أدرج الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، برئاسة المهندس محمد أبو سعدة، اسم يوسف الجندى، في مشروع حكاية شارع، حيث تم وضع لافتة تحمل اسمه وعنوانه على الشارع.
ولد يوسف أحمد الجندي في مدينة زفتى التابعة لمحافظة الغربية في عام 1893، تلقى تعليمه بها حتى حصل على البكالوريا، التحق بعدها بكلية الحقوق، واشتهر وهو طالب في الكلية بمناقشاته الثورية، وتم فصله في العام التالي 1914 من كلية الحقوق لأنه حرض الطلبة على الإضراب احتجاجًا على إعلان الحماية البريطانية علي مصر عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أنه أعيد ثانية إلى الدراسة بالكلية، وحصل على ليسانس حقوق عام 1916.
عمل يوسف الجندي عقب تخرجه بالمحاماة، وكان دائمًا مشغولًا بقضايا وطنه، والنضال ضد الاحتلال الإنجليزي. وعندما جاء يوم 8 مارس عام 1919، واعتقل سعد زغلول باشا ورفاقه، وهم: حمد الباسل باشا ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وسينوت حنا بك ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات، وتم نفيهم جميعا إلى جزيرة سيشل، ومن ثم اندلعت ثورة 1919، وخرج المصريون عن بكرة أبيهم مسيحيون ومسلمون في مظاهرات صاخبة في شتى أنحاء مصر لتسجيل غضبهم ضد هذا الإجراء التعسفي.
وكان هناك في بلدة صغيرة على الضفة الغربية لفرع نيل دمياط تدعى زفتى مجموعة من الشباب الجامعي والفلاحين والتجار فكروا في عمل شيء يساعد في الإفراج عن سعد زغلول باشا ورفاقه، وكان من ضمن أفراد تلك المجموعة يوسف الجندي وأخوه الأكبر “عوض الجندي” المحاميان، وكلاهما كان من الذين ساندوا سعد زغلول باشا قبيل ثورة عام 1919، ولهما سابقة حماس حوسبا عليها.
لافته يوسف الجندى
ومنذ أن بدأت حركة الوفد عام 1918 بدأ الشقيقان يترددان بين القاهرة والريف ولمع يوسف بالذات في جلسات ثائرة في محلات جروبي بوسط القاهرة والتي كانت من منتديات الثورة، وأيضًا لمع اسمه في مجادلات ولقاءات كانت تعقد في حديقة بيت الأمة وفي خطب عنيفة كان يلقيها من فوق منبر الأزهر الذي كان قاعدة الثورة وكان مع هذين الشقيقين “الشيخ عمايم” و”محمد أفندي عجينة” صاحب مكتبة للأدوات المدرسية ومطبعة، وبعض أصدقائهم وكانت تلك المجموعة تلتقى في مقهى “مستوكلى” بميدان بورصة القطن بمدينة زفتي، واتفقوا على الانفصال عن المملكة المصرية وإعلان الاستقلال وإنشاء جمهورية زفتى، وبعد أن تبلورت الفكرة بدأوا في التحضير لإعلان الاستقلال صباح يوم 18 مارس عام 1919 وقاموا بتحفيز أهل المدينة للمشاركة والنضال ضد الإنجليز وتجاوب معهم جميع أهالي البلدة من فلاحين وأعيان وشباب وطلبة، حيث نظم طلبة مدرسة “السيد بك كشك الثانوية” بزفتي مظاهرة طافت في المدينة تندد بالاحتلال الإنجليزي وتطالب باستقلال البلاد والإفراج عن الزعيم سعد زغلول باشا ورفاقه، وانضم إليها الأهالي ووصل الأمر لتوسل رجل من الخارجين عن القانون للانضمام لهم، وكان يدعى سبع الليل وكان يتزعم عصابة مسلحة تروع البلدة والقرى المجاورة، وطلب من أهل البلدة المشاركة معهم وإعلان توبته لرغبته في قتال الإنجليز فان مات فسيصبح بطل قومي وأوصى منشد البلدة أن يتغنى ببطولاته لو قتله الإنجليز.
وذهب يوسف الجندي ومعه بعض أهالي البلدة إلى ضابط نقطة الشرطة في البلدة وكان يدعى “إسماعيل أفندي حمد”، ولأنه رجل وطني فقد انضم لهم بشكل غير رسمي، وفتح لهم “السلاحليك”، أي مخزن السلاح، وشارك معهم في التخطيط، ولأول مرة يجتمع رجل الشرطة وزعيم العصابة على هدف واحد وهو محاربة الإنجليز وبعد تحالف رئيس الشرطة معهم تم غلق مداخل المدينة وإعلان قيام الجمهورية في زفتي في صباح يوم 18 مارس، وتم تكوين المجلس البلدي الحاكم لتلك الجمهورية الناشئة برئاسة المحامي الشاب يوسف الجندي، وتم إعلان استفلال جمهورية زفتى عن القطر المصري.
وقد قام المجلس البلدي الحاكم في زفتي بتكوين عدة لجان لتسيير الأمور في الجمهورية الناشئة منها لجنة لتحصيل عوائد البلدية ورسوم شركة الأسواق والتي أخذت تنفق ما حصلته في تحسين مرافق المدينة ولجنة الإمداد والتموين وكانت مهمتها حصر المواد التموينية وحسن توزيعها على أهالي البلدة، ولجنة الإعلام وتولاها محمد أفندي عجينة صاحب المطبعة، وكانت تقوم بطبع المنشورات السريعة لتوضيح الوضع العام في البلدة، كما قامت اللجنة بإصدار جريدة يومية وكان اسمها “جريدة جمهورية زفتى”، ولجنة الأمن والحماية وتولى الإشراف عليها الضابط الشاب إسماعيل أفندي حمد وبمعاونة سبع الليل فجمعوا الرجال من الخفر ورجال سبع الليل والأهالي من القادرين على حمل السلاح وقسموهم إلى مجموعات كل مجموعة تتولى حماية إحدى مداخل البلدة.
علاوة علي ذلك فقد بات على الدولة الجديدة أن تواجه مشاكلها الداخلية فجمع يوسف الجندي الأعيان ودعاهم إلى التبرع ليصبح للدولة خزانة وموارد مالية، وكان قصد يوسف الجندي من ذلك أن يوجد عملًا للأيدي التي تعطلت لظروف الثورة فلا تتحول إلى السرقة أو النهب واستخدم الأموال التي تم جمعها في العديد من الأعمال المفيدة، كما كان الهدف الأساسي من إعلان استقلال جمهورية زفتي هو لفت أنظار العالم كله داخل وخارج مصر لمدى التأييد الشعبي لسعد زغلول باشا ورفاقه.
وبوصول الأنباء إلي القاهرة عن إعلان استقلال جمهورية زفتى طارت الأنباء من القاهرة وعبرت البحار إلى العاصمة الإنجليزية لندن، ونشرت جريدة “التايمز” البريطانية في صدرها أن قرية زفتى قد أعلنت استقلالها عن القطر المصري، ورفعت على مبنى المركز علما جديدًا، كما أنه عندما علم الإنجليز في مساء يوم 18 مارس عام 1919 بهذا الأمر قرروا إرسال قوة للاستيلاء على البلدة عن طريق كوبري زفتى ميت غمر وهي المدينة التي تقع علي الضفة الشرقية لفرع نيل دمياط في مواجهة مدينة زفتى، والتي تتبع محافظة الدقهلية، ولكن الأهالي حين اقتربت القوة من المدينة أخذوا يحفرون الخنادق العميقة في الطرق الزراعية الموصلة إليها لكي يتصدوا لتلك القوات فرجعت وتمركزت في بلدة ميت غمر.
وفى صباح اليوم التالي 19 مارس عام 1919 جاءت الأنباء إلي زفتى بأن هناك قطار قادم إلى البلدة محمل بمئات الجنود والعتاد العسكري، فما كان من سبع الليل ورجاله إلا أن قطعوا قضبان السكة الحديد على مسافة من خارج البلدة حتي لا يتمكن القطار المحمل بالجنود من الوصول إليها، وبالتالي فقد عجز الإنجليز عن دخول البلدة للمرة الثانية، ولكنهم قاموا بمحاصرة المدينة في محاولة للقبض علي يوسف الجندي ورفاقه.
ولخطورة الموقف بصفة عامة في مصر أعلنت بريطانيا خلع السير “ريجنالد وينجت”، المندوب السامي البريطاني في مصر، لتهدئة حالة الهيجان والثورة في مصر في يوم 21 مارس عام 1919، وتعيين الجنرال “أدموند اللنبي” بدلا منه، ومع ذلك استمرت حالة عدم الاستقرار سارية؛ فقد لجأ المصريون في مختلف محافظات مصر إلى تخريب الطرق، وقطع خطوط الاتصالات وأسلاك التلغراف وأعمدتها، كما فعل أهالي جمهورية زفتى نفس الأمر، فتريث الإنجليز حتى تهدأ الأمور في أنحاء مصر.
سقوط جمهورية زفتى
وفى فجر يوم 29 مارس عام 1919 فوجيء أهالي زفتى بعشرات المراكب التي تحمل جنود الإرسالية الأسترالية تقوم بعمليه إنزال للجنود على شاطئ النيل بالبلدة وقيامهم بإطلاق النار في الهواء أو على كل من يحاول عرقلة استيلائهم على البلدة، وقاموا بالتفتيش عن يوسف الجندي، وأعلنوا عن مكافأة مالية لمن يرشد عنه. فما كان من المجلس البلدي للثورة إلا أن طبع منشورًا باللغة الإنجليزية تم توزيعه على الجنود، ومما جاء فيه: أيها الجنود أنتم مثلنا وإننا نثور على الإنجليز لا عليكم أنتم إننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا. ونتيجة لذلك أحجم الجنود عن اقتحام المدينة بالقوة واكتفوا بالانتشار في محيطها.
وعند ذلك الحد أرسلت السلطات المحتلة تعليمات لتسوية الأمور بشروط منها أن يسلم أهالي زفتى 20 رجلا منهم كي يتم جلدهم حفاظًا على هيبة الدولة، وهنا استيقظ الخونة الذين خافوا مغبة دخول الإنجليز، فأرادوا أن يتنصلوا مما حدث في بلدتهم ومعهم الذين يريدون الكيد لمن تصدوا لقيادة الحركة، وأخذ هؤلاء وهؤلاء يرسلون خطابات إلى السلطات في مصر يبلغون عن أسماء الزعماء وكل من حمل معولًا أو ألقى خطابًا أو طبع بيانًا أو ألهب السخط في صدور الفلاحين. وكان مأمور المركز إسماعيل أفندي حمد بخبرته الإدارية يعرف ما يحدث منهم فكان ينفرد بالخطابات البريدية كل ليلة في حجرة مغلقة يفضها واحدًا واحدًا ويتخلص من كل رسالة تنطوي على وشاية أو كيد، كما أنه تدخل في الأمر وتوسط بين القوة والمجلس البلدي الحاكم ونصح الأهالي بالكف عن المقاومة ابقاءً على المدينة، وأذن للقوة بدخولها علي أن لا تتدخل في شئون الإدارة إذ تحمل هو مسئوليتها؛ فدخل الجند المدينة وعسكروا في بحريها وقبليها وأخذوا يبحثون عن أعضاء المجلس البلدي الحاكم، فلم يرشد إليهم أحد، وحظرت القوة علي الأهالي التجول في المدينة من غروب الشمس إلي مطلع الفجر، وبعد نقاش طويل ومفاوضات قرر المجلس البلدي للثورة تسليم 20 رجل تم اختيارهم من الوشاة وعملاء الإنجليز الذين يعرفهم إسماعيل أفندي حمد، وجلد الإنجليز عملاءهم.
وبعد مرور يومين تم فك الحصار عن المدينة وإنهاء الجمهورية وتلقت الفرقة من القاهرة أوامر أخرى تطلب القبض علي يوسف الجندي، والذى كان تحت جنح الليل قد تسلل إلى قرية “دماص” المجاورة واختبأ في دوار العائلة، ومكث فيه لفترة وقبض الإنجليز على بعض رفاقه واحتجزوا شقيقه عوض الجندي رهينة حتى يقول لهم أين يختبأ يوسف، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد أن تأكدوا من أنه حقًا لا يعرف مكان أخيه، ولكن عندما تأكد للجميع أن الأمر قد انتهى قاموا بتهريبه هو ورفاقه إلى عزبة سعد زغلول باشا والواقعة في قرية “مسجد وصيف” واستقبلتهم أم المصريين السيدة “صفية هانم زغلول” وقامت بإخفائهم في أماكن مختلفة حتى أفرج عن سعد زغلول باشا ورفاقه يوم 17 أبريل عام 1919.
ومن يومها ذاعت شهرة يوسف الجندي وأصبح من كبار رجال السياسة والبرلمان المصري، وعقب انتهاء ثورة عام 1919 وإعلان دستور عام 1923، وإجراء أول انتخابات برلمانية في مصر في ظل هذا الدستور، والتي أسفرت عن فوز حزب الوفد بالأغلبية وتم تكليف سعد زغلول باشا بتشكيل أول وزارة شعبية في مصر قام باختيار يوسف الجندي ضمن تشكيله الوزاري، لكن الملك فؤاد رفضه بسبب ما سببه من مشاكل، ولكنه انتخب عضوًا في البرلمان وتولى منصب نائب زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ.
توفي يوسف الجندي في عام 1941 عن عمر يناهز 48 عاما، وما يزال منزله في بلدته زفتى موجودًا شاهدًا علي نضال هذا الرجل الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي.