قُرابة 420 يومًا قضاها الطرفان فى ميدان القتال، منها نحو تسعة أسابيع مع التصعيد عالى السقف، بعدما أخذت الحربُ صِفَتَها الكاملةَ دون قواعد مُعلَنَة أو ضِمنيَّة، وها قد ذهبًا إلى التهدئة اضطرارًا. سيكونُ كلُّ طرفٍ منهما مُخطئًا لو اعتبرَ الاتفاق لصالحِه، أو يجَسِّدُ صُورةَ النصر التى سعى إليها عبر اختبار الخيارات الخَشِنة، وتسعير الدعايات والحروب النفسية إلى آخرها.
باختصارٍ؛ هُزِمَ الطرفان ولم يَربَحْ أحد، وإنْ كانت الهزيمةُ أكبرَ على صعيد حزب الله وكامل البيئة اللبنانية، والأفدح منها ما نزلَ على رؤوس الغزِّيين؛ بالمُقامرة الحماسيّة أوّلاً، ثمَّ بأثر الاشتباك غير المحسوب شمالاً، وترقية المسألة من كَونِها جولةً فى صراعٍ فلسطينىٍّ إسرائيلىٍّ، إلى دَمغِها بخاتم المُمانَعة، وتحميلِها أثقالَ الشيعيَّة المُسلَّحة، وكُلفةَ تحوير المَظلَمة الإنسانية لتصير هامشًا على مَتن الأيديولوجيا، وظِلًّا باهتًا من صِدام الأُصوليَّات والهُويَّات الحارقة.
أُبرِمَتْ الصفقةُ أخيرًا بوساطةٍ أمريكية، ونزلَ المُتحاربان عن الشجرة بعدما احترقَتْ فُروعُها. وقد تكبَّدتْ الدولةُ العِبريَّةُ خسائرَ فادحةً فى المال والأرواح، وأضعافَها فى السُّمعة، وانكشاف نظرية الأمن المُتحَصِّنة وراء «جدارٍ حديدىٍّ» أرسَته تنظيرت جابوتنسكى، ورعاه ورسَّخه الآباءُ المُؤسِّسون من زمن بن جوريون، إلى أن سقط فى عهدة نتنياهو. إنما لا يُمكن القفز على أنَّ أضرار لبنان كانت أكبر، فى الاقتصاد والحياة ومناعة البيئة الوطنية، وأكثر منها طالت الحزب فى الكيان والصورة، ومدى القُدرة على إبقاء سرديَّته القديمة بعيدةً من النقد والاعتراض.
وكما صار على الاحتلال أنْ يُعيدَ النظرَ فى أفكاره الإلغائيّة، وفى آليات الاشتباك مع مُحيطِه بالسياسة أو السلاح، صار واجبًا على المُمانَعة أيضًا أن تعودَ بخطواتٍ واسعة للوراء، وأن تستوعبَ دُروسَ السنة الأخيرة؛ لتقويم اختلالات العقود الماضية، وتجاوزِ اعتلالاتِها البنيويَّةَ، وصراعها الوجودىِّ الهادر مع حواضنها اللصيقة، وفيما بينها أوَّلاً وقبل كلِّ شىء.
وقطعًا؛ ليس أهمَّ من إنقاذ لبنان، أو أيَّة ساحةٍ إقليميَّة مأزومةٍ من داخلها، أو مُرتبِكَة أمام تحدّيات الرسالة والدور، وما عليها من التزاماتٍ تجاه نفسها، بينما تنقلِبُ عليها بعضُ مُكوِّناتها الأصيلة، أو تستهدِفُها الخصومات الراديكالية من الخارج. لكنَّ الأولويَّة المقطوعَ بها هُنا، لا تنفى حقيقةَ أنَّ الشيعيَّة المُسلَّحة تضرَّرت من حرب غزة، وأضرَّتها، وأنَّ القضيَّةَ الفلسطينية دفعت فواتير مُضاعَفةً كان يُمكن تجنُّبها، وتعرَّضت للخذلان عدَّة مرَّاتٍ فى هامشٍ زمنىٍّ ضيِّق.
خُذِلَت أوّلاً بتحفيز السنوار على «الطوفان» أو عدم رَدِّه عن المغامرة، ثمَّ بابتلاع وُعود الجبهة الواحدة أمامَ عدوٍّ واحد، وبعدها دخول الحزب على خطِّ القتال برعونةٍ واستخفاف، ودون رؤيةٍ حربيَّة أو سياسية مُكتمِلَة وناضجة، وأخيرًا مُغادرته للميدان بعدما صارَ فى حالٍ أسوأ، ودون أن يستنقذَ القطاعَ أو يُجنِّبَه مَغبَّة الحساب على أخطاء الآخرين. أربعُ طعناتٍ على الأقلِّ؛ ولو تعمّقنا فى الفحص والتقييم لَرُبَّما نقعُ على المزيد؛ ومثلما لم يعتذِرْ المُمانِعون عن رخاوتهم قديمًا، فإنهم ينسحبون اليومَ من دون اعتذارٍ أيضًا.
وبعيدًا من الدعايات، ومحاولات ترميم الكرامة بالخطابة وادِّعاء افتراضاتٍ نظريَّةٍ على خلاف الواقع، ولا تسندُها أيَّةُ إشاراتٍ ماديَّة وموضوعيَّة واضحة؛ فإنَّ البحثَ فى مسألة التهدئة كان رغبةً لبنانيَّةً عامَّةً وإجماعيّة؛ لكنه أُدِيْرَ حصريًّا من منظور الميليشيا الشيعيَّة، وبالحدِّ الأقصى عبر التوافق مع الرئيس نبيه برى وحده؛ نائبًا عن الطائفة والحزب لا عن الدولة ومُؤسَّساتها.
والمعنى؛ أنَّ الاتفاقَ النافذ اعتبارًا من فجر أمسِ كان فرعًا على الحرب، وصورةً فجَّةً لتناقضاتها، ولم يأتِ تحت سقف الكيانيَّة اللبنانية وتوازُنات الطائف. أى أنه مثلما عبَّر الانفرادُ بالتسخين عن حالِ المُغالبة والاستئثار بالقرار؛ فالتبريدُ كان ترجمةً ثانيةً للمبدأ نفسِه. والخطر كلُّه اليومَ أن يُمهِّدَ إسكاتُ البنادق على الحدود الجنوبية، إلى تأجيجها فى قلب الدولة وضد طوائفها؛ أى أنْ يَصرِفَ العائدُ من وراء الليطانى يجرُّ أذيالَ الخيبة، رصيدَ إخفاقه وانكساره وتشقُّق سرديَّته، من جيوب الجَمهَرة اللبنانية، وعلى حساب الدستور ومنظومة الحُكم المرُكَّبة تركيبًا حرجًا، وضمن مُعادلةٍ أقرب للاختلال من الاتِّزان.
ومبدئيًّا؛ فإنَّ توقيعَ الاتِّفاق لا معنى له إلَّا استسلام الحزب، وقبوله بالدخول فى عصرٍ جديد، تتقدَّمُ فيه الأصوليّة الصهيونية على مُنافستها الإسلامية فى وجهها الشيعى، وتُسقِطُ ضِمنيًّا دعايات شَرعَنة السلاح من بوَّابة الدفاع عن البلد، ومُجابهة الاحتلال بحثًا عمَّا تبقَّى من جيوبٍ ونقاطٍ عالقة.
ويصعُبُ تفسيرُ المسألة من مُنطلَق أنَّ «الحرب كَرّ وفَرّ»؛ إذ لم يَكُن الخطابُ الحِزبىُّ مُتقبِّلاً للفكرة بأيّة صورة على مدى العقدين الماضيين، كما أنه يَفِرُّ اليومَ أمامَ العدو؛ لكنه لو عاد إلى الكَرِّ مُجدَّدًا فسيكون فى مُواجهة الجيش/ أىْ الدولة وسُلطانها الشرعىِّ، فضلاً عن قوات «اليونيفيل» الدولية، وعن الضامن الأمريكىِّ الذى يترأسُ لجنةَ المُراقبة والتنسيق الخماسية.
ظلَّ الأمينُ العامُ السابق، السيد حسن نصر الله، يرفضُ تفعيلَ القرار الأُمَمىِّ 1701 بمُندرجاته الكاملة، ولم يَكُن مجاله الدلالى والإجرائى مَحصورًا فى ترتيب الأوضاع جنوبًا مع إسرائيل فحسب؛ بل إنَّ معناه الأبرز أنّه يضعُ الدولةَ فوقَ الطائفة، ويُقدِّمُ الجيش على الميليشيا.
وهكذا؛ بدا الرفضُ فى حقيقتِه خروجًا على النظام العام، وعن الكيانيَّة اللبنانيَّة فى ترتيبها الدستورى وعلاقاتها المُتوازنة. أمَّا العودةُ الآن فإنَّها تكتسبُ طابعَ الاندحار الحربىِّ من الخارج؛ ولو تبدَّى ظاهرًا أنها رجوعٌ للصفِّ الوطنى، وانسحابٌ لصالح المُؤسَّسة العسكرية الرسمية.
والقَصدُ، أنَّ الأسبابَ التى دفعَتْ الحزبَ للتشدُّد فى مَواقفِه السابقة، والتمسُّك بالهيمنة الكاملة والانفراديَّة على ثُلثِ الدولة تقريبًا، فى المنطقة من نهر الليطانى حتى الخطّ الأزرق، كُلُّها ما تزالُ قائمةً على حالها دونَ تَبَدُّل، وتُضافُ إليها العناوينُ الطارئةُ؛ وقد تعقَّدت بأكثر مِمَّا كانت عليه، وبدا أنه ساعدَ بانخراطِه غير المحسوب على تفاقهما، مثلما يُساعِدُ بالانسحابِ الإجبارىِّ على تأبيدها.
الاحتلالُ لم يُغادِر مَواقعَه فى النقاط الثلاثة عشرة محلّ الخلاف، والحدود لم يُعَدْ ترسيمُها كما أراد، أو حتى بالحدِّ الأدنى الذى تقترحه إسرائيل، بينما لَمْ تُحقِّق مهمَّة «الإسناد والمُشاغلة» غايتَها؛ إذ ما يزالُ العدوانُ واقعًا على غزَّة، وغيابُه المفاجئ اليومَ إنمّا يُعيدُ توجيهَ آلة القتل الوحشيَّة نحو القطاع؛ بأضعاف ما كانت عليه سابقًا.
ذريعةُ «نصر الله» فى إطلاق الرصاصة الأُولى بعد الطوفان بساعات، أنه يُقاتلُ إلى جانب حماس، ويصرفُ جانبًا من القُدرات الصهيونية عنها. وما حدثَ أنَّه ظلَّ لسنةٍ كاملةٍ تحت سقف الاشتباك الذى حدَّده لنفسِه، واتَّضحَ أنه لم يكن راسخًا فى وعى الطرف الآخر بالدرجة ذاتها؛ فلا قاتلَ فِعلاً ولا دعَمَ الغزِّيين دعمًا حقيقيًّا، ثمَّ أتاه التصعيدُ على ميقات تلِّ أبيب وأجندة رئيس حكومتها، ما أفضى إلى مقتله شخصيًّا، وتضرُّر الأُصول المادية والمعنوية التى راكمها على مدار عقود، واستثمرَ فيها كثيرًا من مُقدَّرات الدولة اللبنانية، ومن تنفعياته عبر اختراق حدود السلطة والقانون، أو الاتِّصال العميق والمشبوه مع الجمهورية الإسلامية.
والمُشاغَلَة لم تُقلِّص ترسانةَ الحرب على الجبهة الجنوبية، فلا سحبَ الاحتلالُ بشرًا أو مُعدَّات، ولا خفَّضَ مُعدَّلات البطش، أو بدا عليه التأثُّر العملانى بالتقاء الجبهتين؛ ما يعنى أنَّ إنهاء الضغط عليه اليومَ من الشمال، قد يسمحُ له بالتصعيد فى الجنوب، وأنَّ الأضرارَ المعنويَّة ستتضاعَفُ من زاويتين: إيجابا بالنسبة للعدوِّ، وسلبًا على امتداد حزام المُمانَعة، وأضعف خواصره الفصائلُ المُوشِكَة على الفناء عند أطراف فلسطين.
حتى الرِّبحُ المعنوىُّ الزهيد، فيما يخصُّ تحديدَ ملامح الاتِّفاق، تجلَّى سريعًا أنه كان على الإيقاع الإسرائيلىِّ لا الحزبىِّ. كان المُرادُ فى مُقترَح «هوكشتين» بصيغته الافتتاحيَّة أن تُبتَكَر لجنةٌ جديدة للإشراف على التهدئة، ثمَّ استُعِيْضَ عنها بتفعيل اللجنة الثلاثية القائمة بين بيروت وتل أبيب مع اليونيفيل. اعترض «برّى» على لندن، وتشدَّد نتنياهو فى رَفض باريس.
وعُرِفَ لاحقًا أنَّ الأُولَى لم تَطلُب الانخراطَ فى الصفقة، والثانية لم تدخُلْها استجابةً للضغوط اللبنانية، بل بأثر وساطة واشنطن لإقناع زعيم الليكود، وتذويب اعتراضِه على خلفيَّة مواقف «ماكرون» وحكومته الأخيرة، وأحدثها الترحيب بمُذكِّرة التوقيف الصادرة عن الجنائيَّة الدولية.
وبعد ساعاتٍ قليلة من إنفاذ وقف إطلاق النار، أعلنَتْ فرنسا رفضَها قرارَ المحكمة بحقِّ رئيس الحكومة العِبريَّة ووزير دفاعه السابق، وهكذا اتَّضحَتْ حقيقةُ التوافُق الخَفِىِّ، واكتملَ عقد الهيمنة الصهيونيَّة على التسوية الإذعانيّة فى الشَّكْل والمضمون.
ظُلِمَت غزّةُ من المُمانَعة قطعًا؛ إنمَّا مَظلَمةُ لبنان أكبرُ وأشدُّ وطأةً. لقد أُدخِلَ البلدُ فى مناخ الحرب دون ضرورةٍ أو مُسوِّغاتٍ مُقنِعَة، وأُخرِجَ منها اضطرارًا بلا منطقٍ أو تطميناتٍ على المستقبل، وبحصَّةٍ وافرةٍ من الخسائر الفادحة، يُشَكُّ للغاية فى أنها ستتوقَّفُ عند ما طاله بالفعل؛ لا سيَّما لو سعى الحزبُ لتعويض انتكاساته على حساب الدولة مُجدَّدًا.
سابقُ التجارب فيه ما يكفى من المَواجع، وما يُعزِّزُ الريبةَ ويُلطِّخ وجهَ التفاؤل العابس. فى العام 2006 غامرَ «نصر الله» بقرارٍ فردىٍّ، ثمَّ عاد ليُقرَّ بالخطأ ضِمنيًّا دونَ اعتذارٍ، ويقول إنه لو عَلَم بالمآل لَمَا ذهب فيما سارَ إليه؛ لكنه لم يتراجَعْ عن سُلوكِه الحارق، ولا فكَّ وثاقَ البلد من قبضته الغاشمة. بل على العكس، خرج من الميدان بتعادُلٍ له طَعمُ الهزيمة؛ فسوَّقَه نصرًا، ثمَّ صرفَه لحسابِه من رصيد لبنان، حتى أنه اقتحَمَ العاصمةَ بالسلاح، وأسقطَ الحكومةَ، وفرضَ الثُلثَ المُعَطِّلَ ليُنَصِّب نفسَه حَكمًا فوق الدستور والميثاق الوطنى.
وانطلاقًا من أنه لم يَعتَرِفْ حتى اللحظة بخطيئة حربِه الأخيرة؛ فإنَّه على الأرجح لن يعتذِرَ عنها، كما لا يرى فى جناياته ما يتطلَّبُ المُراجعةَ والتصويب. وعليه؛ فإنّه ما يزالُ غاطسًا لأُذنَيه فى السرديَّة المشوَّهة، وفى تعاريفه المغلوطة للنصر والهزيمة، وقد يُترجِمُ ذلك سُلوكًا خَشِنًا تجاه البيئة السياسيَّة، أو محاولةً للتشغيب على إعادة تكوين السلطة، وربما على التوافُقات الهَشّة بشأن الجنوب، لا سيَّما وقد تقدَّمَ الجيشُ وارتقَتْ حظوظُ قائدِه فى الرئاسة.
وفى التفاصيل؛ فالتصوُّر النهائىُّ للتهدئة أقلُّ كثيرًا مِمَّا كان يطلبُه الحزبُ، بل مِمَّا كان فى يدِه طوالَ العقدين الماضيين، ولعلَّه أقربُ إلى تصويب الخطايا الصهيونية فى الحرب السابقة بأثرٍ رجعىٍّ. صحيحٌ أنه يتحدَّثُ عن التزاماتٍ مُتبادَلة، ويمنحُ «حقَّ الدفاع عن النفس» بالتساوى؛ لكنَّ الواقعَ أنَّ القُدرات الحزبيَّة تضرَّرت كثيرًا، ولم يَعُد قادرًا على المُبادرة بالهجوم أو النديّة فى صَدِّه، ما يعنى أنَّ الصيغةَ المُدرَجَة فى الورقة تَلطيفٌ لسابقتِها لا أكثر؛ أىْ إيرادٌ مُراوغٌ لطَلَب تل أبيب بحُريَّة الحركة فى الجغرافيا اللبنانية.
يُضافُ لِمَا سبقَ، أنّه مَشمولٌ بالحضور الأمريكىِّ فى لجنة المُتابعة، وباتِّفاقٍ جانبىٍّ أبرمه نتنياهو مع واشنطن، تحت مُسمَّى «ورقة الضمانات»، يسمحُ بتبادُل المعلومات الاستخباراتية، ورصد الانتهاكات ومحاولات اختراق الحزب للجيش، والعمل المُشتَرَك إزاءَ التجاوزات فى الجنوب أو على محور إيران، ويُسخِّرُ الأقمارَ الاصطناعيَّة الأمريكيَّة للمُراقبة، مع السماح بطلعاتِ استطلاعٍ جويّةٍ؛ شريطةَ أنْ تكونَ على مُستوياتٍ عالية ولا تكسرُ حاجزَ الصوت.
والخُلاصةُ دون مُداوَرةٍ أو مُداراة؛ أنَّ الحزب مَدفوعًا بإملاءٍ من رأس المحور الشيعىِّ، فتح بابًا ذهبيًّا واسعًا للصهاينة أنْ يُدَمِّروا الجنوبَ اللبنانى، ويُعوِّقوا الدولةَ نفسَها لعقودٍ مُقبلة، فضلاً على ما أحدثوه من إرعابٍ و«كَىٍّ للوعى» العام. وما كان مَرفوضًا منه قبل شهورٍ، تقبَّلَه اليومَ بتكاليفَ مُضاعَفةٍ، وزاد عليه أنه بدَّدَ رصيدَه القديم، ومارسَ لوثةً طُقوسيَّةً أقرب إلى «الانتحار الجماعىِّ».
وقعَ الانكشافُ فى بيئتِه المُباشرة، وأمامَ الحاضنة العاطفيَّة فى عُموم المنطقة العربية. لم يَعُد الحزبُ بطلاً مغوارًا كما كان فى 2006، ولا ضمانةً للبنان والقضايا العادلة كما زعمَ وتاجرَ كثيرًا. تشرَّخَتْ علاقتُه بالمُكوِّنات الوطنيَّة الشريكة؛ ولو كانت مَبنيَّةً أصلاً على أُسُسٍ خاطئة، وصار استتباعُه من جانب طهران ظاهرًا للعيان، بجانب ما تأكَّد عن أنه وَضَعَ مصالحَ الغريب قبل القريب، ورهنَ دولتَه وناسَه لأجندةٍ تعرَّت هى أيضًا، بعدما أفرطَتْ فى الخطابة، وعجزَتْ عن إسناد ذاتها؛ وقد امتدَّت اليدُ الصهيونيّةُ إلى أعماقِها الحصينة.
من هُنا، يُمكِنُ القَولُ إنَّ الجولةَ الحالية بدَّدت أثرَ الاستثمار الإيرانىِّ فى الميليشيات وحروب الوكالة لنحو أربعة عقود، وغرسَتْ شاهدًا عريضًا على قَبر «وحدة الساحات»؛ إذ صارت عَمَليًّا أقربَ إلى الدعاية المنبريّة الفجّة، ومن دون إيمانٍ حقيقىٍّ، أو مَقدرةٍ ملموسةٍ على تفعيلها.
وكما انفرطَ عقدُها راهنًا؛ فلن يكون مُستطاعًا الرجوع إليها وإحياؤها فى المُستقبل، أوَّلاً لأنها انطفأتْ فى وعى أصحابها ومُمارساتهم، ولأنَّ الحاملَ الإقليمىَّ الذى رحَّب بها وحتضنها، صار أقلَّ ثِقةً فيها، ويعرفُ أنها صِيغَتْ لخدمة مشروعٍ مذهبىٍّ، وأنَّ حصَّتَهم منها لن تتجاوز التوريطَ أبدًا، وستظلُّ وعدًا دائمًا بمزيدٍ من الخذلان والنزيف والجروح المُتقرِّحة.
لم يكُن الرصيدُ السابقُ ناشئًا عن بأسٍ حقيقىٍّ، ولا عن صِدقيَّةٍ راسخة فى القَول والفِعل. صحيحُ أنَّ الإشارات كانت صاخبةً، بحيث يسهُل لكلِّ ذى بَصَرٍ وبصيرةٍ اكتشافُ أنَّ من خرَّب أربعَ عواصم عربيَّةٍ، لن ينصُرَ قضاياها أو يُعينَها على التشافى، بينما مصالحه ترتبط وجودًا وعدمًا باستبقائها فى حال الوهن والاعتلال؛ إلَّا أنَّ العاطفةَ غلبَت العقلَ للأسف، وكثافة الخُطَب والدعايات الشعبويَّة غطَّت على الأزمة وجَوهرِها الصارخ، وهو ما صُوِّبَ جُزئيًّا تلك المرَّة؛ إذ غايةُ ما يُكابر به المُؤدلَجُون والمَخدوعون حاليًا، أنَّهم يقبلون بالسرديَّة الصَّفَوية بمنطقِ أخفّ الضَّرَرَيْن؛ لكنهم يُوقنون فى أعماقهم أنه تَصدُق عليها صِفَةُ الضَّرَر، بما لا يختلفُ كثيرًا عن تحقُّقِها فى الصهيونية.
ذهب الحزبُ للتهدئة؛ لأنه لم يَعُد قادرًا على غيرها، ولأنه خُذِل من طهران، مثلما تشاركَ معها فى خذلان غزَّة والقضية الفلسطينية. أمَّا نتنياهو؛ فبرَّرَ قَبولَ الاتِّفاق بأنه يسعى لتخفيف الضغط عن قوَّات الاحتياط، وعَزل «حماس» تمامًا ونهائيًّا، والأهمّ التفرُّغ لإيران ومشروعها النووىِّ.
هكذا يقضى المنطقُ بأنَّ الوكيلَ اللبنانىَّ سيَصمُت ويحترمُ الصفقة؛ بينما سيتَّخذها العدوّ الصهيونىُّ مُنطلَقًا لتصفية الفصائل الغزِّية، والتصويب على الرأس بدلاً من الأطراف. وعليه؛ فالاحتمالُ المُزعِجُ أن يَستشعِرَ المُرشِدُ خطورةَ الحقبة المُقبلة؛ فيُملِى على الحزبيِّين أن ينوبوا عنه مُجدَّدًا؛ أو أن يستفزّهم الصهاينةُ جنوبًا؛ فيُعيدون فتحَ الجبهة دون اعتبارٍ بالسابق، ولا جاهزيَّة للاحق.
منافعُ زعيم الليكود عديدةٌ، أوَّلُها الخلاصُ من إزعاج الجبهة الشمالية، وإعادة النازحين من سُكَّان المُستوطنات. ومع تقليص الضغط على الجيش؛ سيكون بمَقدورِه تخفيض الطَّلَب من جنود الاحتياط، ما يسمحُ بتعطيل مشروع تجنيد الحريديم وإطالة عُمر الائتلاف الحكومىِّ.
الهديّة التى قدَّمها لبايدن ستمنعُه من تطويقه فى غزّة، وتمهيدُ الأرض لترامب من أجلِ تنصيبٍ هادئ نسبيًّا، قد يُغذِّى طموحَه فى أن يُلاقيه على هدف تطويق إيران. وبالأخير؛ كان الحزبُ طوقَ نجاةٍ له من وراء الخطِّ الأزرق، وها هو اليومَ يرتدُّ إلى ما وراء الليطانىِّ جَبرًا، بينما تتوافرُ للاحتلال فسحةٌ من 60 يومًا فى لبنان، وسيُغادرُه مَزهُوًّا بما يُشبِهُ النصرَ، أو على الأقل بقَطع أطول أطراف الشيعيَّة المُسلَّحة فى الإقليم، وتأمين الجليل من أعلاه.
يظلُّ الحزبُ ورقةَ الجمهورية الإسلامية الوحيدةَ تقريبًا؛ لا سيَّما فى ظلِّ النأى السورى عن اللعبة الطائشة، وما يُثارُ من جدلٍ فى العراق بشأن الفصائل المُوالية للمُمانَعة. وبهذا؛ فإنَّ لبنان أمامَ امتحانٍ قاسٍ، لأنه يحتاجُ لتصويب الاختلالات الداخليّة، بينما قد يُوظِّفُ قادةُ الضاحية سلاحَهم لتعويق الخطَّة، أو للتهديد بإعادة تسخين الميدان، فكأنها مُقايضةٌ مُعلَّقة وغامضة، تتداخلُ فيها حساباتُ السياسة والسلاح، والأطماعُ الطائفية مع الالتزامات العقائدية، ولا يُعرَفُ فيها أكان القرارُ داخليًّا صافيًا، أم مَدفوعًا من وراء الحدود كما جَرَت العادة.
زبدةُ القَول، ماتَتْ وحدةُ الساحات، وكلُّ ما يُحتَمَل بعد إعلان الوفاة، قد لا يتجاوزُ انتفاضةَ العروق؛ بأثر اندفاعة الدم قبل أن يسكُتَ القلب تمامًا. والواقعُ أنَّ الصهاينةَ يعرفون ذلك؛ لأنهم أردوه وعملوا عليه. إنما يتبقَّى أن يعرفَه المُمانِعون، وأنْ يعتذروا لأنفسهم أوَّلا عن خطايا الحساب وسوء التقدير، ثمَّ أنْ يندموا ندمًا صادقًا على ما أحدثوه فى بيئاتهم، وما جَنَوه على الإقليم بكامله، والأسى كُلُّه فيما حَمَّلوا به فلسطينَ فوقَ طاقتِها، أكان فى السِّلم أم فى الحرب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة