(القندس) هي الرواية الأولى لمحمد حسن علوان، وهي رواية جميلة، متقنة (إن أمكن استخدام هذا التوصيف لعمل روائى)، تقدم درسا فى الكتابة، وتستكشف أرضا غير مأهولة، تقريبا، فى المساحة التى تتصل بمجال تداخل الأنواع الأدبية.
"درس الكتابة"، فى هذه الرواية، لا يتحقق فقط على مستوى الإحكام البنائى الذى يوازى ـ بدقة وبدأب ـ بين مملكة القنادس فى نهر أمريكى، وأبناء عائلة تقطن الرياض، ولا على مستوى اللغة التى تتخطى الحدود السهلة المبذولة فيما يسمى ظاهرة "الشعر فى الرواية"، وإنما يتحقق هذا الدرس فى الكتابة على مستويات أبعد، تطال تأمل الذات التى توضع هى نفسها موضعا للتأمل، وتأمل العلاقات المركبة لأفراد عائلة فى مجتمع بعينه، بمنحى يجاوز دائرة هذه العائلة وحدود هذه العلاقات، كما تطال هذه المستويات تلك النظرة التى ترنو إلى تجارب الروح، والأحلام، والوقائع، والحب، والنمو، والاكتشاف، والزواج.. إلخ من منظور خاص، يقتنص من هذه التجارب جميعا ما يصلح للتأمل والمساءلة وإعادة الاكتشاف، والرواية تقوم بذلك كله خلال تناول خاص أيضا، هو تناول سردى بامتياز ولكنه يتمثل روح الشعر، لا من حيث هو صياغات لغوية، وإنما من حيث هو إمكان للتحليق، وقدرة على نفى المسافات المكرّسة، المستتبة، المنطقية، بين الوقائع والأشياء والأزمنة.
تتأسس الرواية على التقاط نبرة ثمينة، ثرية، فى الحكى؛ لا تتبع صوتا جاهزا سابقا وتعيد إنتاجه، وإنما تلتقط وتصوغ نغمة خاصة بها. فى هذه النبرة عناصر كثيرة تغذّيها بثراء واضح. من هذه العناصر تلك المسافة الماثلة بين الراوى، "غالب"، وبين العالم من حوله، بأزمنته وبأماكنه وبوقائعه وبشخصياته، وهى مسافة أعمق من تناولات "الاغتراب" الشائعة فى كتابات كثيرة. كما تغذّى هذه النبرة مساحة من البوح غير محدودة، ومساحة من التحرر (إلى حد) فى عالم لا يتيح الكثير من إمكانات التحرر، وربما يغذى هذه النبرة أيضا امتلاك "رؤية" ما، تنتمى إلى العالم الممتد (فيما بين الرياض ومدن الرحيل الأخرى) وفى الوقت نفسه لا تنتمى إلى هذا العالم؛ هى رؤية تنطلق من هذا العالم ولكنها تحلق بعيدا عنه، لترى فى مشهده المكتمل ملامح مختلفة عن تلك الصور الشائعة الذائعة حوله.
شبكة العلاقات، ونماذج الشخصيات، والتفاصيل الكبيرة والصغيرة، مفردات حية ومهمة فى عالم هذه الرواية، وانصهار هذه المفردات جميعا فى كتابة تلفت الانتباه إلى ذاتها باستمرار.. كلها، وغيرها، ملامح تجعل من هذا العمل رواية كبيرة القيمة.
كتب محمد حسن علوان، بعد هذه الرواية، روايات أخرى: (صوفيا)، و(طوق الطهارة)، و(موت صغير)، و(جرما الترجمان).. وقد تأسست هذه الروايات، فيما تأسست، على الامتداد بإمكانات لاحت منذ البداية الأولى، المتقنة والجميلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة