الفلسطينيين شيئًا. هكذا واصلَ الحربَ بشراسةٍ، ووسَّع مداها فى الداخل والخارج، واستدعى رأسَ المُمانَعة بالأصالة دون الاكتفاء بالأذرع، ولثلاثة عشر شهرًا يبدو كقطارٍ طائش، بينما يتساقطُ خصومُه جميعًا من الأبواب والشبابيك.
حقَّقت له الحربُ هامشَ الأمان، وأعادت ترميمَ شعبيته المُتآكلة. وتوصَّل من خلالها لإحراق مُنافسيه المُحتمَلِين، بإظهار لابيد وبينيت وليبرمان رافضين للإجماع فى زمن الأزمة، وإدخال جانتس وآيزنكوت للحكومة ثم إخراجهما منها، وصولاً لطَرد وزير الدفاع وإحلال ليكودىٍّ شديد التطرُّف بديلاً له. فاز من «بايدن» بكلِّ ما يُمكنُه تقديمه لإسرائيل، وانتظر «ترامب» على قارعة البيت الأبيض ولم تَخِب آمالُه، والساسة اليومَ عاجزون عن إسقاطه أو دَفعه للانتخابات المُبكِّرة، وكبارُ الجنرالات استوعبوا حكاية «رأس الذئب الطائر» فى إقالة جالانت.
بالحسابات النظريّة يبدو مُنتصرًا الآن، وعلى موعدٍ مع الحَسْم فى الغد القريب؛ إنما ما تزالُ الدراما حُبلَى بالتفاصيل. وأرجحُ الاحتمالات أنَّ مجمَرَة التصعيد انطفأت؛ أو أوشكت، بمعنى أنَّ فُرَص الصدام بين تل أبيب وطهران تضاءلت تمامًا، والجبهة اللبنانية قد تشهدُ تبريدًا قريبًا، أو تظلُّ على فُتورها الغالب وتسخينها المُتقطِّع خلال الأسابيع المُقبلة؛ بينما لم تعُد لدى الغزِّيين طاقةٌ للقتال أو إثارة الإزعاج أصلاً. لكنَّ المُتغيِّر هُنا يخصُّ الإدارةَ الديمقراطية الراحلة، ومقدار الضغوط التى يُمكن أن يُمارسها الرئيس العجوز؛ قصاصًا أو تبييضًا للسُّمعة، وما يُحتَمَلُ أن يُفوِّته أمام المرافق الأُمميّة، وقد سُرِّبت تهديداتٌ من فريقه بإمكانية ترشيد الدعم المُقدَّم فى مجلس الأمن.
وبينما يطمئنُّ نتنياهو لمُؤازرة ترامب؛ فربما لم يحسب حسبتَه لِمَا بعد التنصيب. لقد قال له الرئيس المُنتخب إنَّ عليه مُواصلة حربه وإنهاء الأمور سريعًا. وإذ يُفهَمُ الكلامُ على معنى الدعم؛ فإنّه يحتملُ الرفضَ الضمنىَّ لاستلام الراية مُشتعلةً، والرغبة فى إغلاق الدفاتر والحسابات كُلّها مع سلفِه الذى يتأهَّب للرحيل. وبهذا ربما يكون الصراع الراهن بين ترامب وبايدن؛ بأكثر ممّا هو بين الاحتلال وحماس، أو بين الصهيونية والشيعية المُسلَّحة. فالأول قد يستكمل الحروب مُضطرًّا؛ لكنه سيبذل كل ما فى وسعه للهروب منها، أما الثانى فلا تنفعه مُداومة القتال أو تضره؛ إلا بمقدار البحث عن خروجٍ مُشرف، والرغبة فى إرباك خليفته، أو إيلام نتنياهو بعد كل ما مارسه عليه من مراوغة واحتيال.
وإزاء غابة الاحتمالات، وكلها منطقية ومقبولة؛ فإن توازنات القوى لا تسمح بتحريك الميدان ولا تبديل مُعادلاته، والحل أن تنشط السياسة هُنا لتجسير الفجوة، والبحث عن وسائل تأثير ناعمة فى المجال المُلتهب. وهكذا تبدو دعاوى القمة العربية الإسلامية تقدّمًا للأمام بمعنى الانفتاح على أفق بديل، وعودة بعيدة جدا إلى الوراء بمنطق استرداد القضية من التشوهات، وإعادتها إلى سيرتها الأولى على معناها الصحيح، وجوهر النزاع فيها دون تلوين أو تشويه؛ أكان بالتديين والتطييف، أم بمنحه طابعًا حضاريًّا ليصير مواجهة بين الشرق البدائى والغرب المتحضر.
والحال؛ أن القرار المُنشئ لإسرائيل يتضمن فلسطين على اللائحة نفسها، بمعنى أن صيغة التقسيم نصَّت على دولتين مُتجاورتين، ولا تكتمل شرعية إحداهما إلا بولادة الأخرى وضمان بقائها. وإعلان الدولة العِبرية كان من نوعية القرارات الكاشفة، ويُستكمل وجوبًا بالإعلان عن جارتها العربية، والدليل أنها لم تحظ بعضوية الأمم المتحدة بعد ولادتها مباشرة، وعُلِّقت شهورا طويلة حتى أكدت التزامها بالقرار 181 ومفاعليه، ويصحّ اليوم أن تُوضع الأمم المتحدة أمام التزامها القديم، أكان بتفعيل النص القديم، أم بمشروع جديد يُطرح على الجمعية العامة.
مرحلة الضباب فى واشنطن، ومُناكفات الإدارتين المقطوع بها وإن كانت مكتومة، يُمكن أن تفتح كُوَّة فى الجدار السميك. ويصح استكشاف الأجواء عبر مشروع قرار لوقف الحرب من خلال مجلس الأمن، وقد يُستحسَن بالتزامن معه أن تتجدَّد المطالبة بالعضوية الكاملة لفلسطين، وأن ينشط الحشد الدولى على مروحة واسعة من الرغبات، بالدعاوى أمام محكمتى العدل والجنائية الدوليتين، والتقدم بمشاريع لتأكيد القرار 181 وكل ما بُنى عليه، وإدانة إسرائيل وتجميد عضويتها. والمهم بقدر الدقة والشمول، أن يقع الإرباك على تل أبيب وداعميها؛ عبر زخم الأفكار وكثافة الحشد؛ والرهان على زحام الإجراءات قد يُجبر الغربيين على تفويت أحدها؛ أقله من باب المواءمة وتجنب الانكشاف الفاضح.
لمحكمة العدل أن تفصل فى النزاعات الدولية، وتقدم آراء استشارية، وتتخذ تدابير تحوطية طارئة. وقد أصدرت قبل شهورٍ فتوى مهمة بانعدام شرعية الاحتلال، ووجوب إنهائه على وجه السرعة. ويُمكن الذهاب إليها بمُنازعة القرار 181، وبالطعن فى المركز القانونى لإسرائيل، أو كما يرى الخبراء ورجال القانون الدولى. فضلا على تزخيم جهود سبع وخمسين دولة فى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، وحشدهم للأصدقاء والداعمين لفلسطين، وشنّ هجوم قانونى ودبلوماسى على الصهيونية ورُعاتها فى المنظومة الأممية.
إن مُجرَّد إثارة المسألة فى المجال العام، وتعريض تل أبيب للجدل بشأن كيانيتها ومشروعية وجودها، سيُمثّل ضغطًا سياسيا وأخلاقيا على صورتها وداعميها، وعلى الشارع الغاضب من حكومته. ستعود الصورة الحقيقية للرواج: شعب مغصوب وغاصب وقح. قد يسمح ذلك بترشيد مواقف رُعاتها، واستمالة المحايدين وتحييد الحلفاء، وقطع الطريق على كل الاقتراحات الإلغائية، ما أُعلن منها وما فى طىّ الكتمان، والأهم أننا سنتجاوز اختلالات الميدان إلى قدرٍ من التوازن على مسرح العالم، وسنستعيد القدرة على امتلاك وتوظيف الأوراق الصالحة للضغط والتفاوض، ولن يعود العرض محصورا فى نسخته اليمينية الصهيونية: سلام مقابل استسلام ومن دون أرض؛ بل يصير اعترافا مقابل اعتراف، وشرعيّة مقابل شرعية.