حسين عبدالبصير

ورثة آل الشيخ

الجمعة، 15 نوفمبر 2024 05:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تمثل رواية "ورثة آل الشيخ" للروائي أحمد القرملاوي، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية العريقة بالقاهرة، نموذجًا متقدمًا للرواية العربية المعاصرة التي تجمع بين الواقعية السحرية والتاريخ الاجتماعي وتوظف تقنيات السرد المتعددة لخلق نص سردي غني متعدد الأبعاد، ويكشف الكاتب في هذه السردية عن قدرة فائقة على دمج التواريخ الشخصية والعائلية مع الأحداث الكبرى التي شكلت تاريخ مصر من الحقبة الاستعمارية حتى فترة ما بعد ثورة يناير، ما يمنح النص طبقات من المعنى تتداخل فيها البُعد الشخصي مع التاريخي، الواقع مع الخيال، والموت مع الحياة.

من أبرز ما يميز "ورثة آل الشيخ" هو أسلوب القرملاوي في المزج بين تقنيات السرد المتنوعة، يعتمد الكاتب بشكل أساسي على السرد الوصفي المتنوع الذي يحمل طابعًا بصريًا حيويًا، حيث ينساب السرد بين المشاهد الحركية والتفاعلات الإنسانية، ويصف القرملاوي في مشهد مؤثر لمظاهرة بالقاهرة بعد الحرب العالمية الأولى، كيف يواجه البطل موت عمه الحكمدار صدقي وسط مشهد فوضوي ودرامي يدمج بين الرؤى الشخصية والتاريخية. هذه التفاصيل الدقيقة في السرد تكشف عن قدرة الكاتب على إبراز المشاعر الإنسانية في لحظات التحول الكبرى، بلغة تجمع بين البساطة والمقدرة على الولوج إلى عمق النفس البشرية.

القرملاوي لا يكتفي بالسرد الواقعي الصارم، بل يدخل في إطار الواقعية السحرية التي تضاف إلى النص بعدًا تخيليًا يثري الحكاية. فعلى سبيل المثال، يتجسد "الكنز المدفون" كحلم جماعي لعائلة آل الشيخ التي تسعى جميعها للعثور عليه. لا يمثل هذا الكنز مجرد عنصر مغري، بل يحضر كرمز للبحث الدائم عن الحقيقة والمستقبل المجهول، وهو ما ينعكس في تقنيات القرملاوي السردية التي تبني تتابعات من الأحلام والأوهام والهواجس.

إحدى الخصائص المميزة لهذه الرواية هي تتبعها لتاريخ عائلة آل الشيخ على مدار عدة أجيال، يبدأ القرملاوي من الحقبة الاستعمارية، مرورًا بالحروب الكبرى في تاريخ مصر، وصولًا إلى أحداث ثورة 25 يناير 2011. ولعل هذه التنقلات الزمنية بين أجيال مختلفة، إلى جانب بناء الشخصيات التي تحمل عبء التاريخ الشخصي والعائلي، هي ما يعكس رؤية الروائي حول التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع.

تظهر هذه الفكرة بوضوح في سرد حياة الشخصيات الرئيسة مثل "فاضل"، الذي اختار مغادرة بيته وأسرته فجأة بحثًا عن مصيره، تاركًا وراءه لغزًا حير أسرته، وبينما يعود القرملاوي إليها في فترات لاحقة، يكتشف القارئ أن التاريخ الشخصي لكل فرد من أفراد العائلة ليس مجرد سرد خطي، بل هو جزء من سردية أكبر تتداخل فيها الأحداث الخاصة والعامة.

ويرتكز النص بشكل واضح على التعدد الثقافي والديني في مصر، وهو ما يعكس التعدد السكاني في الحضر والريف، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة، ويظهر ذلك من خلال تعدد الشخصيات ذات الأصول المتنوعة: الأرمينية، والتركية، والإيطالية، وغيرها. هذه الشخصيات تأتي لتكمل صورة مصر الكوزموبوليتانية التي جمعت بين مختلف الأعراق والديانات في سياق اجتماعي واحد.

ويشير القرملاوي من خلال هذه الشخصيات إلى التنوع الثقافي في المجتمع المصري، وإلى كيفية تأثير هذا التنوع على تشكيل الهويات الشخصية، العلاقة بين الشيخ وفاضل التركي، أو علاقة نشأت مع ليليت الأرمنية، كلها تأكيدات على تفاعل الأصول والتاريخ الاجتماعي الذي شكل هوية مصر المعاصرة.

إن توظيف القرملاوي للأحلام وتأويلاتها يعد عنصرًا أساسيًا في بناء عالم الرواية. الحلم في "ورثة آل الشيخ" لا يمثل مجرد حالة من اللاوعي، بل هو آلية سردية تكشف عن الرغبات المكبوتة والهموم المستترة. فالكنز الذي يلاحقه أفراد العائلة ليس فقط ماديًا، بل هو أيضًا رمز لمطلب أكبر: البحث عن الهوية، والمستقبل، وتفسير ماضيهم المضطرب. كما أن الحلم يكون ذا دلالة رمزية في كثير من الأحيان، ما يمنح النص طابعًا سحريًا يعكس الارتباط العميق بين الواقع والخيال.

تتميز لغة "ورثة آل الشيخ" بأنها قوية وبناءة، تتميز بالتركيبات الشعرية والمجازات التي تضفي على النص أبعادًا فلسفية وفنية عميقة. تتناغم هذه اللغة مع تطور الأحداث والشخصيات، فتتناسب أحيانًا مع اللحظات الحسية والمشاعر المكبوتة، وأحيانًا أخرى مع المواقف الدرامية التي تتطلب تجسيدًا دقيقًا للصور، وتضفي هذه الصور على النص طابعًا سحريًا شاعريًا يربط القارئ أكثر بمشاعر الشخصيات.

يمكننا القول إن "ورثة آل الشيخ" تقدم نصًا سرديًا معقدًا يتراوح بين الواقع والمتخيل، التاريخي والإنساني، معبرًا عن رحلة البحث عن الذات والهوية في إطار مجتمع مصري متعدد الأبعاد. ويظل التساؤل الذي يطرحه النص في النهاية: إلى أي مدى يمكننا الوثوق في الواقع الذي يقدمه الراوي؟ وما هي المناطق التي يملؤها خيال الكاتب ليضفي على السرد أبعادًا أكثر سحرية؟

إن "ورثة آل الشيخ" هي عمل روائي يطرح تساؤلات كثيرة حول الهوية والتاريخ والذاكرة الشخصية والجماعية، ويظل نصًا حيويًا يتحدى القارئ للتفكير في العلاقة بين الحلم والواقع، ما بين الماضي والحاضر، في مجتمع ينكسر فيه الزمان والمكان، لكن تبقى الشخصيات والأحلام تراوح مكانها تبحث عن الكنز.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة