فى تلك الأيام لاحظت أن أبى قرر الإفراج عن جهاز الراديو ذى اللون السماوى المربع الشكل من محبسه فى درج مكتبه الصغير، ووضعه فى الصالة على "رف" خشبى مرتفع فوق الثلاجة للاستماع إليه فى محاولة لتخفيف الضغط والإقبال على مشاهدة التليفزيون الضيف الجديد فى بيتنا.
لم تحقق المحاولة النجاح المأمول والمنتظر إلا من بعض أشياء جديدة اكتشفتها فى الراديو غير خطب الرئيس جمال عبد الناصر الذى كان قد رحل قبل هذا الزمن بأربع سنوات، وظننت أن الراديو الذى اشتراه أبى خصيصا للاستماع فقط لخطب الرئيس ثم وضعه فى الدرج حتى يحين موعد الخطاب القادم، لن ينطق بشىء آخر بعد وفاة الزعيم.
ذهلت عندما اكتشفت أن الراديو يبث أغانى وبرامج عبر محطات مختلفة ومتنوعة.. فهنا فى إذاعة الشرق الأوسط يغنى وهناك فى إذاعة صوت العرب تشدو فيروز.. وفى البرنامج العام الست أم كلثوم وعبد الوهاب.
تنطلق برامج أخرى مثل "صوت المعركة" للإعلامى الراحل حمدى الكنيسى و"التعليق على مباريات كرة القدم" البرنامج الرياضى الأشهر مساء كل جمعة للإعلامى الكبير فهمى عمر الذى كان ينتظره ملايين المصريين المتشوقين لمعرفة نتائج المباريات غير المذاعة فى التليفزيون بلغة أدبية بديعة وصوت إذاعى هادئ وجاذب.
استمعت إلى كل هؤلاء فى الراديو وتمنيت أن أراهم فى التليفزيون.. حتى تحقق ذلك مع إذاعة حفل شم النسيم للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ فى ربيع عامى 75 و76، بعدها جاءت المبهرة فيروز التى هزنى صوتها المميز وبغنائها المختلف ولهجتها المتفردة البديعة. كنت أبحث عنها فى محطات الراديو هى وحليم. ورغم عدم معرفتى ببعض الكلمات اللبنانية، إلا أن صوت فيروز وموسيقى الرحبانى كان لهما سحر خاص يشدك إلى الاستماع. لفت انتباه أبى هذا الاهتمام حتى جاء اليوم الموعود لرؤية المحبوبة فيروز على شاشة التليفزيون عندما تقرر إذاعة حفلتها الأشهر فى مصر بحديقة الأندلس والتى أقيمت فى شهر أكتوبر عام 76 بعدها بايام قليلة فى التليفزيون بناء على رغبة المشاهدين وعشاق وصوت فيروز.
كانت واحدة من اللحظات السعيدة فى حياتى أن أشاهد فيروز واستمع إليها مع باقى أعضاء الفرقة.. انتبهت لصوت أبى وهو يداعبنى "بتحب فيها إيه .. دى عصاية بتغنى". لم أفهم المعنى ومغزى ما يقوله.. لم يكن يثيرنى فى هذا الجسد النحيل الرقيق سوى صوتها الملائكى الممزوج بالخجل وبالشجن والحزن النبيل الذى يشبه وجه القمر ورقة الفراشات ورائحة قهوة الصباح وانسياب وعذوبة مياه النيل ورقتها ساعة العصارى.
حفلة "حديقة الأندلس" على نيل القاهرة كانت واحدة من أجمل حفلاتها على الإطلاق.. شاهدت فيروز بعد ذلك بسنوات طويلة فى حفلة لها بدبي، أتذكر تلك الأيام التى جرت وقائعها فى منتصف السبعينات بمناسبة العيد الـ90 لميلاد جارة القمر فيروز ( ولدت فى 21 نوفمبر 1934).
هنا أطرح السؤال.. لماذا تبقى حفلة حديقة الأندلس هى الأشهر والأجمل والأروع بفيروز فى مصر بعد كل هذه السنوات بتفاصيله وبالظروف التى أحاطت به وبالاهتمام غير المسبوق من كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية فى مصر؟
فى العشر الأواخر من شهر أكتوبر عام 76 وقبل الحفل بأيام قليلة جاءت ومعها منصور رحباني، شقيق زوجها، الضلع الثانى فى فرقة "الأخوين رحباني"، ومعهما متعهد الحفلات السورى يوسف الحاج، لبحث إمكانية تقديم حفل كبير فى القاهرة.
تعاقد "الحاج" مع المخرج السيد راضى على تأجير مسرح حديقة الأندلس المكشوف بالجزيرة.. كان راضى والفنانة منى جبر قد كونا فرقة "الكوميدى شو" التى كانت تدير مسرح حديقة الأندلس وتقدم عليه عروضها.. الحديقة التى كانت موطنا للجمال والأناقة وأحد أهم معالم القاهرة الساحرة ومكانا محببا وأثيرا لتصوير كثير من الأفلام وإقامة الحفلات الشهيرة.
عاينت فيروز ومنصور المسرح، الذى كان يقدم عليه فى ذلك الوقت مسرحية بعنوان "الدنيا مزيكا" من بطولة منى جبر وصلاح السعدنى ومحمد نجم ومحمد أحمد المصرى (أبو لمعة). اشترطت فيروز أن يغطى سقف المسرح بخيمة، كما رأى منصور أن خشبة المسرح يجب أن تتسع ويزداد عمقها لتستطيع استيعاب أفراد الفرقة الشعبية اللبنانية من كورال وراقصين.. واتفق الجميع مبدئيا على أن تكون الحفلات فى الأسبوع الأول من أكتوبر.
فى تلك الأيام كانت مصر تحتفل بانتصارات حرب أكتوبر المجيدة الذى لم يكن قد مضى عليها سوى عامان فقط لكن الأوضاع فى لبنان غير مستقرة بعد اشتعال الحرب الأهلية. الأوضاع السياسية فى القاهرة وبيروت صاخبة ومشحونة. مصر وهى تحتفل بأكتوبر تتهيأ لانعقاد مؤتمر القمة العربية الثامن فى مقر الجامعة العربية بالقاهرة يوم 18 أكتوبر لبحث الوضع الدامى فى لبنان بسبب الحرب الأهلية اللعينة.
داخليا.. القاهرة تستعد لإجراء الاستفتاء الرئاسى بعد انتهاء مدة الحكم الرئاسية الأولى للرئيس السادات. الدراسة تتوقف عقب شهر من بدايتها بعد الاستفتاء بسبب انتخابات مجلس الشعب، وعلى أغلفة الصحف ظهر السادات يدلى بصوته وبجواره زوجته السيدة جيهان السادات، والعنوان ضخم أسفل الصورة "أنظف انتخابات فى تاريخ مصر".
فى 21 أكتوبر 1976 صدر قرار بوقف إطلاق النار فى بيروت أشرف عليه الرئيس اللبنانى إلياس سركيس، بعد قتال استمر 19 شهرا.. بعدها بثلاثة أيام وفى يوم الأحد 24 أكتوبر جاءت فيروز إلى القاهرة ومعها الأخوان رحبانى والفرقة الشعبية اللبنانية إلى القاهرة، أحضرت معها أجهزة الصوت والميكروفونات وأجرت بروفات حتى موعد الحفل الأول يوم الاربعاء 27 أكتوبر.
قبل الحفل اعتذرت فيروز عن الظهور فى البرنامج التليفزيونى "النادى الدولى"، الذى كان يقدمه اللامع القدير الراحل سمير صبرى، لكن تذهب إذاعة "الشرق الأوسط" إلى حديقة الأندلس لتحضر جزءا من بروفات قصيدة الافتتاح "مصر عادت شمسك الذهب".. فيروز تردد "صِرتُ نَجْم الحُب" ومنصور على البيانو وعاصى يتابع اللحن ويضيف.. يخبرنا المذيع أن الساعة الرابعة صباحًا وما زالت الفرقة بأكملها ساهرة للتمرين.. فيروز لا تترك الأوراق من يدها، يستدعونها للبروفات بين السؤال والتالي.
المخرج حسين كمال حاضر فى البروفات.. يراقب حركة الفرقة والراقصين ليعرف أفضل زوايا للتصوير.. ويحفظ حركات وسكنات فيروز فلا تفلت منه آهة واحدة مع الأغاني.. خلال تلك الأثناء كانت فرقة "الكوميدى شو" صاحبة الفضل الأول فى التعاقد مع فيروز تروج للحفل المرتقب بحملة إعلانية كبيرة فى الصحف، تحت عنوان "فرقة الكوميدى شو تقدم لأول مرة فى مصر.. فيروز والأخوين رحبانى مع الفرقة الشعبية اللبنانية".. كما وضع أعلى مدخل الحديقة عند نهاية كوبرى قصر النيل إعلانا كبيرا، مع صورة لفيروز بفستان أصفر هفهاف، وأعلنت عن أماكن بيع التذاكر فى مسرح حديقة الأندلس، وكشك فندق شيراتون، وكشك أمريكيين سليمان باشا.
مساء الثلاثاء 26 أكتوبر، قام الأديب يوسف السباعى، الرئيس الفخرى لجمعية كتاب ونقاد السينما رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام ورئيس تحريرها، بتكريم فيروز باسم جمعية كتاب ونقاد السينما فى قاعة البانوراما بصحيفة الأهرام، حيث سلمها جائزة التقدير الذهبية وتمثال للإلهة المصرية إيزيس.
وتكتب الصحافة عن نفاد التذاكر والأرباح التاريخية التى حققها "الكوميدى شو" من وراء الحفلات، وانتقدت ارتفاع أسعار التذاكر التى بدأت من 5 جنيهات إلى 30 جنيهًا، ثم وصلت إلى 50 للحفل الرابع، وهى أسعار مرتفعة جدًا فى ذلك الوقت.. وفى الأهرام رسم صلاح جاهين، صبيحة الحفل الأول، كاريكاتيرا معبرا عن صعوبة الحصول على تذكرة لحفل فيروز.. ولكن منصور رحبانى يعلق بأن أسعار التذاكر مناسبة إذا ما قيست بتكاليف العرض وأجور الفرقة.. وكان يمكن أن نخفض ثمن التذاكر لو أننا حضرنا بدعوة من وزارة الثقافة المصرية أو هيئة المسرح، وكنا نتمنى ذلك.. لكن الدعوة جاءت إلينا من متعهد حفلات، وليس من هيئة رسمية لا يهمها الربح.
يوم الحفل الأول حضرت فيروز مع عاصى ومنصور وشقيقتها هدى حداد، وعمدة الأغنية اللبنانية نصرى شمس الدين وألقى منصور رحبانى أمام الحضور القصيدة المهداة إلى مصر التى ستفتتح بها فيروز حفلاتها.
تشرق فيروز على المسرح كانت بكامل مشمشها ونضجها الفنى – كان عمرها فى ذلك الوقت 42 عاما- تدخل بجسدها النحيل وملامحها الدقيقة.. انحناءة خفيفة تحيى بها الجمهور، ثم تقف خاشعة كأنها فى صلاة تشدو بقصيدة "مصر عادت شمسك الذهب" فيشتعل المسرح بالتصفيق والهتاف.. من بعدها تأتى هدى حداد ثم يطل المبدع الرائع نصرى شمس الدين، البطل الدائم أمام فيروز.. يدخل بلباس الناطور الفلكلورى أى حارس الحقل الذى يمضى وقته بالمواويل العذبة.. يتجمع عليه الشباب والصبايا ويطلبون منه أن يغني: يا ناطور يا ناطور.. نسمة زنبق عم بتدور، وشى دبكة.. وقلتلها.
ينتهى الفصل الأول من الحفل بمقطع من مسرحية جبال الصوان.. ويبدأ الفصل الثانى على مشهد الموشحات الفخم بالأزياء الأندلسية.. أرجعى يا ألف ليلة، غيمة العطرِ.
السندريلا الجميلة سعاد حسنى بين الحضور تكاد تخلع حذاءها لترقص مع اللحن الرائق بصوت الشادية التى جارها القمر وليست هى جارته: "يا ليل الصبُّ متى غده.. أقيام الساعة موعده؟ وأغنية: "خايف أقول اللى فى قلبي"، إلى الطابق الحادى عشر من فندق شيراتون، حيث تنزل فيروز والفرقة، صعد المذيع المعروف طارق حبيب ليجرى حوارا فى اليوم الأخير للحفلات.
يوم الحفلة الرابعة.. فيروز مرهقة لم تستيقظ بعد.. يسأل طارق حبيب فيروز عن الفرق بين مجيئها للقاهرة هذه المرة وبين المرات السابقة، بصوتها الهادئ الرقراق كالندى تجيب: "كانت المرات السابقة التى زرت فيها مصر زيارات عادية.. ولكن هذه المرة جئت لأغنى لمصر، ولجمهور مصر.. وأنا دائمًا عندى قلق وخوف عندما أواجه جمهورًا لأول مرة.. قد يعرفنى القلة القليلة من الجمهور.. والأغانى التى تسمعونها هنا قديمة.. كما أن الأعمال التى تعرض لى فى تليفزيون مصر قديمة أيضا لا ترضيني".
انتهت الحفلات الأربع كالحلم.. ودعت فيروز الجمهور بأغنية "زورونى كل سنة مرة" لسيد درويش، وفى اليوم التالى نشر صلاح جاهين كاريكاتيره الشهير وهو يهتف: "أهو انتى اللى لازم تزورينا كل سنة مرتين تلاتة".
رحلت فيروز والأخوان رحبانى والفرقة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر 1976 إلى بيروت عن طريق دمشق.. يوم الخميس 4 نوفمبر عرض التليفزيون المصرى شريط الحفل الأخير، بعد أن اشترى حقوق إذاعته لمدة ثلاث سنوات من المنتج رمسيس نجيب.. فى الأيام التالية تحدثت الصحافة بدهشة وإعجاب عن طريقة أداء فيروز.. إنها المرة الأولى التى يرى فيها الجمهور المصرى ذلك الالتزام والانضباط، وانهالت الخطابات على ماسبيرو تطالب بإعادة عرض الحفلة مرة ثانية.
غنت فيروز فى حديقة الأندلس ومن معها كما لم تغنى أو يغنوا من قبل أو بعد ذلك .كانت ثالث رحلة لفيروز الى مصر مع الأخوين رحباني.. الأولى فى فبراير 1955 والثانية فى أكتوبر 1966 مجرد زيارات عادية.. ثم الثالثة فى أكتوبر لتغنى لأول مرة فى مصر1976.. من بعد هذه الرحلات أتى الأخوان رحبانى إلى مصر أكثر من مرة بدايةً من 1981.. وأتت فيروز إلى مصر لإحياء حفلها المعروف عند سفح الأهرام يوليو 1989. لكن يبقى حفل الأندلس له جماله وإبهاره الخاص جدا.. فالمكان كان له بريقه أيضا وهو حديقة الأندلس التاريخية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة