أحيانًا لا يتفهم الآخرون السلوكيات التي تنطوي على رُقيّ شديد، وأخلاقيات عُليا، فيحكمون أحكامًا مُتسرعة وخاطئة على مَنْ يأتي بتلك التصرفات التي قد تحمل في مُجملها معانٍ راقية تستهدف احترام الآخرين والحفاظ على مشاعرهم.
ففي أحد الأيام، أراد رجل عجوز أن يدخل منزلاً كان مدعوًا فيه، فأخذ عصاه وأمسك بها بالمقلوب، مما تسبب في أن توازنه في السير أصبح غير سليم، فتندر بذلك بعض الحضور وقالوا عليه أنه كبر وفقد عقله، بحيث لا يستطيع التمييز بين رأس العصا ونهايتها، فرد عليهم العجوز بهدوء قائلًا: "أمسكت عصاي مقلوبة لكيلا تتسخ سجادة منزلكم من تراب الطريق العالق في نهاية عصاي".
فللأسف، كثيرًا من هذه السلوكيات الراقية تكون صعبة الفهم والإدراك على البعض، ولكن يا تُرى ما السبب؟! هل ربما لندرتها، أصبح من الصعب توقعها؟ فإذا كان هذا هو السبب فلماذا لا نُقرر أن نجعل الرقي هدفًا عامًا في حياتنا، وسلوكًا متبعًا بيننا، فلابد أن نبحث عن وسائل الراحة لغيرنا، فهذا هو الأمر المُفترض، ولكن للأسف الشديد، أصبحت السلوكيات الراقية صعبة الإدراك، بسبب ندرتها، لدرجة أنها قد تحولت إلى وسيلة للتندر والسخرية، بل وفي بعض الأحيان يعدها البعض مجرد أداء تمثيلي مُفتعل لا يمت للحقيقة والواقع بصلة.
فهل من المنطق أن تكون الحدة والعشوائية هي الأساس الذي نسير عليه في حياتنا اليومية؟ أظن أن هذا أمرًا مُجافيًا لأخلاقياتنا وديننا ولثقافة مُجتمعنا، فنحن بلد الحضارة، والحضارة هي أساس التحضر والتقدم، وهذان العنصران لا يتحققان إلا بالرقي في التعامل، وفي اختيار الألفاظ والمصطلحات، والحرص على إتيان السلوكيات التي تليق بشعب له تاريخ عريق، وعلينا ألا ننسى أن التعامل هو أساس كل شيء، فهو المصداقية التي تخلق حالة من الارتياح في المعاملات ولولاه ما كانت الشعوب تبادلت الثقافات، ولا وجد شيء اسمه الصداقة، لذا علينا أن نُحافظ على عراقتنا ومصداقيتنا بأن تكون تعاملاتنا جميعها مبنية على الرقي والتحضر والإيثار، ولا تتحول تلك المعاني إلى مجرد كلمات ليس لها وجود على أرض الواقع، بل وإذا تحققت تصبح وسيلة للسخرية بسبب ندرة حدوثها.