في الوقت الذي يمثل فيه الوصول إلى صيغة من شأنها وقف إطلاق النار في لبنان، مؤشرا إيجابيا، عبر تهدئة أحد الجبهات المشتعلة في المنطقة، في لحظة تبدو خطيرة، قد تقود حال تفاقمها إلى حرب إقليمية شاملة، إلا أنها تعد كاشفة للعديد من الأبعاد الأخرى، إدراك حكومة بنيامين نتنياهو لمخاطر الاستمرار في معركته في الأراضي اللبنانية، والتي ستسفر لا محالة عن مزيد من الخسائر العسكرية والاقتصادية، ناهيك عن خسائر أخرى في الأرواح، بالإضافة إلى كون قرار مجلس وزراء الاحتلال بالمصادقة على القرار هو محاولة ضمنية لاحتواء الغضب الدولي الناجم عن التعنت الذي تتبناه حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، خاصة وأنه جاء بعد أيام قليلة من قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس وزراء الاحتلال ووزير دفاعه السابق، وردود الأفعال التي تجاوبت معه خاصة بين حلفاءه في أوروبا.
ولعل الربط بين قرار المحكمة الجنائية الدولية وقرار وقف إطلاق النار، يبدو مهما في إطار النظر إلى ردود أفعال دول أوروبا الغربية، بالإضافة إلى مجموعة السبع والتي أجمعت على الاستجابة لأوامر الاعتقال الدولية بحق المسؤول الإسرائيلي، من جانب، والأهمية التي تحظى بها لبنان في الأجندة الأوروبية، وخاصة فرنسا، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أبرزها الدور الذي لعبته باريس، سواء فيما يتعلق بالاتفاق الأخير أو في العديد من القضايا الأخرى التي تشهدها بيروت من جانب آخر، وهو ما دفع إلى ضغوط كبيرة مارستها القوى الرئيسية في القارة العجوز على الولايات المتحدة، لإجبار إسرائيل على الرضوخ للقرار، وهو ما تحقق في نهاية المطاف.
وفي الواقع فإن مواقف دول أوروبا الغربية، ومعهم الاتحاد الأوروبي، تجاه مسألة اعتقال نتنياهو، وإن كانت من الناحية العملية، يحيط بها العديد من صعوبات طالما تواجد في منصبه، إلا أنها كانت بمثابة رسالة سياسية، تعكس حقيقة مفادها أن إسرائيل لم تعد خطا أحمر في أجندة الغرب، خاصة في القارة العجوز، وأن الدولة العبرية فقدت الكثير من التعاطف الدولي، خاصة بعد استهداف لبنان وما يحمله هذا التصعيد من تهديد صارخ لمصالحهم، في الوقت الذي يبقى فيه اعتماد تل أبيب على الحليف الأمريكي بمفرده ليس كافيا، خاصة بعدما أصبح غير قادر على حشد الحلفاء نحو تبني مواقف متطابقة معه فيما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية، وهو الأمر المرشح للتفاقم مع اعتلاء ترامب عرش البيت الأبيض، في ضوء سياساته التي لا تروق في معظمها للحلفاء الأوروبيين، خاصة في مجالات الأمن والاقتصاد، والتجارة، وبالتالي فالحاجة تبدو ملحة لاسترضاء أوروبا، عبر تهدئة الجبهة اللبنانية، في حين يبقى تساؤلا حول ما إذا كانت هناك جبهات أخرى في الطريق سوف تسعى تل أبيب إلى فتحها في المستقبل القريب، على غرار العراق، وآخر حول مستقبل غزة، والذي سيكون محل تركيزي في هذه السطور.
الحديث عن غزة، يمثل أهمية قصوى، وأولوية بالغة، حيث وأن اتفاق لبنان، وإن كان إيجابيا، فهو كاشفا للتقاعس الدولي الكبير تجاه القطاع المحاصر لما يقرب من أربعة عشرة شهرا كاملة، خاصة وأن اللهجة الأوروبية تغيرت نسبيا بعد مصادقة نتنياهو على الاتفاق، وهو ما بدا في حديث وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاياني حول ما اعتبره شكوكا تتعلق بمذكرة الاعتقال، وذلك في أعقاب تناثر الأخبار حول المصادقة على قرار لبنان، ليتبعه بعد ذلك نظيره الفرنسي جان نويل بارو حول تمتع بعض القادة بالحصانة أمام المحكمة، وهو الأمر الذي يعكس غياب الإرادة السياسية عن المجتمع الدولي، وبالأخص في الغرب الأوروبي للتعامل جديا مع أزمة غزة، وإنهاء العدوان عليها، وهو ما يمثل استمرارا لحالة من الازدواجية التي اتسمت بها دول المعسكر الغربي.
التغيير في مواقف الغرب تجاه نتنياهو وحكومته بعد إبرام اتفاق لبنان، يعكس تعارضا صارخا في الأولويات مع المصالح الإقليمية، في ضوء الرؤية القائمة على تعزيز مناطق النفوذ على حساب القضية المركزية، بينما يمثل غياب الإدراك بحقيقة ارتباط الاستقرار في الشرق الأوسط بصورة مباشرة مع القضية الفلسطينية، كما أنه في الوقت نفسه يمثل ضوء أخضر إلى إسرائيل للبحث عن جبهة بديلة إذا أرادت، لتبدأ فيها معركتها الجديدة، حتى تلفت الأنظار عما يحدث بغزة وما يرتكب بها من انتهاكات.
وهنا يمكننا القول بأن معضلة الغرب في منطقة الشرق الأوسط في تجاهل الارتباط الوثيق بين فلسطين والاستقرار، وهو الأمر الذي يحمل تداعيات كبيرة على مناطقهم، في ظل احتمالات تمدد الصراع مجددا، وهو ما يعني أن الحاجة ملحة إلى مواصلة الضغط لتحقيق مزيد من الاحتواء للجموح الإسرائيلي، خاصة في غزة، عبر إرادة دولية قوية من شأنها الوصول توسيع دائرة الاستقرار، لتشمل كافة دول المنطقة