قضية العبودية تمثل "وصمة" فى جبين البشرية، حيث استغلال الإنسان للإنسان فى أكثر الصور قسوة وصراحة، فمما يثير الأسى والخجل أن "يشترى" صاحب حياة حياة أخرى ليعيش بحياتين أو أكثر.
بدأ الرق منذ آلاف السنين وبالتحديد فى فترة التحول من الصيد إلى الزراعة، كما يقول المؤرخ "ول ديورانت" فى موسوعته "قصة الحضارة"، لتتعامل الأمم مع العبيد ببشاعة، تساوى فى هذا أكابر الفلاسفة مع أجهل الناس، فأفلاطون يرى أن العبيد لا يصلحون لأن يكونوا مواطنين فى مدينته الفاضلة، وكذلك تلميذه أرسطو، أما الأوربيون فكانوا حتى القرن الـ19 يعتبرونهم بلا روح ولا إرادة، ولا يجوز لهم كسب المعرفة، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بالرق، فالإصحاح الـ21 من سفر الخروج يقول: "إذا اشتريت عبدا عبرانيا فست سنين يخدم"، فى حين أوصى بولس الرسول وتوماس الإكوينى الأرقاء بطاعة مواليهم، لأن ذلك من تعاليم السيد المسيح.
لكن.. ماذا عن موقف الإسلام؟
هنا إجابتان: الأولى تقول أن الإسلام تعامل بحكمة مع العبودية لتجذرها فى المجتمعات البشرية كافة، فاختار "القانون" طريقا "متدرجا" لتحرير العبيد، فأدخل فى قاموس البشر ـ للمرة الأولى ـ مصطلح "العتق"، وسن عشرة مواد لـ"تحريرهم"، منها كفارات الذنوب، وأحد بنود ميزانية الدولة التى أنشأها.
الإجابة الثانية ترى العكس، فالإسلام أقر الرق ووضع له أحكاما، وسواء أكانت رحيمة أم قاسية، فهى ـ على أية حال ـ دليل إقرار، ومن ثمّ فهذه "ثغرة" معيبة تثبت أن هذا الدين دين من الماضى، وأن البشرية التى تجاوزت الرق يجب أن تتجاوز معه الإسلام وسائر الأديان التى كانت قادرة على جب العبودية فورا وبالأمر المباشر ـ كما جبت الخمر والزنى وسائر القبائح الأخرى ـ لكنها لم تفعل.
هذا المقال يبحث عن الحقيقة، فهو ليس مرافعة دفاع عن الإسلام، أو محاولة لستر ثغرة فيه، إنه فقط مجرد "استعراض" لعدد من المعطيات تاركا الحكم للقارئ نفسه.
لكن القارئ المقصود هنا هو القارئ "الحر"، وأعنى به المنصف الموضوعى الباحث عن "الحقيقة حيث كانت"، وليس القارئ "العبد" المأسور لحكمه المسبق، أو المدفوع بالخصومة والحقد، فهذا الأخير غير قادر على الانفتاح على ما يخالفه.
وأبدأ بطرح سؤال: هل هناك فارق طرأ على العبودية بمجىء الإسلام؟
الواقع يقول نعم.. كانت العبودية قبل الإسلام "إصابة قاتلة.. لا فرصة للنجاة منها"، لكنها بعده تحولت إلى "إصابة غير قاتلة وفرص النجاة منها متعددة"، أو بتعبير آخر كانت العبودية "غرفة" لها باب واحد هو الدخول، وليس ثمة باب للخروج، من يدخل لا يخرج، فجاء الإسلام ليفتح فى هذه الغرفة ـ بأزميل التشريع ـ "عشرة أبواب" كلها "خروج" وحتى باب "الدخول الواحد"، لم يصدر به تشريعا ولم يقره.
لكن.. لماذا اختار الإسلام "القانون/ التشريع" طريقا يتدرج به فى "تحرير العبيد" وهو الذى كان يمكنه فعل ذلك بالأمر المباشر وتنتهى القضية؟
الواقع أيضا يقول أنه لم يكن من الحكمة مكافحة العبودية بالأمر المباشر، فقد كانت تجارتها رائجة وكثيفة وكانت جميع المجتمعات تعج بالعبيد، حيث يشكلون ـ فى معظمها ـ ثلث السكان أو أكثر، ومن ثمّ فالتعامل مع العبودية يختلف عن التعامل مع الزنى الذى جبه الإسلام بالأمر المباشر لأن ضرره وقبحه معلومان، كما يختلف عن الخمر التى جبها الإسلام على مراحل لأنها كانت نشاطا اقتصاديا له منتفعون.
هذه ليست مبررات صمت الإسلام عن العبودية، الإسلام ينفى أنه صمت عنها، هو فقط اختار الهدوء والقانون طريقا لمكافحتها، ذلك أنه لو كافحها بالأسلوب العسكرى المباشر، لاشتعلت الحروب الأهلية، فالسادة يدافعون عن أموالهم والعبيد يدافعون عن حريتهم، وهذا ما حدث ـ مثلا ـ فى الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861م التى كانت واحدة من أكثر الحروب دموية (استمرت أربع سنوات ومات فيها 750 ألفا)، كما أن العبيد عادة ما يكونون غرباء عن مجتمعاتهم الجديدة ولا مكان لهم فيها ـ كمأوى ومطعم وحماية ـ إلا فى ظل سادتهم، أيضا مثلت العبودية نظاما مقبولا للمنتصرين يحافظون به على حياة المهزومين بدلا من ذبحهم فى ميادين المعارك، صحيح أنه لم يوفر لهم ـ فى بعض الأحيان ـ بديلا أفضل كثيرا من الموت، إلا أنه كفل لهم ـ من وجهة نظر ما ـ البقاء، وأعطاهم ـ على المستوى الحضارى ـ فرصة التأثر والتأثير الثقافى، فنمت المجتمعات بالتنوع ودمج الأخلاط.
لكن ماذا عن أحكام الرق التى تعج بها كتب الفقه؟
هذه الأحكام لها مصدران الأول الإسلام ذاته حيث يجب أن يتعامل مع "الواقع" والرق جزء منه، فنجد ـ مثلا ـ أحكام القصاص الواردة في سورة البقرة تفصّل هذه المسألة، والثانى أحكام بشرية، وضعها "بعض" الفقهاء الذين كانوا يمارسون الاسترقاق بحكم العادة وأبجديات العصر، كما أن عددا غير قليل منهم ـ للأسف ـ أخضعوا الدين لبداوتهم بدلا من أن يخضوا بداوتهم للدين، فأنتجوا فقها أبهت عظمة الإسلام فى هذه المسألة وفي غيرها، ومن ثمّ فمن مقتضيات الإنصاف أن نفصل التشريع عن التطبيق، وأن نبحث في الأصل لا الممارسة، هنا ينبغى علينا أن نتساءل عن موقف "الإسلام" ـ لا المسلمين ـ من العبودية.
بدأ الإسلام بإغلاق المصدر الرئيسى للاسترقاق، وهو أسرى الحروب والغارات، فهو يشرّع سياستين فقط للتعامل مع هؤلاء، ليس من بينهما الاسترقاق، تقول الآية 4 فى سورة محمد: "إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا"، فالأسرى ـ وهم غير مسلمين ـ يتم التعامل معهم بأحد أمرين: إما "المن" أى إطلاق سراحهم دون مقابل، أو الفداء أى إطلاق سراحهم بمقابل، ورسول الإسلام يؤكد ذلك حكيا عن الخالق، بقوله: "قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه"، النص قال "حرا" ولم يقل مسلما، من ثمّ فالإسلام "يغلق" باب العبودية بالأسر.
هذا الإغلاق يتبعه فتح 10 أبواب في "حجرة العبودية" للنجاة منها، أعظمها على الإطلاق هى مادة "رغبة العبد فى العتق"، وتسمى بـ"المكاتبة"، إذ نجد كتاب المسلمين المقدس يصيغ هذه "الرغبة" كمادة قانونية ملزمة للسيد، صحيح أن بعض الفقهاء قالوا بعدم الإلزام هنا، إلا أنه لا وزن لكلامهم مع صيغة الأمر الواردة فى الآية 33 من سورة النور: "وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ"، فالعبد يفاوض سيده على عدد من سنوات الخدمة مقابل ما دُفع فيه من مال، و"إن الشرطية" الواردة فى الآية لا تعنى "تعليق" استجابة السيد للعبد على وجهة نظره فيه، وإنما المقصود بها "إن كان العبد قادرا على الكسب والحياة المستقلة فى مجتمعه الجديد" ـ كما قررت التفاسيرـ فبعض العبيد لا يحسنون "صنعة" ومن ثمّ لا يستطيعون الاستقلال بحياتهم عن حياة سادتهم.
عظمة هذه المادة القانونية/ الآية لا تقتصر فقط على تحويلها "أجل" العبد "الممنوح كله" "مجانا" لسيده، إلى "أجل" "مؤقت" "مدفوع"، بمجرد رغبة "العبد" فى هذا، بل إنها ـ أيضا ـ تأمر "السيد" بأن يعطى عبده المحرر "مكافأة نهاية خدمة"، ليبدأ بها حياته بقولها: "وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ" (لاحظ أسلوب الأمر).
هنا نظن أن إجابة سؤال المقال عن إقرار الإسلام للرق من عدمه قد استوفت، إلا أن المادة نفسها لم تسوفِ، فماذا عن باقى المواد التى وضعها الإسلام لـ"مكافحة الرق"؟
نجيب ـ دون إطالة ـ بأن الإسلام أدرج "مكافحة الرق" ضمن "ميزانية" الدولة التى أنشأها، فهى تحتوى "بندا" ـ ترتيبه الخامس ـ ينفق منه على "تحرير الرقاب"، بالآية 60 من سورة التوبة: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ" (التوبة 60)، وكلمة الرقاب ـ ككلمة "الناس" وكلمة "حر" ـ هى كلمة "عامة" تعنى أن النص يقصد "البشر": مسلمين وغيرهم.
وهنا يأتى السؤال لكل منصف.. أليس من المذهل حقا أن نرى نظاما ـ فى القرن السابع الميلادى ـ يخصص "ميزانية مستقلة" لتحرير الناس دون مقابل، تحريرهم من أجل تحريرهم وليس لأى شىء آخر؟..
ذلك أنه فى هذا القرن (السابع الميلادى) وقبله وبعده حتى القرن التاسع عشر لم تعرف البشرية نظاما مشابها، فقط فى القرن العشرين ارتقت البشرية ـ أخيرا ـ للمستوى الذى بلغه الإسلام قبل 1400 عام.
هذه التشريعات امتدت أيضا لنظام معالجة خطايا المؤمنين، أو ما يسمى بـ"كفارات الذنوب"، فقد أدرج الإسلام "تحرير الناس" ضمنها، ومنها خطايا: "الظهار" أى تطليق الزوجة لفظيا، و"الإفطار فى نهار رمضان"، و"القتل الخطأ"، فهذه الثلاثة لا يمكن مغفرتها ـ وجوبيا ـ إلا بـ"إطلاق سراح شخص ما"، وهناك ثلاث خطايا أخرى هى: "الإيلاء" أى هجر الزوجة، و"النذر" و"اليمين الكاذب"، يغفرها الله بإحدى ثلاث كفارات منها "إطلاق سراح شخص ما".
هذا النظام فى معالجة الخطايا امتد لعقوبة الاعتداء البدنى على "العبد"، فقد نص رسول الإسلام على أن "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"، ما يعنى أنه "لا سبيل للحفاظ على مال السيد إلا الحفاظ على كرامة العبد"، فتظل كرامة العبد "مصانة" إلى أن يصيبه الدور، فيتحرر برغبته/ المكاتبة أو بـ"الميزانية المخصصة للتحرير" فى مال الزكاة أو بإحدى الكفارات الست، كما رغّب الإسلام بشدة ـ وهذا هو الباب العاشر لمكافحة الرق ـ فى التقرب إلى الله بعتق الرقاب، فآيات سورة البلد ترتب الأعمال التى تمثل "قربات كبرى" إلى الله فيأتى "فك الرقبة" متقدما عليها جميعا، فهى أعظم من إغاثة الناس بالطعام وقت المجاعات وأعظم من مساعدة اليتامى والمساكين وغيرهم، بقولها: "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)".
وتؤكد المصادر أن الرسول محمد مات دون أن يكون فى ولايته أى رقيق على الإطلاق، بل كان يطلق عليه مسمى: "محرر العبيد" لكثرة من حررهم بنفسه أو تسبب فى تحريرهم بشكل غير مباشر، كما يسجل تراث المسلمين أنه عند موته لم ينسَ هؤلاء المنكوبين فأمر بهم خيرا فى وصيته الأخيرة قائلا: "الله الله فيما ملكت أيمانكم"، والتحليل اللغوى لهذه الجملة يقول أنه استخدم اسم الجلالة المقدس فى نفوس المسلمين مرتين لتوكيد مضمون جملته.
وبمناسبة الكلام عن اللغة، نجد أن المصطلحات التى وضعها الإسلام للتعامل مع هذه الفئة "تحشد" مشاعر التعاطف والدعم الوجدانى، فهناك: "الرق"، و"العتق"، و"تحرير الرقاب"، بل نهى الرسول عن مناداة هؤلاء بالعبيد فى قوله: «لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ عَبْدِى وأَمَتى، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وكُلُّ نِسائِكُمْ إماءُ اللهِ، ولَكِنْ لِيَقُلْ غُلامِى وجارِيَتى وفَتاىَ وفَتاتِى.» (الجارية هى الفتاة الصغيرة)، كما وضع الإسلام لـ"الرقيق" الحقوق والواجبات الدينية نفسها التى للسادة، فالعبد يصوم رمضان ويصلى الصلوات الخمس.. إلخ، كما رفض الرسول محمد موقف صديقه أبو ذز الغفارى بعد أن عاير أحد العبيد، فقال له الرسول: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم -أى: ما يغلبهم وما لا يطيقون- فأعينوهم.
هذه المادة المتعلقة بأسلوب تعامل الإسلام مع قضية "الرق" لم تنتهِ ـ فهى تحتاج إلى أكثر من مقال ـ لكن نظن أن الحقائق المطلوبة للإجابة على سؤالها الرئيسى أعلاه قد استوفت.
فهل شق الإسلام بأحكامه طريقا للقضاء على الرق أم أنه اعترف به وشجع عليه؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة