عقب انتهاء الاعتصام الذى ساده جو من التفاؤل والانتصار، لم يكن بالإمكان إنكاره، فقد أحسن الجميع- وبينهم كثير لم يسبق له خوض هذه التجربة المرهفة- إن ما حدث يكفى فقد استمعت أعلى مستويات الدولة إليهم، وأجبرت الرجل المتشبث بالمنصب الذى خطط لسيطرته عليه عبر صداقات مجلس الشعب أنجزت له «طلبه» فى يومين فقط على الامتناع عن الترشح وتأجيل الانتخابات ولم يكن الفنانون معادين- بالمعنى السياسى- للنظام، فقد قالت تحية كاريوكا وهو تغادر مبنى النقابة: أنا أكثر من سعيدة، ونحن نشكر سيادة الرئيس، وقالت فردوس عبدالحميد: لقد وقف الرئيس بجانب الفنانين ونصر قضيتهم، وما كنا نستطيع أن نفعل ما فعلناه إلا فى ظل المناخ الديمقراطى الذى تتمتع به، وقال عبدالعزيز مخيون: كل ما نرجوه نريد منه حرية التعبير وقليل من قيود الرقابة، وتوفير ظروف عمل كريمة للحفاظ على شرف الكلمة والفن، وكتب الكاتب الكبير رؤوف توفيق فى «صباح الخير»: «المسألة إلى هذا الحد لا يمكن اعتبارها منتهية فلابد للمخطئ أن ينال عقابه.. أطالب بالعقاب السياسى للذين أخطأوا فى حق هيبة النظام وفى حق مسيرة الديمقراطية»، وكتب أيضا: إن تجربة تضامن من الفنانين على قانون سيئ السمعة يجب ألا تنتهى بهذه النهاية السعيدة، ويعود الجميع إلى شؤونهم الخاصة وإلى تفككهم، فما زالت هناك قضايا مهمة فى الثقافة والفن تحتاج إلى رأيهم وتضامنهم. مثلا هناك قضايا صناعة السينما المصرية وضرورة تحريكها من خلال القنوات الشرعية فى الجمعيات العمومية للنقابات وفى مجلس الشعب حتى نصل إلى قوانين ملزمة تحمى تلك الصناعة الثقيلة، لأنه من المؤسف أيضا أن تتدهور أحوال استوديوهات السينما المصرية ومعاملها إلى الدرجة التى يرتع فيها اللصوص والمخربون والعقليات البالية المتحجرة حتى تحولت المصانع الرئيسية لصناعة السينما إلى خرابات بالمعنى الحرفى للكلمة، فالتآكل لم يقتصر على الآلات فقط بل وصل إلى الذمم».
وكتب أخيرا: «وكان يتحدث إلينا اليوم والساعة»: إن استمرار صحوة الفنانين هو الضمان الوحيد لتحقيق المطالب والأهداف التى طالما تحدثنا عنها ولم تقبل أبدا إلى عتبة التفنن الفعلى.. وهذا هو الوقت المناسب.. وبعد،
وهل أقول والأسى يتملكنى أن كل هذا- وبعد مرور37 عاما- لا يزال واقعا مؤلما، فالقانون 103 ما زال ساريا وما زالت الشركات الصغيرة محرومة من المساهمة النقابية، لأن قانونا متعسفا ساوى بينهما وبين الاحتكارات الكبرى، وما زال النقباء يتأبدون فى مناصبهم وما زلنا نرى بأعيننا تدهور صناعة عظيمة كثيرا ما احتكرناها.. فنا وسوقا وصناعة تفلت من بين أيدينا، وتهرب قواها الناعمة إلى خارج الوطن بحثا عن «الرزق» عبر أشكال من العبث لا تمت للفن بأى صلة».
ما علينا.. نعود للأستاذ، نعود ليوسف شاهين الذى قرر أن يصنع فيلما، تدور أحد محاوره الأساسية حول اعتصام الفنانين فكان «إسكندرية كمان وكمان»، وبحثنا عن المصداقية، فقد استعان بشخصيات «حقيقية» من داخل الاعتصام، مثل تحية كاريوكا وتوفيق صالح وحسن عبدالقادر، وطبعا تجاهل دورى باعتبارى لم أكن سوى مساعد مخرج مشاغب، ولكن ذلك لم يمنعه من منح دور «اليسارى الحنجورى»، الذى رآنى فيه إلى الفنان هشام سليم، والذى اتصل بى قبل التصوير ليسألنى عن «طبيعة» الشخصية فشكرته وقلت له بالحرف: هذه وجهة نظر الأستاذ وما عليك إلا الالتزام بها، ولا أعبرتها تأريخا يستعدى الدقة ولا حتى الحقيقة التى هى نسبية بطبعها. وطبعا من يرى الفيلم دون أن يكون متابعا لملابسات الاعتصام، والموقف كله لا بد أن يصل إلى استنتاج أن «شاهين» كان هو المؤسس والقائد والزعيم الروحى لهذا العمل الذى انضم إليه- بعد الرفض- قبل انتهائه بأيام قليلة، طبعا لا يمكن إنكار أن وجوده- ولو لساعات قليلة- ساهم فى الترويج لمطالبنا والضغط لتحقيقها.. ولكن الحقيقة يجب أن تقال لإنصاف آخرين- غادرونا أو ما زالوا بيننا- وتذكير الناس بجدارتهم بالذكر والإكبار».
قبيل انتهاء الاعتصام وبعد حالة جميلة من التواصل الإنسانى مع الأستاذ، حيث كنا ننام فى غرفة واحدة مع باقى القادة- تصافينا حول موقفى من الكتابة منتقدا «الوداع بونابرت»، لم أعتذر ولكنى سألته بوضوح: «جو.. أنت قريت اللى أنا كتبته؟ ورد جو فورا: لا طبعا أقراه فين؟ وكنت قد نشرته فى نشرة نادى السينما».. فضحكت وضحك.. وقلت: يعنى تحرمنى من صحبتك وأستاذيتك سنين عشان حد قالت يا أستاذ؟! فقال: أيوه طبعا تشتغل معايا وبعدين تخونى؟ قلت له: لم أخنك يا أستاذ أبدا وما زلت أعتقد أنك مخرج عظيم.. لم يعجبنى العمل ولم أستطع أن أخون نفسى بالصمت حتى لو كنت عملت بالفيلم كمساعد ثالث لا دور له فى صناعة فكر الفيلم ومحتواه، واحتضنت الأستاذ وانتهى الأمر.
والآن أقفز سنوات أختم بها حديثى عن شاهين.. كان مهرجان أوبر هاوزن هو أهم مهرجان للسينما التسجيلية فى العالم، وقد رشح أول أفلامى التسجيلية «حكايات من الزمن السعيد» من إنتاج المركز القومى للسينما للمسابقة الرسمية بالمهرجان، وفوجئت عند وصولى أن فيلم الأستاذ «القاهرة منورة بأهلها» يشترك فى نفس المسابقة، وهو أمر أحاطنى بفخر عظيم إذا أصبح «الأستاذ».. زميلا فى نفس المهرجان وتحت نفس الشروط، وسعدت بترحيب نقدى وجماهيرى بفيلمى الأول حتى إنه ذكر فى بداية الحفل الختامى للمهرجان، باعتباره حاصلا على تنويه خاص من لجنة التحكيم، أما فيلم جو فلم يفز بأى جائزة».
وبعد عودتى من ألمانيا بأيام قليلة، فوجئت بمكالمة من الصديق يسرى نصر الله فسألنى: هل لديك نسخة من فيلمك؟ واجبته نعم لدى نسخة 35مم لم أعدها بعد إلى المركز، فقال يسرى: هاتها وتعالى، الأستاذ عايز يشوف الفيلم، وفى مكتب الأستاذ وبأن له عرض 35مم شاهدنا الفيلم، ولا أذكر سوى سعادة غمرتنى لسنوات امتنانا لما قاله الأستاذ عن الفيلم وعن بساطته وصدقه.. عرفت ساعتها معنى أن تكون أستاذا ومتحققا تحب أن ترى الجميع فى أفضل حال، وتذكرت حماسة لإنتاج المقامات لصلاح أبوسيف زميله المتبرع، وغيرها من المواقف مع يسرى ورضوان وزكى فطين.. إلخ.
وأختم به وقد دعوته لمشاهدة عرضا محدود- داخل المعمل- لفيلمى الأول «يا دنيا يا غرامى»، تأخر عن الحضور- وكان يسرى معه أيضا- عشرة دقائق وقد بدأ الفيلم، اقترحت عليه أن أوقف العرض وأبدأه من جديد، فرفض ودخل إلى القاعة المظلمة ولم يجد مكانا خاليا، فجلس على الأرض أمام الشاشة طوال مدة عرض الفيلم رافضا أن يتبرع له أى شخص بمقعده».
غادر جو بعد نهاية الفيلم ولم أسمع رأيه، ولكنه فى صباح اليوم التالى أسمعنى تلفونيا ما أخجل من مجرد تذكره مدحا ومحبه.. بل إنه أعلن عن تجمعات كبيرة أن هذا الفيلم من أفضل ما رأى من 20 سنة الأخيرة، وحاول- وإن جاءت محاولته متأخرة- أن يوصى بدخول الفيلم مسابقة مهرجان كان فى السنة التالية.
هكذا تكون الأرواح الكبيرة والنفوس المتحققة.. أجزم أن من لم يعمل مع شاهين أو من لم يقترب منه مهنيا قد خسر الكثير.. ثقافة وفنا واحتراما ومحبة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة