تشكل التربية في كليتها عاملًا رئيسًا في بناء الإنسان الذي يأخذ على عاتقه مهمة الإعمار والبناء في شتى المجالات الحياتية والعلمية والعملية، ومن ثم أضحت أخلاقيات التربية ضمانة تفوق ونجاح لممارسات وسلوكيات صحيحة وسديدة ومسؤولة تسهم قطعًا في تحقيق الغاية من الوجود الإنساني على وجه البسيطة، والارتقاء به إلى المستوى الإنساني والأخلاقي الشامل.
وأخلاقيات التربية تنسدل من فضائل وشمائل يتربى عليها الإنسان ويمتلك من خلالها وجدان راقي يساعده في أن يمارس السلوك القويم ويتجنب السلوك غير المرغوب فيه ومن ثم تصير تلك الأخلاقيات التربوية بمثابة منارة تهدي وترشد وتوجه، مانعة للانحراف عن الطريق والمسار الصحيح ومقوم لكل خطأ أو زلل يقع فيه الفرد؛ لذا تعد من وجهة نظر تفكيرية وإيجابية وفلسفية بمثابة دافع للتقييم الذاتي.
وفي هذا الإطار يصعب أن تعيش البشرية جمعاء وتتناسل وتتواصل ويستكمل جيل مسيرة الأجيال الأخرى بعيدًا عن أخلاقيات التربية؛ فهي سبيل التعايش السلمي وبناء الأمم، ومن خلالها يكتسب الإنسان نسقه القيمي ويحافظ على ثقافته ويغذي روافده المعرفية والمهارية والوجدانية عبر منابع وروافد الأخلاقيات التربوية التي تسعي لبناء الأنسان المتكامل وإعداده من النواحي الجسدية، النفسية، العقلية، الأخلاقية، والاجتماعية، فالإنسان الواعي والمتمكن هو الركيزة الأساسية للتنمية الشاملة والمستدامة.
وتدور أخلاقيات التربية حول مجموعة القيم والمبادئ التي توجه السلوك في العملية التربوية، وتساهم في بناء شخصية الأفراد وتنمية المجتمع، وتشكل مزيجًا من الروافد المتنوعة التي تعكس التفاعل بين الفرد والمجتمع، ولتحقيق تربية أخلاقية متكاملة، يجب التضامن والتعاون بين الأسرة، المؤسسات التعليمية، المؤسسات الدينية، ووسائل الإعلام لتوفير بيئة تدعم السلوك الأخلاقي وترسخ القيم الإنسانية، ويعد الدين المصدر الأول والأساسي للأخلاقيات التربوية في المجتمعات المختلفة، حيث يقدم الإرشادات الأخلاقية التي تنظم العلاقات الإنسانية والسلوك؛ فالقيم الروحية المستمدة من الأديان توطن لمفاهيم مثل الأمانة، الصدق، الإحسان، التسامح، واحترام الآخر، وغرس الانضباط الذاتي والمسؤولية لدى الأفراد، وتعد الأسرة كذلك من أهم روافد أخلاقيات التربية، حيث تغرس القيم الأساسية لدي أعضائها، وتلعب دوراً كبيراً في تشكيل الشخصية من خلال التوجيه والقدوة.
وجدير بالذكر أن الفلسفات الأخلاقية، تعتبر أطرًا نظرية لفهم وتطبيق القيم الأخلاقية، حيث تربط بين السلوك الفردي والغايات الإنسانية الكبرى مثل الخير، والعدل، والفضيلة، وتستمد الأخلاقيات التربوية من القيم التي تحكم المجتمع وتعبر عن تاريخه وهويته، وتشمل هذه القيم الاحترام المتبادل، التعاون، التضامن الاجتماعي، والعمل الجماعي، ويمثل التراث الثقافي مصدراً غنياً للقيم والمعايير الأخلاقية التي تشكل الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات، من خلال القصص، الأمثال الشعبية، والطقوس الثقافية يتم غرس الأخلاقيات في الأجيال الجديدة.
والمطالع والمتعمق لنظريات التربية وما تحمله من فرضيات ومبادئ وفلسفة عميقة يجد يقينًا أن أخلاقيات التربية بمثابة المظلة الكبرى التي يدور حولها كل ما يتعلق بتربية الإنسان وبناء فكره ويقينه ونظرته للمستقبل الذي يحمل بين ثناياه تطلعاته وآماله وأحلامه وفيض نتاجه الحسن؛ لذا يعد تجاهل أخلاقيات التربية أو البعد عنها بمثابة معول هدام للبشرية ومقوض لدروب النهضة دون شك.
وهناك إسهامات كبيرة وضابطة للسلوك الأخلاقي للقوانين والتشريعات من خلال تحديد القواعد والمعايير التي تنظم العلاقات داخل المجتمع، وتوفير التشريعات بصفة عامة والتشريعات التربوية إطارًا لضبط السلوك وتنمية الشعور بالمسؤولية وتحملها والانضباط بما يتماشى مع القيم المجتمعية، وتلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في نشر القيم الأخلاقية من خلال المحتوى التعليمي والثقافي، كوسيلة لتوجيه السلوك وإكساب المفاهيم الأخلاقية وتصحيح الفهم الخطأ لبعض الممارسات والعادات والتقاليد الخاطئة، وتنمية الوعي الأخلاقي، والتعريف بالتجارب والخبرات الحياتية من البيئة المحيطة لصقل القيم الأخلاقية للأفراد، والتفاعل مع التحديات المعاصرة لتعزيز فضائل مثل الصبر، التحمل، واحترام حقوق الآخرين والتسامح والتفاهم بين الثقافات، مع الحفاظ على القيم الأخلاقية الوطنية وتعزيز الهوية العربية
ونؤكد أن تكوين النفوس السوية تقوم بما لا يدع مجالًا للشك على الأخلاقيات التربوية؛ حيث تغذي تلك الأخلاقيات مسارات التفكير الإيجابي ليصبح الفرد مالكًا لرؤية ورسالة إيجابية في حياته، ومن ثم يعمل بكل طاقة وجهد على أن يكتسب الخبرات المربية والتي من شأنها تساعده في بلوغ غاياته المشروعة، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يصبح مسئولًا في كل ما يوكل إليه من أمر في شتى مناحي الحياة، وترتكن ضمانة التنشئة الصحيحة التي لا تشوبها شائبة على أخلاقيات التربية التي تقوم عليها قيمنا ومعتقدنا وما يتعلق بثقافتنا التي تعتمد على أخلاق حميدة وسلوكيات مستحسنة يتوارثها جيل تلو جيل ويحافظ عليها المجتمع ويعضدها بمزيد من الاهتمام والرعاية التي تؤصل في نفوس النشء هذا الموروث النفيس.
إن تماسك سياج الأسرة والروابط المجتمعية التي تقوى به جبهة الوطن الداخلية تقوم على أخلاقيات التربية ويصعب أن تنفك عنها؛ فإذا حدث ذلك تعرضت المجتمعات لمخاطر التفكك والتشرذم، بل ونالت نصيبها من صراعات ونزاعات لا ينتهي، وللأسف قد تتعرض هذه المجتمعات للانهيار وخلل بمنظومة القيم الأخلاقية؛ لذلك نؤكد على أن أساليب التربية الناجحة وأسرار تقدم الأمم والشعوب يقوم على أخلاقيات التربية؛ حيث لا مناص عن تضمين مناشط التربية بهذه الأخلاقيات التي تصون العقل وتحد من الهوى وتكسب الفرد ماهية الرضا وتجعله قادر على الفهم والاستيعاب وقادر على أن يؤثر في محيطه بصورة فاعلة وقادر على الإنتاجية بكل أشكالها.
ونشير إلي إن سلامة الفكر ورشاد المقصد يرتكزان على أخلاقيات التربية، التي تعد الأساس في تشكيل هوية التفكير الإنساني وضمان تطور مهاراته العليا على النحو الذي يخدم الفرد والمجتمع في نمطه النقدي لتقييم المعلومات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات منطقية، والتفكير الابتكاري في إيجاد الحلول الجديدة والمبتكرة، والتفكير الإنتاجي السعي لتطبيق المعرفة في إنتاج أفكار أو مشاريع تخدم الإنسانية، والتفكير التوليدي لتطوير الأفكار الحالية وإنشاء مفاهيم جديدة، والتفكير الاستدلالي لاستنتاج الحقائق من خلال الملاحظة والتحليل، وتوفر أخلاقيات التربية بيئة آمنة لنمو هذه الأنماط الفكرية، من خلال ترسيخ مبادئ مثل الحرية الفكرية الواعية، والمسؤولية، والاحترام المتبادل، بناء الثقة لدى الأفراد للتعبير عن أفكارهم بطرق مشروعة ومسؤولة، مع مراعاة القيم المجتمعية، وتمنح الفرصة للأفراد لاستكشاف الأفكار بعيدًا عن الضغوط أو التحيزات التي قد تعيق التفكير الناضج؛ فهي تشكل دعامة رئيسة في نضج الإنسان بمراحل حياته المختلفة.
وعندما تقترن أخلاقيات التربية بالعلم، فإن ذلك يضفي عليه محاسن يصعب حصرها ويمنحه بُعدًا إنسانيًا يضمن استخدامه لصالح البشرية، وتوجيه البحث العلمي والابتكار لتحقيق أهداف نبيلة تسهم في تحسين جودة الحياة، الحفاظ على البيئة واستدامتها، وتحسين الصحة العامة، وتجنب الاستخدام غير الأخلاقي للعلم، الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالإنسانية، مثل الحروب التكنولوجية والبيولوجية أو التلوث البيئي، وتضمن أن يكون العلم وسيلة لتحقيق الخير المشترك، وليس أداة لتحقيق مصالح مادية أو برجماتية ضيقة، وتؤكد على أهمية العلاقة الإنسانية في توجيه نتائج العلم، لتقوية الروابط الاجتماعية بدلاً من تفكيكها، والاهتمام تطوير المعرفة التي تبني جسور التفاهم بين الثقافات وتعمل لصالح السلام العالمي، فأخلاقيات التربية ليست مجرد أداة لضبط السلوك، بل هي ركيزة أساسية في تكوين بيئة ملهمة وآمنة لنمو الفكر والعلم، من خلال توجيه التفكير الإنساني والبحث العلمي نحو تحقيق أهداف نبيلة وسامية، وبناء مجتمعات قائمة على العدالة، الإبداع، والإنسانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة