استعادت الدولةُ عافيتَها، بالقياس إلى ما كانت عليه قبل عشر سنوات. لم تَعُد مُهدَّدةً فى وُجودِها، ولا صار فى وسْعِ الإرهاب أن يَقُضَّ مضجعَها مثلما كان فى السابق. الفضلُ المُباشرُ يعود إلى نجاعة الإجراءات، ويقظة الأجهزة الأمنية، وفاعليَّة القانون فى التصدى للتهديد والخُروقات، بأكثر مِمَّا يتَّصل بارتداد الكيانات الإرهابية على أعقابها، أو بتعديل رُؤاها، وانحرافها عن انحرافاتها القديمة.
ومع الإقرار بأنَّ المعركة حُسِمَتْ بثباتِ البلد قبل رخاوة أعدائه، فلا مانعَ من ترجمة حالة الثقة والاستقرار سُلوكًا مُغايرًا فى إدارة العلاقة مع المُناوئين سابقًا، وتأكيد حال الأمن والرسوخ بالمُراجعة والاحتواء، مثلما تُرجِمَتْ بالبأس والحَسْم. وهكذا تُعبِّرُ إشاراتُ الانفتاح المُتواترةُ عن قوَّةٍ حقيقيَّة، وعن عَزمٍ صادقٍ على عبور محطَّات الأسى فى الذاكرة القريبة، وعدم التوقُّف أمامَها لتظلَّ عقبةً فى طريق الإصلاح والتجديد، وإعادة بناء المجال العام على قاعدةٍ راسخة من التوازُن والعدالة والاعتدال.
نسائمُ لطيفةٌ تهبُّ على الجوِّ العام فى مصر خلال السنوات الأخيرة، بدا للعيان أنَّ حال الاحتدام كانت ظرفًا استثنائيًّا دُفِعَتْ الدولةُ إليه، وتعيَّنت عليها الاستجابة لضغوطها القاسية بكل السُّبل المُمكنة؛ دفاعًا عن الوجود والاستدامة، لكنها فى الوقت نفسه كانت تترقَّبُ السياقات المُواتية، وتتحيَّنُ عودةَ المياه إلى مجاريها، أو إعادتها حالما يتيسَّر الخروج من الاضطرار إلى الاختيار.
والإشارةُ الأبرز قبل نحو ثلاثين شهرًا، عندما دعا الرئيسُ السيسى إلى حوارٍ وطنىٍّ مُوسَّعٍ، ودارت الماكيناتُ اشتباكًا مع كل القضايا، وفُتِحَتْ الملفَّاتُ كُلُّها على طاولةٍ جامعة، أفضَتْ بين ما تعمَّقت فيه إلى دعاوى لتصفية بعض المسائل العالقة، والنظر فى أوضاع المحبوسين احتياطيًّا، وفى العنوان برُمَّته، وكان من نتاجِها الإفراج عن المئات عبر دفعاتٍ مُتتالية، وعَرض المطالب على مسار التشريع، وصولاً لإعداد مشروعٍ جديد لقانون الإجراءات الجنائية.
كانت فلسفةُ الحوار فى بدايته أنْ يبدأ من الموضوعات الوِفاقيَّة نوعًا ما، فاستبعَدَ مجلسُ أُمنائه النظرَ فى قضايا الأمن القومىِّ والسياسة الخارجية، واستثنَى الكيانات والأفرادَ المَوصومين بالإرهاب من المُشاركة إلى أنْ جاءت المُبادرةُ مُجدَّدًا من الرئيس، عندما دعا فى خطابِ تنصيبه لولايةٍ جديدة، مطلع أبريل الماضى، إلى بحثِ العناوين الاستراتيجية التى كانت مُستبعَدَة فى السابق، اتِّصالاً بالأوضاع الإقليمية والدولية، وما يجرى على الحدود الشماليَّة الشرقيّة جرّاء العدوان الإسرائيلىِّ على قطاع غزة.
ثمَّ جاءت الخطوةُ الأحدثُ أمسِ، عندما أجابتْ محكمةُ الجنايات طلبَ النيابة العامة برَفْعِ مئاتِ الأسماء من قوائم الإرهاب، بعدما أثبتت التحرّياتُ الأمنيَّةُ توقُّفَهم عن الأنشطة التى كانت سببًا فى إدراجهم، مع استمرار النظر فى بقيَّة الحالات بحسب الظروف والأحوال، وهو ما يأتى فى سياق التفاعُل من سُلطة الادِّعاء مع التوجيهات الرئاسية، وعلى قاعدةٍ من الرغبة الصادقة فى تذويب رواسب الحِقَب السابقة، والوصول إلى مُصالحةٍ وطنيَّةٍ تلتزمُ صحيحَ القانون، وتُحصِّنُ مناخَ الاستقرار والانفتاح.
أصدرتْ النيابةُ بيانًا مُوجَزًا، قالت فيه إنها كلَّفَتْ الأجهزةَ الأمنيَّة بالتحرِّى عن نشاط كلِّ المُدرَجِيْن على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، تمهيدًا لرَفْع مَنْ يَثبُت توقُّف أنشطتهم. وأكَّدَتْ أنَّ الخطوةَ تأتى فى إطار توجُّه الدولة بمُراجعة كلِّ الحالات، وأنها عرضَتْ خُلاصةَ التحرِّيات على محكمة الجنايات التى أجابَتْها إلى طلبِها، كما ستُواصلُ النظرَ بالفحص والمراجعة الدائمين لبقيَّة المَشمولين بالتصنيف.
وما فات مَعناهُ أنَّنا قد نكونُ بصددِ دفعاتٍ أُخرى فى الفترات المُقبلة، وأنَّ الخصومةَ كانت للوطن لا عليه، ولم تكُن شخصيَّةً على الإطلاق، بل موضوعيَّة تحتكمُ للوقائع والمعلومات، وتَنضبِطُ بالقانون، وتتَّخذُ طابعًا ناضجًا فى انعقاد المُنازعة أو فَضِّها، حتى أنَّ جهةَ الاتّهام تُبادِرُ من تلقاء نفسِها إلى نَقضِ ما طلبتَه سابقًا، عندما تبيَّن لها أنَّ الغرضَ الأساسىَّ من الإجراء التحفُّظى قد تحقَّق: أوَّلاً بكَفِّ الأذى عن الدولة وقتمَا كان قائمًا ومخاطره داهِمَة، ثمَّ بكَفِّه عن الأفراد بمُجرَّد انضباط السلوك وزوال أسباب الإدراج.
شملَتْ قائمةُ النيابة العامة 716 شخصًا من المُدرَجِيْن على قوائم الإرهاب، سنعرفُ الأسماءَ وربما الانتماءات التنظيميَّة مع نَشر القرار مُفصَّلاً فى الجريدة الرسمية، إنما للوهلة الأُولى، وبالبديهة طبعًا، سيكون أغلبُهم من ذوى الميول الإخوانية، ومعنى التثبُّت من الامتناع عن أنشطتهم المُوجِبَة للإدراج سابقًا، أنهم انقطعوا عن الاتِّصال التنظيمى والأدوار الحركيّة، وتخلَّوا فى النطاق المنظور عن ربط أنفُسِهم بالجماعة الإرهابيّة.
والإشارةُ المُهمَّة هُنا أنَّ الأيامَ تكفَّلَتْ بدَورِها الطبيعىِّ فى الفرز وتبيان الحقائق، ولم تُثَبِّتْ أركانَ الدولة وتنصُرها على خصومِها فحسب؛ بل صَدَّعت جُدرانَ العداوة وأخرَجَتْ أسراها، فكَفَر كثيرون منهم بالكيان المارق الذى كانوا ينتمون إليه، ويعملون فى خدمته، بعدما تبيَّن لهم انحرافه أو عمالته، أو أنه يُغامِرُ بهم لأغراضٍ لا تخصُّ الدين ولا الوطن.
استُحدِثَتْ القوائمُ بمُوجَب القرار بقانون رقم 8 لسنة 2015، وأصدره الرئيس السيسى بعد عشرة أشهر من تولّيه المسؤولية خلفًا للمستشار عدلى منصور، بينما كانت الحرب مع الإرهاب على أشُدِّها، ولم تكُن السلطةُ التشريعية قد تشكَّلت بعد. وجاء فى ديباجةٍ وعشر مواد، وبعد التأصيل الدلالى وإيراد التعريفات فى المادة الأُولى، نظَّم الإجراءات بشأن الكيانات والأفراد، وأسباب الإدراج، والآثار القانونية والمادية المُترتِّبة عليه، ودائرة الجنايات المُختصَّة بالمسألة.
وحدَّد النص التشريعى نطاقًا زمنيًّا لا يتجاوزُ ثلاثَ سنوات، يتطلَّبُ الأمرُ بعدها الرَّفعَ من القائمة أو العرض على التجديد، مع أحقيّة النيابة العامة فى التقدُّم طوالَ الوقت، طلبًا لإزالة اسم شخصٍ أو كيان، وهو الاختصاص الذى فعَّلَتْه مُؤخَّرًا بشأن الدفعة المُشار إليها.
منذ إقرار القانون وإلى اليوم، أُضِيْفَ مئاتُ الإرهابيِّين إلى القوائم باتهاماتٍ قويّة أو بوقائع ثابتة، وجرى تعديلُ بيانات البعض على فتراتٍ؛ إنما كان الخروجُ من القائمة محدودًا، إمَّا لإدانةِ كثيرين منهم فى قضايا جنائيَّة مُتّصِلَةٍ بالصِّفَة الإرهابية، أو لتجديد مُدّة الإدراج من واقع الحاجة لذلك، وعدم ثُبوت ما يشى بانقطاع المَعنيِّين عن مُسبِّبات التصنيف. أمَّا الخطوةُ الأخيرة فتتأتَّى قيمتُها من الحَجم والرمزية.
على مدى السنوات التسع الماضية، بلغت أقصى حصيلة ما يتجاوز 4 آلافٍ بقليل، ما يعنى أنَّ خطوةَ النيابة العامَّة شملَتْ قُرابةَ خُمس المَوضوعين على القوائم، وهو مُؤشِّرٌ بالغُ الدلالة لجهة شجاعة القرار أوَّلاً، ثمَّ مَدَى التبدُّل النفسىِّ والفكرىِّ لدى المئات الذين أثبتت التحرِّياتُ إقلاعَهم عن الأنشطة المُجرَّمة أو المُثيرة للشكوك، وفى هذا ما يُبشِّرُ بانحسارِ الخزَّان العاطفىِّ الذى كان يربطُ تنظيمات الإرهاب بقواعدها، ومن طبائعِ الأُمور أنَّ تفسُّخَ الصفِّ الداخلىِّ؛ إنما يسبقُه العَجزُ عن التجنيد واجتذاب أعضاء جُدد، فكأنَّ الفكرةَ تتآكَلُ من داخلِها، وجبهةَ الحرب على الدولة آخذةٌ فى التلاشى.
تضمُّ القوائمُ نحو ثمانية كياناتٍ إرهابية، تشملُ جماعة الإخوان وأجنحتَها المُسلَّحة، والجماعة الإسلامية وتنظيمات ولاية سيناء وأنصار بيت المقدس وغيرها، فضلاً على نحو سِتِّ كياناتٍ اعتباريَّة، منها جمعيَّةٌ أهليَّة وعِدّةُ شركات. والتصويبُ لم يشمَلْ أيًّا منها، لكنَّه انحصر فى أفرادٍ ربما ينتمون لها جميعًا، أو لبعضها.
والمعنى، أنَّ الحركات الأُصوليَّة العنيفة لم تُبَدِّل مواقفَها، ولا غيَّرت أجنداتها الحارقة، إنما تتحرَّكُ الأفكارُ والرُّؤى فيما بين القواعد والمُنتَمِين، وذلك بعدما استشعروا خِسَّةَ جماعاتهم أوّلاً، ثمَّ تيقّنوا من صلابة الدولة، وتلك التقابُليَّة قادرةٌ على تحرير مَزيدٍ من الأفراد، أكانوا مُنخَرِطِين بإيمانٍ سابقٍ أم خُدِعوا وغُرِّرَ بهم، إذ تفتحُ لهم الحوادثُ وتطوُّراتُها بابًا واسعًا على المُراجعة والتقويم، والاقتناع بأنه لا يُمكِنُ الانتصار على بلدٍ قوىٍّ مُتماسك، كما لا يُمكِنُ إتيانَ النوايا النبيلة بوسائل مُنحَطّة؛ فماذا لو اكتشفوا أصلاً أنهم كانوا جنودًا لأجندةٍ ساقطةٍ وفى معركةٍ ظالمة؟!
لم تكُن الكياناتُ الإرهابيَّةُ والإرهابيِّون بين أوراق الحوار الوطنى، ومفهومٌ طبعًا أنه تقصَّدَ تغليبَ الوِفاقىّ على الخلافىِّ، وابتعَدَ عن المسألة لِمَا فيها من شُبهاتٍ وألغام. وما أعرفُه عن مسار التجربة، بدءًا من الدعوة، إلى تشكيل مجلس الأُمناء، ووضع ملامح اللجان والجلسات، يقطعُ بأنهم ما أُجْبِروا على عنوانٍ ولا مُنِعُوا عن آخر؛ إنّما رُسِمَتْ الحدودُ بينهم بمُبادرةٍ داخليَّةٍ أجمعَ عليها الحضور، وهُم يُمثّلون كلَّ التيارات والأفكار.
والقصدُ، أنَّ الذهاب إلى مُراجعةِ قوائم الإرهابيين جاء فى سياق المُبادرة الخالصة من جانب الدولة، أو القيادة السياسية على وجه التحديد، ولم يكُن مَوضوعًا للجدل أو النقاش فى الداخل والخارج، ولا هو مِمَّا تنقسم الآراءُ فيه؛ بالنظر إلى الإجماع الوطنى العام على رفض الإخوان وإفرازاتهم، وكلّ مَنْ يُشبهونهم من جماعاتٍ وأفراد، أىْ أنَّ الخطوة تُعبِّرُ عن رغبةٍ حقيقيَّة فى ترتيب البيت على مُرتكزاتٍ جديدة، ومن دون وُقوفٍ أمام خبراتنا الثقيلة، ولا إبقاء الماضى مُتسيِّدًا على الحاضر؛ طالما أنَّ المسألةَ مِمَّا يقبلُ التوبةَ، ولمْ يَسبِقْها تَورُّطٌ فى دمٍ أو جُرمٍ يُعاقِبُ عليه القانون.
سأكونُ صريحًا للغاية، أنا مِمَّن لا يرون أنَّ أفكار الإخوان انتهت فى الشارع، وإن كُنتُ أنظرُ للتنظيم على أنه ذهبَ لمزبلةِ التاريخ، ولم يَعُد قادرًا على الحياة بصُورته القديمة، ولا بأيَّة مُعالجةٍ شبيهةٍ بما كان عليه، وما أورَدَه مواردَ الهلاك بشَنِّه الحربَ على بيئته، ودخوله فى عداء مع الشعب بكاملِه، ثمَّ بالعمالة لصالح أجهزةٍ وحكوماتٍ، صديقة أو مُعادية.
وإلى هذا، أرى أيضًا وبوضوحٍ كامل أنَّ الضمانةَ الأكبر لرَفض الجماعة من جانب الدولة، تتَّصل أكثرَ ما تتَّصلُ بالرئيس السيسى ومواقفه الصارمة، وبانحيازاته التى لا تقبلُ المُواءمة معهم الآن، مثلما لم تَقبَلْها وقتما كان وزيرًا للدفاع.
والمُرادُ، أننى أرى فيما ذهبَتْ إليه النيابةُ العامَّة تفاعُلاً مع توجيهات الرئيس، خطوةً لا تختلفُ كثيرًا عن النظر فى قوائم الحبس الاحتياطىِّ، بالإفراج عن بعض المحبوسين، أو بإعادة بناء القانون وفقَ فلسفةٍ وإجراءاتٍ مُحدَّثة، أىْ أنَّ المُبادرةَ لتقليص قوائم الإرهابيِّين تنبعُ من مُراجعةٍ حقيقيَّة جادة، ومُلتزمة بالثوابت الوطنية والتشريعية الراسخة، وليستْ مُقدِّمةً لأىِّ شىءٍ يُمكِنُ أن تُفهَمَ منه المُصالحة مع جماعةٍ إرهابيَّة، أو السماح لفكرةٍ ساقطة بأنْ تتنفَّس هواءَ مصر من جديد.
القرارُ فى حقيقته تصويبٌ على التنظيمات، وإخلاصٌ ديناميكىٌّ ومُتجدِّدٌ لحصارِها من الخارج، وتقويضِها من الداخل، وحِرمانها خزّانَها البشرىَّ الذى أسَّست حضورَها عليه، وصارت مُهدَّدةً بالتداعى الكامل من خلاله، كُلَّما تكشَّفت الحقيقةُ لواحدٍ منهم، أو شَذَّ آخرون فيهم عن القطيع.
قد لا تكونُ ذِهنيَّةُ بعض المَشمولين بالقرار تغيَّرت تمامًا، إنما القانونُ لا يأخذُ بالنوايا ما لمْ تَقترِنْ بفِعْلٍ، والرسالةُ أنَّ السلوكيات تغيَّرت عمليًّا، ربما تَقيَّةً أو عن اقتناعٍ. فى الأُولى تقفُ الدولةُ لهم بالمرصاد، إن عادوا إلى سوابق الممارسات، وفى الثانيةِ يستحقُّ الاحتمالُ أن نُراهِنَ عليه ونُعزِّزَه، وأن ندعمَ الانفصالَ العَمَلانىَّ عن حواضن الإرهاب بالاحتضان والاستيعاب، وتمريره إلى العقل والعاطفة، بما يسمحُ لاحقًا بتحرير العالقين فيهم من براثن الأفكار الجُهنميَّة الحارقة.
وإن كانت الدولةُ قد امتلكَتْ زِمامَ أمنها، وفرَضَتْ قرارَها على الخارج قبل الداخل، فإنها لم تَعُد محلَّ ارتيابٍ من الأفراد مهما كانت انحيازاتُهم، أو حجم ما أضمروه فى نفوسِهم، بمعنى أنَّ مَنْ هَزَمَ الإرهابَ مَرّةً سيهزمه ألفَ مرَّة، وهو قادرٌ على تحجيم وتحييد مخاطرِه، ولا مُنازعته فى الفرائس التى يتقصَّدها، واقتناصها من بين مخالبه، هكذا يُمكنُ القَولُ إنَّ تصويبَ الشباب تصويبٌ على الإرهاب، وإنَّ قرارًا كالذى صدرَ أمس، يضربُ الجماعات الحاضنة للعُنف فى أثمن ما لديها، أىْ القواعد والمتاريس البشريَّة التى تحصَّنَتْ وراءها، ومرَّرت من خلالها كثيرًا من أفعالها السوداء.
يُعبِّرُ الموقفُ عن إرادةٍ وطنيّة صادقةٍ تنحو للمُصالحة على المستوى الفردىِّ، وبعد فرزٍ وتدقيقٍ فى القوائم حالةً بحالةٍ. والسنوات الماضية إذ أثبتت للجميع أنَّ جماعات الإرهاب لا تنطلقُ من عقائد صافيَّةٍ، ولا تَحُدُّها أُطرٌ ناظمةٌ من الأخلاق والإنسانية، فإنَّ القريبين منها أقدرُ الناس على اكتشاف عِلاَّتها، وعلى مُقاربة الحقائق من منطقةٍ ذاتيَّة خالصة، بينما يَرون القادةَ يعيشون حياةً مُرفَّهةً فى الخارج، والحلقاتِ الوسيطةَ تنزلقُ من جريمةٍ إلى أفدح منها، وتبتذلُ نفسَها وشعاراتها فى خدمةِ مَنْ يدفع لهم أكثر، ما يكفى لإقامة الحُجّة على التيّار بكاملِه، وتعرية التناقضات التى أرهقت أفرادًا هُنا، وضاعَفَتْ أرصدةَ غيرهم فى البنوك هُناك.
والوَصلُ بين النظر فى قوائم الإرهاب، وما كان من سوابق فى ملفِّ الحبس الاحتياطىِّ، ومُخرَجَات الحوار الوطنىِّ على مدى عامين تقريبًا من العمل، إنما يُعبّرُ عن فلسفةٍ تَنتَظِمُ فى صُوَرٍ شَتَّى من المواقف والإجراءات، سَعيًا لتَلافى المآخذ على بعض الحالات القانونية محلّ الالتباس والجدل، وإلى تصفية الدفاتر القديمة من حساباتها العالقة، كلَّما كان هذا مُمكِنًا، وفَتح المجال العام على آخره؛ ليتداول المُتداولون فى كلِّ ما يَشغَلُ أذهانَهم، ويَرونَه مُحقِّقًا للمصلحة والإجماع على مُشتركاتٍ وطنيَّة واضحة.
النيابةُ قالت إنها تعاطَتْ مع توجُّه الدولة، ومع توجيهاتِ الرئيس السيسى. وليس فى الأمرِ انقطاعٌ عَمَّا كانت عليه مواقفُ القيادة السياسية من أوَّل العهد بها، فالرجلُ الذى انحازَ لمطالب الناس فى 30 يونيو، ولبَّى نداءَ الشارع وقُواه المدنيّة والحزبيّة رَفضًا لرَجعيَّة الإخوان وتَوَحُّشِهم، يعرفُ أنه لا يُمكِنُ التعايُش على الإطلاق مع الجماعة الإرهابية بذخيرتها العقائدية المُشوَّهَة، وانحيازاتها العدائيَّة غير الوطنيَّة، لكنَّ هذا لا يمنعُ من تقليم أظفارها باللِين مثلما قُلِّمَتْ بالشِّدَّة، وحرمانها لا من القُدرة على اجتذاب النشء والتغرير بهم فحَسْب، بل من امتداد وُصايتها على عقول وأرواح الساقطين من قبل فى مُستنقَعِها، وإعانتهم على الخروج من الفَخّ الذى حفرته لهم، وانزلقوا إليه عن جهلٍ أو عاطفة مَشبوبة.
كان الرئيسُ قد قدَّم نموذجًا إيجابيًّا مُبكِّرًا قبل سنوات، بالاستجابة للمطالب خلال إحدى دورات مُؤتمرات الشباب الوطنية، تدشينًا لأوَّل نسخةٍ من «لجنة العفو الرئاسىِّ» عن المحبوسين، ثمَّ إعادة تفعيلها عقب الدعوة للحوار الوطنى، وتلقّيه الحَسِن لتوصية المُتحاورين بشأن الإجراءات الجنائية والحبس الاحتياطىِّ، وُصولاً إلى المُبادرة أخيرًا بالاشتباك مع أكثر الملفات وُضوحًا وتوافُقًا، لا سيّما أنها تتَّصِلُ بسنواتٍ من الأسى عاشتها البلادُ على امتدادِها، وقاسى منها الأفرادُ قبل المُؤسَّسات، والعامَّةُ قبل القادة والكوادر الأمنيّة، ما يعنى أنّه يذهبُ لفَتحِ صَفحةٍ جديدة عن تقديرٍ جادٍّ لأهميَّة الخطوة وأمانها، وعن يقينٍ فى امتلاك حصانة الدولة والمجال العام أوَّلاً، ثمَّ لحَاجَتِنا إلى طَىِّ المواجع ونَفض المُنغِّصات، وإتاحة مساراتٍ بديلةً لتَوبة النادمين، وانقطاعهم عن السقطات القديمة.
كلُّ رصاصةٍ أُطلِقَتْ على الأبرياء ارتدَّت على مُطلِقِيها وَبالاً، أكان بالتصدّى الصارم والحَسم القوىِّ، أم بالمُلاحقة والمُساءلة والرَّدع بالقانون، فضلاً على نزيف الصورة والمكانة، وتآكُل الإرث الذى راكمَتْه الجماعةُ الإرهابيَّة لأكثر من ثمانية عقودٍ من المُراوغة والتضليل؛ حتى بات اسمُها قرينًا بالعار، وحظوظُها على امتداد المنطقة شِبهَ معدومةٍ.
سقطَتْ فى مصر، فتداعَتْ فى المغرب وتونس والسودان وليبيا وسوريا وغيرها، وصار بالإمكان الحديث عن حقبةٍ من إعادة ترتيب المنطقة خارج ولاية الرجعيّات القديمة، افتتحَتْها القاهرةُ بإرادةٍ صُلبة، وسارت بقيَّةُ المنطقة على دَربِها، وأنجعُ صُوَر المقاومة اليومَ تقعُ فى نطاق الوعى، وأوَّلُه أن تُفتَحَ مساراتٌ بديلةٌ للمُتورِّطين فى حبائل الإرهابيين، ليَعودوا إلى الصواب أوَّلاً، ثمَّ ليَكونوا شاهدًا أمامَ الباقين مِمَّن يتخبَّطون داخل التنظيمات، أو تخدعُهم الدعايات والرسائل المُلوَّنة.. رسالةٌ إلى الحاضر والمُستقبل فى آن، وطعنةٌ للإرهاب بقَدرِ ما هى استنقاذٌ للشباب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة