بمناسبة الانتخابات الأمريكية، وما تمخضت عنه من فوز دونالد ترامب للمرة الثانية، وخسارة كامالا هاريس، نجد أنفسنا بحاجة إلى استعادة البديهيات فى عالم السياسة، لأن عددا من خبراء ونشطاء وعمقاء السياسة ممن يتصدرون المشاهد كقادة وزعماء، يقدمون تنظيرات ومواقف لا تليق بطفل فى الحضانة، ويتخلون عن أبسط قواعد العقل والمنطق، ويريدون من الجمهور أن يتبعهم إلى دهاليز الماورائيات العميقة.
ونكتشف أن من نراه «كحيت» ليس شخصا ولكنه طريقة تفكير، فى التحاليل السطحى، والعمق التحليلى، فقد انغمس أستاذ علوم سياسية افتراضى بجامعات أمريكا وأوروبا وأسيا وأوراسيا، على مدى شهور يتوقع فوز كامالا هاريس فى الانتخابات ويروج استطلاعات رأى مضروبة، وصل الأمر إلى أنه أقسم برأس «الدكتوراه» أن ترامب سوف يخسر لو مات كل منافسيه أو ترشح ضد خيال مآتة، لكن توقعاته راحت فى الفراغ، وهذا ليس هو المهم، فالدكتور «هبدون» يقدم نفسه على أنه صاحب بصمة فى تحليل التحاليل، ويمارس «الهبد الأكاديمى» فى تحليل الحرب على غزة، ولبنان من منظور وما بعد الحداثة، ويقدم نظريات فى الهراء، ويتجاهل الإبادة، ويسعى للحصول على «لايكات»، على حساب القتلى والضحايا، ثم إنه «يهبد» فى كل الشؤون ويمارس الكيد السياسى، وبالتالى عليه أن يتوقف عن تقديم نفسه هو وأمثاله من زاوية المعرفة، إلى زاوية التصوير.
نوع ثان من النشطاء والزعماء «الافتراضيين»، ممن اعتادوا ممارسة المزايدة على بعضهم وعلى الجميع فى حرب غزة، ما زالوا يعيشون فى «بلهنية» من الواقع الافتراضى، وبعضهم يبدى حزنا لفوز جمهورى، وخسارة ديمقراطى، يدعو لهاريس، ويتجاهل الإبادة مع بايدن، ويحذر من ترامب، ويتناسى أن الانتخابات كانت تدور فى أمريكا، وأن الخيار كان ويظل للشعب الأمريكى، وأن المعروف والسائد على مدى عقود أن الولايات المتحدة تحكمها مؤسسات وتوازنات مصالح وتكتلات السلاح والمال والبترول والإعلام والبنتاجون والاستخبارات، فى برجماتية ومصالح واضحة، وأن دعم إسرائيل من الثوابت المتفق عليها بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو أمر يعرفه المواطن العادى وليس «الزعيم الاعتبارى الافتراضى»، وقد جرب من الجمهوريين ريجان وبوش الأب والابن ومن الديمقراطيين كلينتون وأوباما وترامب، وغيره يمثلون خيارا للأمريكيين، وليس لغيرهم، أولا مصالح إسرائيل دائما مضمونة، ثانيا مصالح أمريكا وأجهزتها ومؤسساتها.
ربما لهذا يبدو مفهوما أن يمثل فوز دونالد ترامب، وخسارة كامالا ومن قبلها هيلارى، صدمة ومفاجأة لبعض الأمريكيين، لكن أن يكون الأمر صادما لغيرهم، ثم إن الرهان على أمريكا ليس من حسن الفطن، لكن عندما نرى شخصا يقدم نفسه على أنه زعيم سياسى معارض يرى فى فوز ترامب وخسارة كامالا أو هيلارى سقوطا أخلاقيا، فنحن أمام تفكير مضحك، من الصعب تصديق من يطرح هذا الفكر فى معارضته وادعاءاته ومزايداته.
ثم إن الصدمة تأتى لأن النتائج جاءت على عكس استطلاعات وسيناريوهات ومواقف الإعلام الأمريكى، لدرجة أن بعض الجمهوريين انحازوا للمنافس، وجاءت النتائج على عكس الاستطلاعات وتوقعات «خبراء العلوم السياسية الخزعبلية».
المفارقة أن الصدمة تتكرر بحذافيرها، مع كامالا مثلما جرى مع هيلارى، حيث تدعم غالبية الإعلام والنخب والأجهزة مرشحة وتعتبر منافسها لا يستحق ولا يمتلك المؤهلات، ويمثل تهديدا للديمقراطية، ويتقدم المرشح، وعليه قضايا واتهامات تم سوقها على مدى سنوات، ليفوز ترامب، للمرة الثانية، فهل كان الاختيار من قبل الناخبين خاطئا فى المرتين؟، هذا ما يحاول خبراء «الولا حاجة تسويقه»، فإذا كانوا فشلوا فى قراءة واقع ظاهر، وراهنوا على أخلاق فى سياسة برجماتية، فكيف يمكن الاطمئنان إلى مواقفهم وتحليلاتهم فى قضايانا، وقد اعتادوا المزايدة والسطحية فى قراءة الواقع.
الأهم هو أن الولايات المتحدة دولة كبرى وقوة عظمى، سياساتها تدار من قبل «لوبيات» وتحالفات للسياسية والمال والإعلام، والسلاح، لديها مصالحها وتدخلاتها، وعلاقاتها، مع ترامب أو غيره، ومن يتعامل معها، عليه الرهان أولا على قواه وإمكانياته، وقدراته، من دون شعور بالدونية او التردد، أما الرهان على الأخلاق فى السياسة فهو رهان على الغول والعنقاء وهيلارى وكامالا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة