تجنَّدَ البلدُ المُنقسمُ على نفسِه، رأسيًّا وعرضيًّا، لهدفٍ واحد. فجأة تناسى الجميعُ خلافاتِهم، واصطفّوا وراء رئيس حُكومتِهم المُتغطرس، والمُتَّهم بكلِّ ما يُهدِرُ السُّمعةَ والكفاءة، ويقدحُ فى السَّوِيّة الإنسانية. وعلى مَوجةٍ إجماعيَّة، صارت إسرائيلُ بكاملِها تتحدُّث اللغةَ الدمويَّة نفسَها. كُلُّهم ضدّ القانون والأخلاق، ومع السفَّاح بنيامين نتنياهو، وكلُّهم يرقصون بقَصديَّةٍ واستمتاعٍ فوقَ أشلاء الأبرياء فى غزَّة.
ولا تحتاجُ عنوانًا أفضلَ من هذا للتعبير عن بلدٍ والغٍ فى الدم، ومَفتونٍ بالنازيَّةِ سُلوكًا وخطابًا؛ ولو ادَّعَى أنها خُصومتُه التاريخية مع العالم. تُجاهرُ الصهيونيَّةُ بوَجهِها القبيح، وتُسقِطُ عنها فى لحظةٍ كُلَّ المُواءمات الدعائيَّة، وألاعيب التضليل وتوزيع الأدوار. إنها القشرةُ الخارجيَّةُ التى تنزاحُ عن اليمين واليسار؛ فيتكشَّفُ بالدليل القاطع أنهما من طِينةٍ واحدة.
مفهومٌ أنْ يقفَ الليكود وراءَ زعيمه، وأن تُدافِعَ الحكومةُ اليمينيَّة المُتطرِّفة عن نفسِها فى شخصِ رئيسها؛ إنما الغريبُ أنْ تُزايِدَ المُعارضةُ على المُوالاة، وتنزحَ من خزَّان اللغة الخشبيَّة عن مُعاداة الساميَّة واختلال القانون الدولى، فلا يعودُ الفارقُ واضحًا بين أفيجدور ليبرمان فى أقصى اليمين، ويائير جولان على أطراف اليسار، وفى القلب منهما جانتس وأيزنكوت وغيرهما من أشباح الوَسَط الساقطة.
توحَّدَ الساسةُ والجنرالات فى رَفضِ مُذكَّرة الجنائية الدولية بحَقِّ نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، وسبقَهما رئيسُ الدولة إسحاق هيرتزوج، وتَبِعَهم جميعًا تيَّارٌ عريضٌ من النُّخبة بكلِّ أطيافها؛ حتى المحسوبين منهم على التعقُّل والاعتدال ظاهرًا، والمُتاجرين بصَنعة الرأى والتفكير والانحيازات الحقوقية.
فالدولةُ العِبريَّة ديمقراطيَّةٌ على سبيل الدعاية، ومُنفتِحَةٌ لأغراضٍ وظيفيَّة، ولا يُسمَعُ فيها صوتٌ مُختلفٌ إلَّا لغاية التضليل والمُناورة؛ بينما فى المحكَّات الحقيقية تعودُ لسِيرَتِها الأُولى، ويخلعُ الجميعُ أقنعةَ الأدوار المسرحيَّة المُوزَّعة عليهم؛ ليستعيدوا ملامح رجال العصابات، ويتخلَّوا بمُبادرةٍ واقتناعٍ عن مساحيق التجميل.
على طُول الصراع واتِّضاح ملامحِه؛ نحتاجُ بين وقتٍ وآخر لِمَا يُجدِّدُ السرديَّةَ ويضعُ الحقائق على الطاولة. والمواقفُ الدوليَّةُ الصائبة على قِلَّتِها تُعيدُ ضَبطَ الميزان، وتحرير الوقائع من أثر الدعايات وثِقَل الاستبداد بالقوَّة. صحيحٌ أنها لا تُغيِّرُ التوازنات الظالمة فى أغلب الأحيان؛ لكنها تكبحُ الاندفاعةَ الطاغية باتِّجاه التزييف الكامل وسَرِقَة الرواية من أصحابها.
وعليه؛ فإنَّ تحرُّكاتٍ رمزيَّةً كالتى اتَّخذتها محكمةُ العدل الدولية سابقًا، أو جاءت من المحكمة الجنائية مُؤخَّرًا، ويراها البعضُ باهتةً أو معدومةَ القيمة؛ تكتسبُ أهميَّةً مُضاعَفَة بالنظر إلى واقع الأرض، وفجاجة الانحياز الغربىِّ لدولة الاحتلال، وانعدام إمكانات التأثير والفعل لدى الفلسطينيين، فى صراعهم المفتوح مع النفس والآخر.
كأنها لحظةُ تنويرٍ ضروريَّة لمُقاربة الدراما من زاويةٍ عادلة، لا تفقدُ ثِقتَها فى القانون، ولا يختلُّ رهانُها على استقامة الضمير، وتُؤكِّدُ فى الوقت ذاته أنَّ الصراعَ محكومٌ بالتوازُن العاقل والخلَّاق بين السياسة والبندقية، ولا تَصِحُّ التضحيةُ بإحداهما لحساب الأُخرى، ولا التوقُّف عن امتحانِ العالم بكلِّ الأسئلة المُؤرِّقة لمُثُلِه العُليا، بالسلاح على حسب الاحتياج والضرورة، وبالمظلوميَّة الصافية عندما لا يكون مُناسبًا أن يُزاحمَها أزيزُ الرصاص، أو يُغطِّى عليها بصخبٍ يُمرِّرُ العدوان، ولا يستعيدُ الحقوقَ أو يستوفى الثارات المُعلَّقة.
انطلَتْ الخدعةُ على العالم، وليس كلُّه فى صَفِّ إسرائيل قطعًا. جرَى تسويقُ فكرة الدولة أوّلاً، ثمَّ تحصينها بادِّعاءات القَلَق الوجودىِّ، والحياة فى حزامٍ من العداوة والنار. استُبعِدَ الحَلُّ السياسىُّ من باقة الخيارات، وأُزِيْحَت المنظومةُ الأُمَميَّة وترسانةُ قراراتها السابقة، وسَيَّدَتْ الصهيونيّةُ دعايتها عن بلدٍ مَدَنىٍّ حداثىٍّ فى مرمى الأُصوليَّة الإسلامية الهائجة.
وأنْ يُعادَ الاعتبارُ للقانون اليومَ؛ ولو ظلَّ بعيدًا من التفعيل، فإنَّ المسألةَ تتحلَّلُ عَمليًّا من المُغالطة والجدليَّات الفارغة، وترتدُّ لنقطة الصفر الأساسية: احتلال إلغائىّ، وأرض مسروقة، وشعب يبحثُ عن حقوقه العادلة. وكلُّ تَشغِيبٍ على الصورة يُمَكِّنُ حضورَها فى الوعى العام، ويخصِمُ من القاتل ليُضيفَ فى رصيد الضحايا.
احتاجَتْ محكمةُ الجنايات الدولية نحو ستَّة أشهرٍ، بين تقديم المُدَّعى العام كريم خان دوافعَه فى مايو، وإصدار هيئة الفحص الابتدائية مُذكِّرات الاعتقال فى نوفمبر. والمُؤكَّد أنَّ الفترةَ الطويلة نسبيًّا لم تَخلُ من ضغوطٍ ومحاولات تطويع، خرج بعضُها للعَلَن مع تهديد الكونجرس الأمريكى بإقرار عقوباتٍ بحقِّ القضاة، وبالمَنطقِ ظلَّ أغلبُها فى طَىِّ الكتمان.
والمعنى؛ ليس أننا إزاءَ مُؤسَّسةٍ أُمَميَّة تغلَّبت على المخاطر والتهديدات فحسب؛ بل أنَّ الأُمورَ صارخةٌ فى وُضوحِها، لدرجةٍ يَصعبُ معها التعامى عن الواقع، أو إبعاد القضية عن مجال الفحص والاشتباك. لقد بُنِيَتْ المنظومةُ على عُمُدٍ غربيَّة خالصة، وأُرِيْدَ لها أن تكونَ أداةً فى أيدى نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومعنى استصدار قرارٍ بتلك القوَّة من خلالها، ورغم كلِّ العوائق البنيويَّة والإجرائية؛ أنَّ النكبةَ تخطَّت كلَّ قُدرةٍ على الطَّمْر والتحريف، وأنَّ القضيَّةَ باتت تمتلِكُ الأساسَ القانونىَّ والأخلاقىَّ المُقنع لِمَن لا يُجيدون لُغَتَها، كما أنها باتت قادرةً على مُجابهة كلِّ مُحاولات تحريف الثوابت وتزييف القناعات.
القرارُ يُطوِّقُ ثمانيةَ شُهورٍ من العدوان على غزَّة، بين «طوفان السنوار» فى أكتوبر وتقديم مُذكِّرة الوَصف والاشتباه فى مايو. وهى الفترة التى شهدت جُلَّ أعمال الإبادة؛ لكنها ربطًا بالتدابير الاحترازية من جانب محكمة العدل الدولية، تُمدِّدُ أثرَ الاتهامات إلى الوقت الراهن؛ لا سيَّما مع اتِّصال أعمال القتل والحصار والتجويع. والشُبهةُ إذ تطالُ رأسَىْ السلطة السياسية والعسكرية فى إسرائيل؛ فإنها تنعكسُ مُباشرةً على الدولة فى كلِّ مستوياتها القيادية والتنفيذية، وعلى الجيش فى تراتُبيَّتِه، وفى العقيدة والمُمارسة اليومية.
صحيحٌ أنها ليست إدانةً قاطعةً حتى الآن، بل لم تُوجَّه فيها اتّهاماتٌ صريحةٌ بالأساس؛ لكنها تُحقِّقُ كلَّ تأثيرات الوَصْم والتعرية، ولا يتيسَّرُ الرَدُّ عليها بالسُّبل القانونية أو السياسية. كأنها طَوقٌ ناعمٌ، لا يَخنِقُ الجريمةَ الصهيونية تمامًا؛ إنما فى الوقت نفسِه لا يَسهُلُ نَزعُه أو الإفلات من تأثيراته القاسية.
المقتَلَة فى فلسطين، والخصومةُ الكُبرى فى لاهاى. قد لا تكونُ إسرائيلُ مُدانةً إلى اللحظة فى نَظَر القانون الدولىِّ؛ لكنها على طريقِ الإدانة. الدولةُ أمام محكمةِ العدل، وقادتها أمام الجنايات؛ فكأنها مُطوَّقة فى النطاقين الشخصىِّ والمُؤسَّسى. والأخيرةُ محكمةُ أفرادٍ بحسب نظامِها؛ لكنّها تُرتِّبُ مسؤوليةً ضِمنيَّةً على الحكومات، من زاوية أنَّ المُجرمين يَنفُذون إلى جرائمهم من قناة السلطة، وتحت مظلَّةِ الشرعية الدستورية والنيابية عن مجتمعاتهم.
والقَصد؛ أنه ما كان لقادة الصهيونية، حكومةً وجيشًا، أن يرتكبوا أفعالَهم المُشينة؛ ما لم يَنتدِبُهم البلدُ لإدارته وتمثيلِه؛ بمعنى أن نتنياهو قد يكون عنيفًا فى ذاته، ومَفتونًا بالإبادة والدم؛ لكنه فى موقعه التنفيذىِّ يُفكِّرُ بعَقل تل أبيب، ويذبحُ بمخالبِها. وما تُتاحُ التعمية عليه هُنا بفكرة شخصانيَّة الاتهام، والفَصل بين النظام والفاعلين فيه؛ يُرَدُّ عليه مَنطقيًّا بعُموميَّة التضامن الذى أبدَتْه كاملُ الطبقة السياسية والعسكرية، وتشدَّدت فيه إسنادًا لحاكمها، ودفاعًا عن المقعد قبل القاعد.
لم يُبادِرْ كارهو زعيم الليكود إلى مُؤازرته عن محبّةٍ له، ولا لرغبةٍ فى تأبيد ولايته، وتمرير ألاعيبه عليهم وعلى المجال العام؛ بل فعلوها عن إيمانٍ بما أتاه من نازيّةٍ صارخةٍ باسمِ الدولة العبرية، ودفاعًا عن أنفُسِهم مُباشرةً وبصورة ضِمنيّة؛ إذ كان بعضهم شُركاءَ له فى «كابينت الحرب»، ويتطلَّعُ الباقون لوراثتِه على رأس الحُكم، وهم يعرفون وُجوبًا أنَّ كلَّ أحاديثِهم عن الصفقات والتسويات ادِّعاء للتجَمُّل، وكَيدٌ سياسىٍّ لا أكثر، وسيذهبون لاعتماد أدواته الحارقة بمُجرَّد الصعود إلى مَوقعِه، ما يَضعُهم تحت طائلة الاتهام القائم راهنًا برمزيّته، أو فى مرمى أيَّة مُقاربةٍ قانونيّة دوليَّة فى المستقبل.
الأمرُ أَشبَه بمُحاولة تحصين المنصب على أملِ الوصول إليه، ومن باب القناعة الكاملة بأنه مَوصولٌ عضويًّا بالجريمة محلِّ النظر، وكلّ الصاعدين إليه سيرتكبون الأفعال نفسَها، وسيضعون الدبلوماسية جانبًا ليعتَمِروا خوذةَ الحرب. فعلَها فى السابق إيهود باراك وإيهود أولمرت، وهُما اليومَ من المُنَظِّرين بشأن أخطاء نتنياهو، بعدما أنهيا انتدابهما على رأس المَقتَلَة وعادا إلى حيِّز مُمثِّلى الأدوار الثانوية، وذراع الإسناد الدعائىِّ والتلطيفىِّ للدولة المُغرَمة بالدم، والمفتونة بالحياة على حَدِّ السكِّين.
حالةُ الهلع التى انتابت تلَّ أبيب، تَنُمّ عن هشاشةٍ تتسلَّط على الدولة المُلفَّقة، ولو خبَّأوها بكلِّ صُوَر البطش والتنكيل بالخصوم. القرارُ أقربُ إلى الإعلان عن نِيّةٍ لتوجيه الاتهام، أىْ أنّه خطوةٌ إجرائيّة لاستكمال ملامح الدعوى، وليس بحثًا عميقًا فى الوقائع والتفاصيل، ولا إعلانًا للدفوع ومُوجِبَات الإدانة. وتلك الشكلانيَّةُ أبرزُ عناصر قُوَّته فى الحقيقة؛ إذ إنه مَدخَلٌ لعَقْدِ المُنازَعة وليس موضوعها الأساسىّ، وصِفَتُه التمهيديّة تنسِفُ حجيَّة التعقيب عليه قبل الإقرار به وتفعيل مُقتضاه. أمَّا استحالةُ إنفاذِه عَمليًّا فتُبقِيه فى حيِّز الفاعل الدائم؛ كناقوسٍ مُعلَّقٍ على رأس الصهيونية، وضَغطٍ ثقيل على أعصابها العارية.
القرارُ لا يقبلُ الطعنَ عليه أو الاستئناف، كما لا تُعطّله الحصانةُ السياسية ولا يسقطُ بالتقادُم. هكذا تُدانُ إسرائيل بحاكمِها راهنًا، وتظلُّ التهمةُ لصيقةً بنتنياهو فى المنصب وخارجه. وتلك الصيغةُ ربما تُحفِّز المنظومة السياسية على الخلاص من الذئب العجوز، وإعادة تكييف الإدارة التنفيذية بما يتوافقُ مع عناصر الأزمة المُتصاعدة: الحرب الدائرة شمالاً وجنوبًا، والنزيف المتصاعد دوليًّا فى الصورة والرمزيَّة الأخلاقيّة، وحاجة الشارع إلى صفقةٍ تُعيد الأسرى، والجنرالات إلى تهدئةٍ تُخفِّفُ أعباءَ الجيش، فضلاً على ضرورة مُلاقاة الإدارة الأمريكية الجديدة عند نقطةٍ تُوافق برنامج ترامب، وتُثَبِّتُ أجندتَه الداعية لتبريد الجبهات والالتفات عن صراعاتها الخَشِنَة.
الجنائيَّةُ الدولية صورةٌ مُحدَّثةٌ من محكمة نورنبرج، وتُهمةُ الإبادة الجماعية تولَّدت بالأساس عن مُلاحقة النازيِّين، وعن إرادة البيئة الأُمَميَّة الجديدة لقَطع الطريق على تكرار الخطايا نفسِها. اعتبرَ اليهودُ أنهم مُلاَّك المَظلَمَة الدائمون، ولن يكونوا عُرضةً للاتهام بها لاحقًا، وأراد الغربُ أداةً رادعةً للمُناوئين، ومَسْرَبًا إلى مُساءلة الخارجين على أعراف العالم الأنجلوساكسونىِّ الجديد.
والقرارُ الأخير على هذا المعنى؛ يُمثِّلُ انقلابًا صادمًا للوعى الصهيونى، ولظهيره من التيَّارات المسيحانيَّة. إنه يُحرِّر الأخلاقَ من قبضة الهيمنة الاستبدادية على النظام الدولىِّ، ومن احتكار الأُمثولة الأخلاقيَّة تحت طَوع «الرجل الأبيض»، وبما يتوافق مع رؤيته لتقييم البشر والمُفاضَلة بينهم بحَسْب العِرق والدين، ومدى الاتصال بسرديَّته الحضارية المُتعالِيَة.
عندما قَدَّم كريم خان ادِّعاءه قبل شهور، كان الموقفُ الأمريكىُّ صادمًا، وقيْلَ صَراحةً إنَّ المحكمةَ أُعِدَّت لخصوم الولايات المُتَّحدة لا لحُلفائها، والتصويب اليومَ على قرارها يأتى فى سياقِ الوظيفيَّة المُصَرَّح بها عن المرافق الأُمميَّة؛ لكنه يُقوِّض فكرةَ السبق والأُمثولة القِيَميَّة الكاملة. هُلِّلَ لمُذكِّرة توقيف عمر البشير قبل خمس عشرة سنة، ولنُسخةٍ شبيهة ضد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى 2022، والنكوصُ عن سابق المواقف لصالح إسرائيل، لا يُفيدُ الأخيرةَ ولا يضرُّ القرارَ؛ بل يطعنُ فى أُطر العدالة الدولية منذ زمن الحرب العالمية، ويرفعُ كُلفةَ تسيير العالم فى العقود المُقبلة؛ هذا لو بَقِيَت صيغتُه القائمة على حالِها أصلاً.
يتعذَّرُ على إدارة بايدن أن تتصدَّى للقرار، وقد لا يتبلورُ الموقفُ إلَّا بعد تنصيب ترامب فى يناير. قد يَصدُق الكونجرس فى تهديداته بالعقوبات بحقِّ القُضاة، أو يَنشطُ البيتُ الأبيض فى الضغط على الأُمَم المُتَّحدة والمحكمة والدُّوَل الأعضاء فى نظام روما؛ إنما لن يُفضِى كلُّ هذا لشىءٍ حقيقىٍّ، حتى لو جُمِّدَت مُذكِّرةُ الاعتقال عمليًّا، وتيسَّر لنتنياهو أن يتنقَّل بأريحيَّةٍ ودون خوفٍ من التوقيف. القيمةُ فى الرمزيَّة لا الأثر، والجميعُ يَعرِفون وُجوبًا أنه قرارٌ تُدافِعُ به المحكمةُ عن نفسِها أوَّلاً وأخيرًا، وتستنقذُ ما تبقَّى من ماء وجه العالم؛ وستَجِفُّ مَفاعيلُه قبل أن يجفَّ الحِبرُ الذى كُتِبَ به.
موقفُ الولايات المُتَّحدة مُتَوَقَّعٌ، وأوروبا أبدت تجاوبًا ظاهريًّا مع القرار. ونظريًّا فإنه يُرتِّبُ أعباءً على إسرائيل من جهةِ 124 دولة مُوقِّعَة على بروتوكول المحكمة، ليس لناحية السفر والزيارات الرسميّة فحسب، ومعلومٌ أنَّ نتنياهو مُقِلٌّ فى أسفاره أصلاً؛ إنما يمتدُّ التأثير إلى العلاقات السياسية على كلِّ المستويات المُتقاطِعة مع ميادين القتال، وما يُحتَمَلُ أن يُرَى على صورة الانحياز لمُتَّهمٍ تُلاحقُه العدالةُ الدولية، أو يُفهَمُ منه التورُّط فى نَزَواتِه العسكريَّة الموصوفة بالتوحُّش والإبادة.
من المُصادفات أنَّ القرارَ تلا تصريحًا شديدَ الأهمية من بابا الفاتيكان، وردَ ضمن كتاب «الرجاء لا يخيب» الصادر بمناسبة احتفالات اليوبيل الكاثوليكية. دعَا الحَبر اللاتينىُّ البارز إلى التحقيق فى شُبهات الإبادة الجماعية بقطاع غزَّة، والنظر فى تَوافُر الشروط الفنيَّة والموضوعية بحسب القانون والقواعد التى وضعَها المُختصّون الدوليّون. ورمزيّة الرسالة هُنا شديدةُ الأهمية، أولاً لأنها صادرةٌ عن المرجعيَّة الروحيَّة الأكبر فى العالم المسيحىِّ، ومن رجلٍ ينتمى للبيئة التى أنتجت «لاهوت التحرير»، وقَدَّمت وجهًا نضاليًّا وإنسانيًّا ناضجًا فى مُقاربة الكتاب المقدس، ما يُعيدُ البحثَ فى سقطات الصهيونية على قاعدةٍ عقائدية وتاريخية أعمق.
بين ضحايا غزّة مسيحيّون، وقُصِفَتْ الكنائسُ دون تفرقةٍ عن المساجد، والمحنةُ فى الضفَّة الغربية والقُدس لا تُميِّز بين دينٍ وآخر. وبينما تسعى إسرائيل لاختزال المسألة فى كونها مُصادمةً يهوديَّة إسلامية؛ فإنَّ رسالةَ البابا فرنسيس تُحرِّرُ الصورةَ من أَسْر السرديَّات المُلفَّقَة، وتُحيى ما كان مَطمورًا تحت الرماد. إذ لا يُمكنُ ألَّا يَستَدْعِى الذهنُ ما كان راسخًا لدى الكاثوليك لقرونٍ، بشأن مسؤولية اليهود عن دمِ المسيح وانحيازهم إلى قرار صَلْبِه؛ لدرجة احتمال دَمِه على أعناقهم وأعناق أولادهم.
ورغم تبرئة المجمع الفاتيكانى بين 1962 و1965 لهم؛ لم يعترِفْ بها شعبُ الكنيسة، وظلَّتْ التهمةُ قائمةً؛ حتى أصدر البابا بنديكتيوس السادس عشر كتابه «يسوع الناصرى من الدخول إلى القدس حتى القيامة» فى 2011، مُجدِّدًا البراءةَ لأسبابٍ واعتباراتٍ وضغوطٍ يطولُ الحديث فيها، ليرُدَّ نتنياهو سريعًا بخطابِ شُكرٍ، ويتداخلَ الحاضرُ بالتاريخ؛ فكأنه يُفتِّشُ عن صَكِّ غُفرانٍ فى الماضى؛ لعِلْمِه أنَّ جرائمَه الوقتيَّةَ عَصيّةٌ على المَغفِرَة أو التبرير.
والزمنُ إذ تجاوزَ مَظلَمَةَ المسيح، ويقفُ اليومَ أمامَ مظالم طازجةٍ ولا تقلُّ فى وضوحِها وصفائها؛ فإنَّ رسالةَ البابا الآن، وبالنظر لسابقِ الموقف الكاثوليكى، ولتاريخ الوقائع فى فلسطين؛ إنما يُحرِّر القضيّةَ من ثنائية الأخذ والردِّ بين أُصوليَّتَيْن، يهوديَّةٍ وإسلاميَّة. إنها صراعٌ سياسىٌّ له صِفَةٌ إنسانيَّة قانونية؛ لكنه لو أُرِيْدَ تحريفُه ليكون دينيًّا؛ فإنه يُجسِّد خروجًا صهيونيًّا على كلِّ منظومات الاعتقاد، وعداوةً واضحة من الدولة العِبريّة للعالم بكامله؛ قديمًا على الصليب، وحديثًا لو احتكمنا إلى «لاهوت التحرير»، وللذخيرة القانونية التى وضعَها الغربُ لصالحه وكلب حراستِه الإسرائيلى، فانقلَبَتْ عليهم؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ إجرامَهم فاقَ الحدود، وتجاوزَ كلَّ إمكانات الإنكار وذَرّ الرماد فى العيون.
لن يُؤثِّر القرارُ على عقيدة إسرائيل؛ إنما قد يُرشِّدُ مُمارساتِها. ربما تتكثّفُ مُحاولات إطاحة الحكومة، وتتعالى دعواتُ الذهاب إلى انتخاباتٍ مُبكّرة، لتحييد إدانة نتنياهو وإبعاد تبعاتِها عن كاهل الدولة. أمَّا الأخيرُ فقد يُبدِى مُرونةً نسبيّةً فى مسألة إنفاذ المساعدات لغزَّة، وفى التوصُّلِ إلى تهدئةٍ على الجبهة اللبنانية، بما يُحقِّقُ له مصلحةً مُركَّبة: الظهور فى صورة رجل التسويات، وامتصاص الزَّخْم المُتصاعد بمُرافقة مذكِّرة التوقيف، وأخيرًا تقليص الضغط على الجيش، بما يلغى الحاجة لزيادة استدعاء الاحتياط أو تجنيد الحريديم، وهى نُقطةٌ أصيلة فى صُلب مطالب التوراتيِّين، وتُهدِّدُ الائتلافَ الحكومىَّ بالتداعى من داخله.
ربما تتضرَّر بعضُ صفقات السلاح المُوجَّهة لإسرائيل، وقد تختلفُ نبرةُ كثيرٍ من الحكومات، خصوصًا فى أوروبا، فيما يخصُّ لُغتها المُنحازة بفجاجة. فُرَص التهدئة تتصاعد، أكان فى لبنان أم فى غزة، والاتفاق مع حزب الله يقتربُ بعدما كان بعيدًا، على الأقل بمنطق الوقف المؤقت للقتال، وإرجاء الصفقة الدائمة شهرين لتكون هديته لترامب فى بادئ ولايته. القرار مهمٌّ فى المعنى والمضمون؛ ولو لم يكن مُثمرًا فى الحقل المادى، وأهم ما فيه أن يُستثمَر من جانب البيئة العربية، وأن يُبنى عليه مُقتضاه من مواصلة المطاردة وحصار الإجرام الصهيوني، وتصعيد المسألة فى المحافل الدولية، واستغلال الظرف الساخن للحصول على مُكتسبات يُمكن تمريرها تحت ستار اللحظة المُلتبسة.
يُمكنُ تجديدُ البحث فى العضوية الكاملة لفلسطين بالأُمَم المتحدة، والتحرُّك باتجاه تفعيل توصية القمّة العربية الإسلامية بتجميد عضوية إسرائيل، وربما تقديم مشاريع قرارات لمُلاحقة نتنياهو، أو توسعة قوس الإدانة لبقيَّة الحكومة، وللقيادة العسكرية الجديدة. يتطلَّبُ السياقُ تكثيفَ الحركة، واستعارة آليَّة «الضغوط القُصوى» من ترامب لتوظيفها بحقِّ حليفه اللدود.. الأسابيعُ الأخيرةُ شهدتْ إثارة اتِّهاماتٍ أخلاقيَّةً بحقِّ كريم خان، ربما تكون حقيقيَّةً أو مُصطَنَعة، أو لعلّ لها ظِلالاً من الواقع وجرى توظيفها دعائيًّا فى الوقت نفسِه؛ القصدُ أنَّ مُحاولات إحباط الخطوة لم تتوقَّف، ومساعى تقويضها ستتواصلُ بحماوةٍ عالية، والهجومُ خيرُ وسيلةٍ للدفاع، وقد صارت مع فلسطين ورقةٌ دوليَّة مُهمَّة، يتعيَّن استثمارُها بكلِّ السُّبل، وعدمِ التشغيب عليها وتلطيخها بمراهقات طفولية، مع معرفة أنها حربُ النفس الطويل، وأنَّ إحراز نقطة فيها لا يشطُبُ مسؤولية اللاعبين عن إهدار نقاطٍ سابقة، وتلك نقطةٌ تتوجَّب الحسم لاحقًا فيما بيننا.. والخلاصة، أن إسرائيل ترتدى بكاملها رداء «مجرم الحرب»، ونتنياهو مجرد نائب عنها أمام القانون.