عاد الموسيقار محمود الشريف من الإذاعة إلى بيته بعد تسجيله لنشيد وطنى للمطرب كارم محمود تفاعلا مع أحداث أيام العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وذهب إلى النوم لشعوره بتعب، وفى تلك اللحظة أطلقت صفارات الإنذار، فأطفأ النور وجلس بجوار النافذة فى شقته المرتفعة بمنيل الروضة بالقاهرة، وأخذ يطل على جبل المقطم، فرأى بعينيه الصراع العنيف بين المدافع المضادة والطائرات المغيرة، فألهبت طلقات المدافع حواسه جميعا، ثم لم يشعر إلا بيديه وهى تمسك العود، ويردد عبارة «الله أكبر»، التى كان يرددها المسلمون فى غزواتهم المشهورة، حسبما تذكر مجلة «آخر ساعة» فى تحقيقها «أناشيد الحرب» المنشور فى عدد 1155، الصادر يوم 12 ديسمبر 1956.
كان عدوان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل يتواصل ضد مصر منذ 29 أكتوبر 1956، بسبب قرار تأميم شركة قناة السويس الذى فاجأ به جمال عبدالناصر العالم فى خطابه بالإسكندرية يوم 26 يوليو 1956، وكانت المقاومة تسجل ملحمتها الخالدة فى بورسعيد ضد العدوان، وكان الفن أحد هذه الملاحم، وتجلى ذلك فى عشرات الألحان الوطنية التى سجلتها الإذاعة، وتذكر «آخر ساعة»: «استطاع الموسيقيون أن يملأوا جميع أوقات الإذاعة التى كانت تخصصها للأغانى والبرامج الموسيقية والتمثيليات».
كان من بين عشرات الألحان التى سجلتها الإذاعة ثلاثة أناشيد ناجحة حفظها الناس عن ظهر قلب وهى «والله زمان يا سلاحى» لسيدة الغناء العربى أم كلثوم، كلمات صلاح جاهين، وتلحين كمال الطويل، وأصبح بعد ذلك السلام الوطنى لمصر حتى تم تغييره إلى «بلادى بلادى» بعد معاهدة «كامب ديفيد» عام 1979، أما النشيد الثانى فهو «الله أكبر»، والثالث هو «ح نحارب ح نحارب» الذى وضعه الموسيقار سيد مكاوى.
كان لكل نشيد من هذه الأناشيد الثلاثة قصة تؤكد عمق تفاعل صناعه مع المعركة، وعن نشيد «الله أكبر»، يكشف الموسيقار محمود الشريف، أنه بعد أن أمسك العود ولسانه يردد «الله أكبر»، ارتجل مطلعا للنشيد يقول: «الله أكبر على العدو المعتدى/ الله أكبر يا بلادى كبرى/ قولوا معى.. قولوا معى» ثم توقف، لكن موسيقى النشيد كانت تسكنه، ويضيف أنه عاد قراءة هذا المطلع إلى عبدالله شمس الدين الموظف بالسكك الحديدية، وطلب منه كتابة كلمات النشيد، فكتب «الله أكبر فوق كيد المعتدى/ والله للمظلوم خير مؤيد/ أنا باليقين وبالسلاح سأفتدى/ بلدى ونور الحق يسطع فى يدى/ قولوا معى.. قولوا معى/ الله فوق المعتدى/ يا هذه الدنيا أطلى واسمعى/ جيش الأعادى جاء يبغى مصرعى/ بالحق سوف أرده وبمدفعى/ فإذا فنيت فسوف أفنية معى/ قولوا معى.. قولوا معى/ الله أكبر.. الله أكبر».
يكشف «الشريف»، أنه فى اليوم التالى أخذ اللحن وذهب إلى محمد حسن الشجاعى مسؤول الموسيقى بالإذاعة، للبحث عن المطرب الذى يردده، واستقر رأيهما على أن المطرب كارم محمود هو أفضل من يغنيه، وبحث رجال الإذاعة عنه لكنهم لم يعثروا على أى أثر له، ثم قيل إنه سافر مع زوجته وأولاده إلى بلده دمنهور، ولم يشأ محمود الشريف أن ينتظر عودته، فاقترح على الشجاعى أن يتم تسجيل اللحن بأصوات المجموعة، ثم تولى عطية شرارة توزيع موسيقى النشيد.
كان لتسجيل المجموعة للنشيد مذاق خاص لدى محمود الشريف اكتشف قيمته بعد أن انتهى منه، ويذكر فى تحقيق «آخر ساعة»: «تأكدت تماما أن الأناشيد يجب أن تؤديها أصوات الشعب، وهذه المعركة هى معركة الشعب، ويجب أن تتجه فيه الأغانى والأناشيد إلى الجماعة»، ويؤكد: «أذيع نشيد الله أكبر فى الساعة 12 ظهرا، وفى المساء تقرر وقف إطلاق النار».
والمعروف أن الدول الثلاث المعتدية قررت وقف إطلاق النار فى 7 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956، عقب الإنذار السوفيتى الشهير الذى وجهه الرئيس السوفيتى «بولجانين» إلى الدول المعتدية بضرورة وقف العدوان، وجاء فيه: «أن الحرب فى مصر يمكن أن تتطور إلى حرب عالمية ثالثة، وهناك اليوم دول لا تحتاج إلى أن ترسل الأساطيل أو القوات الجوية لتدمر الشواطئ البريطانية أو الفرنسية، وبدلا من ذلك فإنها تستطيع أن تسحقهم باستعمال وسائل أخرى كالصواريخ مثلا، وأن حكومة الاتحاد السوفيتى تتخذ الآن خطوات تكفل وضع نهاية للحرب وردع المعتدى وإعادة السلام إلى منطقة الشرق الأوسط، ونحن نأمل أن تظهروا الحكمة وتتخلصوا من هذا الكلام بالنتائج المناسبة قبل أن يفوت الأوان».
يذكر «الشريف» أنه سقط من الإعياء بعد أن انتهى من تسجيل «الله أكبر»، ويضيف: «انفعلت بهذه المعركة وعشت فيها بقلبى وعقلى وجوارحى، لقد سقط فيها بعض أهلى وبعض أصدقائى، وكان لا بد من قيام هذه المعركة ليعرف العالم حقيقة هذا الشعب الخالدة، وليرى ويسمع أننا شعب قوى لم يتزعزع أمام القوى الجبارة التى حاصرته من البحر والجو، أننا نعيش الآن فى مجد لم يحلم به أجدادنا الفراعنة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة