خلال الأيام القليلة الماضية، احتشدت الصحف والمجلات ومنصات الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي بالأخبار و"التغطيات" و"التعليقات" حول فوز الكاتب الفرنسي، من أصل جزائري، كمال داود بجائزة "جونكور" الأدبية الفرنسية عن روايته (الحوريات) التي تتطرق وقائعها إلى تناول تجربة "الحرب الأهلية" في الجزائر، فيما بين 1992 و2002 ، المعروفة بـ "العشرية السوداء". وبينما اتسم بعض هذه الأخبار والتغطيات بطابع محايد، اقترن كثير منها بآراء تقيّم تجربة هذا الكاتب وكتاباته وتصريحاته، وهو كاتب "إشكالي"، أو كاتب "مثير للجدل" بالتعبير الذي تردد كثيرا في الإشارات إلى كتاباته وتجربته.
الجانب الإشكالي أو المثير للجدل يتصل بأن كمال داود، من ناحية، وقف موقفا إيجابيا في مواجهة التطرف الديني بالجزائر، بعد معايشة حقيقية لبعض تمثيلات هذا التطرف. وقد أوصله هذا الموقف إلى حد مطالبة أحد السلفيين بإعدامه.. ولكنه، من ناحية أخرى، قدم داود نموذجا للارتماء، المبالغ فيه، في أحضان فرنسا.. وفي هذه الوجهة استعاد كثيرون عبارة سابقة له: ""أنا مصاب بمتلازمة أبولينير، أنا فرنسي أكثر من الفرنسيين"، وقد قصد بهذه "المتلازمة" الشاعر والكاتب جيوم أبولينير، وهو من أصل بولندي، هاجر إلى فرنسا وانتمى إليها وتجنّس بجنسيتها، أوائل القرن الماضي.
يتصل هذا بأن كمال داود الذي شهر بكتاباته المنتقدة لبعض الأوضاع في الجزائر، وبتأييده المطلق لفرنسا "على طول الخط"، عاش حياة كان التحوّل من معالمها؛ نشأ في "مستغانم" بالجزائر، وترعرع في بيت جده بإحدى القري وأصبح إماما لمسجد بها في مرحلة دراسته الثانوية، واختلط بالإسلاميين، قبل أن يبتعد تماما عن هذا الاتجاه، ثم اتجه إلى الكتابة بالصحافة، وارتحل من الجزائر إلى فرنسا، وعاش فيها وكتب في صحفها وحصل على جنسيتها، ولم ينتقد سياستها ولم يفصح أبداعن أية إدانة للاستعمار الفرنسي. وقبل حوالي عشرة أعوام، تفرغ للأدب وأصدر أعماله الأدبية التي كان بينها روايته الأولى (ميرسو.. التحقيق المضاد) في عام 2013، وهي تتحاور مع رواية ألبير كامي الشهيرة (الغريب)، ثم أصدر بعض الروايات والقصص، قبل أن ينشر روايته (حوريات) التي فاز بها مؤخرا بـ"جونكور".
بعيدا عن تقييم تجربة كمال داود الأدبية، فإن عبارته "أنا فرنسي أكثر من الفرنسيين"، وتجربته في انعطافها الأخير، تقودان إلى التفكير في "نموذج" مختلف، وربما نقيض": الشاعر والروائي الجزائري مالك حداد، صاحب النصوص الشعرية والروايات الجميلة المكتوبة بنزوع شعري، ومن بينها (ليس في رصيف الأزهار من يجيب) و(سأهبك غزالة) و(الانطباع الأخير) ـ وهذه النصوص والروايات، وغيرها مما كتب، مترجمة إلى العربية.. وقد كتب "حداد" هذه النصوص والروايات بالفرنسية التي تعلمها وأتقنها، إذ كان مفروضا عليه تعلّمها خلال فترة الاستعمار.. لكنه، مع ذلك، ظل مخلصا لانتمائه الجزائري.. وقد أكد، في غير سياق: "أنا جزائري.. أنا لست فرنسيا، ولن أكون!"، و"لم نتعلم من فرنسا إلا يُتمنا!".. كما ظل واعيا بمأساة أنه يكتب بالفرنسية. وقد تمثّل هذا الوعي فيما قاله وكتبه، في أكثر من مناسبة: " “إن اللغة الفرنسية هي منفاي الذي أعيش فيه "، و"الكاتب الجزائري الذي يكتب بلغة المستعمر هو ضحية التاريخ"، و"اللغة العربية أهم معالم هوية المجتمع الجزائري، أما لغة المستعمر فإنها منفى رمزي، وعزلة وجودية".. لم يستطع مالك حداد أن يكتب بالعربية التي تمنى لو كان قد تعلمها وأتقنها، وقد لخص مأساته هذه في عبارة دالة، مثقلة بالأسى والأسف، حول أنه ينادي أمه (العربية) بكلمة فرنسية: "مامو" Maman وليس بكلمات عربية مثل "أمي" أو "يمّه"ّ!
طبعا السياق مختلف بين زمن كل منهما، وقضية "الحرية" مهمة في النظر إلى تجربة كل منهما.. لكن، من زاوية ما، هما مثالان مختلفان: ظل مالك حداد جزائريا، رغم كتابته بالفرنسية.. ولم يشعر أبدا أنه "فرنسي".. بينما أكّد كمال داود أنه "فرنسي أكثر من الفرنسيين"!