الحب يسمو ويحلق فوق مشاعر الكراهية والبغضاء والعداء والفن الراق والهادف هو السلاح الفعال في مواجهه التطرف والعنف وتغييب العقل
تلك هي رسالة العرض المسرحي الاستعراضي الغنائي الرائع " مش روميو وجولييت" الذي يواصل أيامه عرضه بنجاح فائق على خشبة المسرح القومي..فأنت أمام عرض مسرحي توافرت له كل أسباب التفوق والنجاح ليحقق للمتفرج المتعة والبهجة والرسالة الواضحة يستعيد به المسرح القومي بريقه التاريخي ودوره الثقافي والتنويري الرائد واسهامه في قضايا المجتمع .
شاهدت العرض في الأسبوع الماضي وتصادف وجود الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة والمخرج هشام عطوة رئيس البيت الفني للمسرح والدكتور أيمن الشيوي مدير المسرح القومي. المسرح ازدحم بالجمهور الذين تفاعلوا بعفوية واعجاب مع العرض والاستعراضات والغناء الذي تألق فيه بحضوره الطاغ كعادته المبدع على الحجار والذي يعود الى خشبة المسرح بعد غياب
"مش روميو وجوليت" من الأعمال القليلة التي تواصل عروضها بنجاح وتجاوزه 80 ليلة مسرحية بسبب الاقبال غير المسبوق من الجمهور لمشاهدته وهو ما يثبت عكس ما يروج له أصحاب نظرية " الجمهور عاوز كده" لتبرير الأعمال الفنية السطحية والساذجة والخالية من أي مضمون أو رسالة بل تمثل خطرا كبيرا على المجتمع المصري بقيمه وعاداته وتقاليده.
فالفن الجاد والذي يقدم محتوى ومضمون راق ورسالة هادفة وتتوافر له كافة عناصر النجاح والاستمتاع بالفرجة الفنية يقبل عليه الجمهور بالالاف حتى لو استمر عرضه لمئات الليالي.
وهنا يأتي دور المسرح القومي ومسارح الدولة والمسرح عموما في معالجة مختلف المشكلات المجتمعية، بما يمتلكه من قوة مؤثرة في تشكيل الوعي والوجدان وخلق جيل قادر على مواجهة التحديات بعروض تحقق المتعة والابهار بعناصر مسرحية مكتملة الاركان اخراجا وتمثيلا ونصا وغناء وتلحينا واضاءة وديكورا.
عرض "مش روميو وجوليت" من إنتاج فرقة المسرح القومي، ويضم نخبة من النجوم، منهم: الفنان علي الحجار، والفنانة رانيا فريد شوقي، والفنان ميدو عادل، والفنان عزت زين، والفنانة دنيا النشار، والفنان طه خليفة، والفنان آسر علي، والفنان طارق راغب، والمطربة أميرة أحمد.
قام بإخراج العرض عصام السيد، وكتابة النص الشعري أمين حداد، مخرج منفذ صفوت حجازي ، وموسيقى وألحان أحمد شعتوت، واستعراضات شيرين حجازي، وديكور محمد الغرباوي، ومساعدي الإخراج حمدي حسن ومحمود خليل، وإضاءة ياسر شعلان، وملابس علا جودة ومي كمال، وجرافيك محمد عبد الرازق، دعاية محمد فاضل القباني.
العرض صرخة ناعمة مغلفة بالعذوبة والرقة والانسيابية ضد شيوع خطاب الكراهية والعنف والتطرف ودعوة للتسامح والتكاتف والوحدة في مواجهه طيور الظلام ودعاة الفتنة والتطرف "رجل برجل و إيد مع إيد...ضلمة تقل و نور ح يزيد "
"مش رميو جوليت" معالجة استعراضية وغنائية، تستلهم من النص الأصلي للكاتب الانجليزي وليم شكسبير " روميو وجوليت" معاني وأفكار الحب الذي ينتصر للخير والحق والعدل والجمال. والمسرحية هي إحدى روائع شكسبير كتبها من حوالي 450 سنة بين عامي 1593 و 1596وكان لها انتشارها الواسع على خشبات مسارح العالم العربي.وهي من الكلاسيكيات العالمية التي قدمتها أعمالا فنية كثيرة في مصر وباقي دول العالم حتى أصبح أي شخص عاطفي أو مغرم يشار إليه باسم روميو وكذلك الحال بالنسبة لجولييت وتحكي قصة الحب في مدينة فيرونا بايطاليا الذي وقع بين روميو ابن اللورد مونتيجيو وجولييت ابنة اللورد كابيوليت رغم العداء والصراع بين الأسرتين وانتصرت مشاعر الحب لكن الثمن الذي دفعه العاشقين كان حياتهما..!
منذ البداية أراد القائمون – بذكاء ودهاء فني رفيع المستوى-على هذا العمل الرائع من خلال اسم المسرحية " مش روميو وجوليت" ايهام المتفرج أن ما يقدمونه لا علاقة له بالنص الشكسبيري الأصلي رغم أنه في رأيي معالجة مصرية أكثر ابداعا . فمدينة فيرونا هنا هي حي شبرا العريق بما يعنيه من دلالات ومعاني انسانية ترسخت داخل وجدان المصريين لمئات السنين دون تفرقة بين مسلم ومسيحي. والعلاقة هنا في الاطار المسرحي العام للعرض ليست علاقة حب بين عاشق وعاشقة أو بين روميو وجولييت وانما علاقة زمالة وصداقة وجيرة وعشرة جمعت بين اثنين من المدرسين من حي شبرا وداخل مدرس الوحدة- لا حظ دلالة اسم المدرسة – بالحي العريق هما يوسف المسيحي الذي يودي دوره بابداع على الحجار ، وزهرة المسلمة التي تؤدي دورها بعذوبة الماء ورقة الفراشة رانيا فريد شوقي،
المدرس والمدرسة ينتميان الى حي شبرا الذي تتعانق فيه المآذن بأبراج الكنائيس وصوت الأذان بدقات الأجراس ويتعايش فيه بقيم الحب والتسامح المسيحي والمسلم من مئات السنين.
هذه العلاقة يرفضها ويحاربها ويستنكرها بعض الطلبة المتزمتين، والمتأثرين بالفكر المتطرف، وتنشأ الخلافات والمشاجرات على خلفية، الرافضين والمؤيدن لهذه العلاقة الانسانية الراقية ، ويضطر يوسف وزهرة للتدخل لتوضيح وتفسير أمر العلاقة للطلبة، فيقابلا بالرفض والنفور،
هنا فيقرر ناظر المدرسة -الفنان الكبير عزت زين أن يشترك الطلبة جميعا فى عمل مسرحي واحد وهورائعة شكسبير (رميو وجوليت)، وعبر هذا العمل المشترك يتم تفكيك بنية الفكر المتشدد، ويستوعب الطلبة الدرس، وعلى خلفية الفن يتقبل الجميع هذه العلاقة البريئة، وتعود مدرسة الوحدة للوحدة من جديد وتنبذ الفكر المتطرف لتيار الجهل والظلام.
نحن اذن داخل الاطار المسرحي العام للعرض أمام استلهام للنص الأصلي لشكسبير من خلال قصص الحب التي نشأت خلال العرض المسرحي الذي اقترحه ناظر المدرسة بين بعض الطلبة والطالبات بصياغة شعرية بديعةلأمين حداد ابن والد الشعراء فؤاد حداد واستعادة مشهد الشرفة التاريخي بسلم متحرك بين روميو وجولييت داخل المدرسة حين تقع ميرنا (دينا النشار)في حب علي(ميدو عادل) زميلها في الفصل وتناجي العذراء مريم أن ترشدها للنور ويصدح علي الحجار أو الاستاذ يوسف بصوته معبرا عن مفهوم الحب الذي لايؤذي الآخرين من الأهل والعادات والتقاليد والمجتمع
الصراع في " مش روميو وجوليت" هو الصراع الطائفي البغيض الذي اثارته تيارات التطرف والعنف منذ السبعينات وحتى الآن داخل المجتمع المصري وليس صراع العائلات في فيرونا وقدم لنا المخرج الكبير عصام السيد لوحة رمزية للكراهية والتطرف في هيئة اشخاص يرتدون ملابس شيطانية سوداء
نحن اذن لانشاهد عرضا مسرحيا واحدا متصلا وانما أمام عرضين مسرحيين، يولد من العرض المسرحي العام، عرض مسرحي آخر يؤكد الرسالة الكبرى والهدف الأسمي في النهاية دون أن ينفصل المشاهد بوعيه عن العرض العام أو يغيب عنه وهو ما يحسب لابداع مخرج كبير بحجم عصام السيد.
ورغم عمق المعنى والرسالة فقد قدم المخرج وأبطال العرض الحكاية ببساطة وتشويق دون تعقيد واغراق بلغة مسرحية غنائية محببة واستعراضات راقصة مبهرة للجمهور. ولا أبالغ رغم عدم تخصصي اذا قلت ان ما يقدمه عرض " مش روميو وجوليت" مسرحا غنائيا يغيب عن مسرحنا منذ فترة ليست بالقصيرة اجتمعت فيه الفنون الثمانية، التمثيل والغناء والرقص والموسيقى والديكور والحركة والإضاءة والألوان..فنحن نغني ونرقص كي نبقى على قيد الحياة.
الديكور للفنان محمد الغرباوي لعب دورا أساسيا وبارزا في العرض بما سمح به من إمكانات بارعة في توظيف الإضاءة للمهندس ياسر شعلان وتوظيف عروض الفيديو للقطات سينمائية أرشيفية قديمة لحي شبرا وربما من المرات القلائل التي أشاهد فيها احدى عروض المسرح القومي يستخدم فيها المخرج خشبة المسرح بهذا العمق لمشاهد متزامنة على خلفية اسم المدرسة بديكورات غاية في الروعة
وجود الرائع على الحجار في عرض " مش روميو وجوليت" هو أحد اهم عناصر الجذب للعرض بصوت الشجن والبهجة في آن واحد. يعود علي الحجار الى المسرح بعد غياب سنوات طويلة رغم رصيده المسرحي الذي يتجاوز ثلاثين عملا مسرحيا. يعود الحجار بكل هذا الألق والتألق بحضور فني طاغ وقف له الجمهور مصفقا أكثر من مرة ليؤكد أنه فنان واعيا ومثقفا ومهموما ومهتما وصاحب رؤية فنية تدرك أهمية الفن وتأثيره
ومع الحجار تأتي الفنانة الجميلة الرقيقة صاحبة الأداء السهل الممتنع والسلس والبسيط والمبهج رانيا فريد شوقي والنجم الصاعد بسرعة الصاروخ محمد أو ميدو عادل بأداء ولا أروع وقدرة تمثيلية عالية المستوى
والفنان القدير الرزين عزت زين والفنان طه خليفة بالاضافة الى مجموعة رائعة من الفنانين الواعدين والفنانات الواعدات من الشباب مثل دنيا النشار وآسر علي وطارق راغب والمطربة أميرة أحمد..
بصراحة فان عرض مش روميو وجوليت" عرضا استثنائيا متميزا ومبهرا وممتعا يرسخ الثقة في مسارح الدولة والمسرح القومي ويليق به بما يمنحه لقيمة الفن في عمومه والمسرح بصفة خاصة
كل الحب والتقدير والتحية والدعم لفريق عمل «مش روميو وجولييت» والشكر الوافر للصديق للدكتور أيمن الشيوى مدير عام المسرح القومى ،
واشادة خاصة بقرار وزير الثقافة الدكتور الفنان أحمد هنو على عرض المسرحية بالاسكندرية ونتمنى أن يشاهد كل جمهور المحروسة هذا العرض
كما نتمنى على الشركة المتحدة للخدمات المتحدة أن يتم تصويره لعرضه تليفزيونيا على شاشات فضائيتنا المصرية ليشاهده جميع المصريين، فالفن الحقيقي هو الحل .. وهو القادر على صيانة الوعي والارتقاء به وتنقية الوجدان ..وهو القادر على مواجهه التحديات
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة