حقبة جديدة تشهدها الساحة السورية، ستكون امتدادا لحالة من الترهل التي شهدتها خلال أكثر من عقد ونصف من الزمان، وتحديدا منذ اندلاع ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي كان مفصليا في تاريخ المنطقة بأسرها، وبالأخص سوريا، والتي عانت ويلات الدمار والخراب والحرب الأهلية، ناهيك عن سطوة جماعات الإرهاب، والتي استحوذت على رقعة من الأرض، لتؤسس فيها دولتها، في تحد سافر لسيادة الدولة وتهديد صريح للاستقرار الإقليمي، في اللحظة التي تمثل فيها الخطوة استفزازا للمجتمع الدولي، والذي سعى إلى دحض الإرهاب بتشكيل التحالفات، بهدف الحرب على الإرهاب، التي استمرت لسنوات طويلة، دون تحقيق إنجاز كبير، حتى تدخلت روسيا، والتي نجحت بالفعل في تحقيق انتصارات كبيرة على الأرض، أعادت من خلالها السيادة السورية على أراضيها.
والملفت في هذا الإطار، أن تجربة سوريا في الحرب على الإرهاب، لم تكن فردية، فالشرق الأوسط بأسره كان يخوض الحروب ضد جماعات الظلام، إلا أن التجربة التي خاضتها العراق كانت الأقرب للنموذج السوري، في ضوء معطيات عدة، أبرزها أن دولة "داعش" الإرهابية، تشكلت على قطعة من الأرض، جزء منها في سوريا والأخرى بالعراق، بالإضافة إلى أن الظروف الداخلية في بغداد لم تكن أفضل حالا من دمشق، بل ربما كانت أكثر سوءً، جراء العديد من الأزمات التي ضربت البلاد قبل ذلك بسنوات، تراوحت بين اقتصاد محاصر بالعقوبات، مرورا بالغزو، وحتى صراع داخلي أكل الأخضر واليابس على مدار سنوات.
المقاربة بين النموذجين السوري والعراقي، فيما يتعلق بأحداث العقد الماضي، تبدو في حاجة ملحة للنظرة المتمعنة، عند مراجعة اللحظة الراهنة في سوريا، خاصة وأنها كانت كاشفة إلى حد كبير لحقيقة مفادها أن التداعيات المترتبة على الربيع العربي مازالت قائمة، خاصة حال عدم قدرة الأنظمة القائمة على التعاطي معها بإيجابية، على مختلف الأصعدة، عبر تحقيق إصلاح حقيقي على الأرض، يتجاوز الخطاب السياسي، نحو رؤية مجتمعية واقتصادية وسياسية من شأنها تحقيق الاستدامة.
معضلة النظام السوري السابق، في حقيقة الأمر، هي أنه تعامل مع أحداث "الربيع العربي" بمنهج "الخروج الآمن" من الأزمة، دون اتخاذ خطوات فعلية لتغيير الصورة النمطية للحياة في البلاد، يمكن من خلالها تجنب تكرار ما حدث في المستقبل، من خلال إرساء "بنية أساسية" للاستقرار، سواء في الداخل من خلال إجراء حوار وطني جاد يشمل كل أطياف المجتمع، مع إطلاق معركة فكرية يمكنها دحض الأفكار التي تتبناها الجماعات المتطرفة، جنبا إلى جنب مع البدء في عملية إعادة إعمار، أو حتى على مستوى سياستها الخارجية، عبر تحصين دمشق بشراكات من شأنها استعادة الدور، فظلت دمشق تحتفظ بتحالفاتها، متكئة على الحماية التي قدمتها لها روسيا عسكريا، من جانب، بينما توسعت في التحالف السياسي مع إيران من جانب آخر، في حين أنها لم تتجه نحو اتخاذ أي نهج جديد لتعزيز الشراكات الإقليمية، واستغلال الزخم الناجم عن العديد من الفرص التي سنحت لها في السنوات الماضية، على غرار العودة إلى عضوية جامعة الدول العربية بعد أكثر من عقد كامل من الغياب، وانفتاح العديد من الدول العربية علي النظام السوري، وهو الأمر الذي ربما أدركته العراق، والتي لم تتخلى عن تحالفاتها، وإنما تحركت نحو تنويعها، عبر شراكات إقليمية ساهمت بصورة كبيرة في استعادة قدر كبير من مكانة بلاد الرافدين في محيطها الجغرافي.
سوريا، خلال ما يمكننا تسميته بـ"سنوات ما بعد داعش"، لم تتمكن من مواكبة حالة إقليمية، شهدت حالة تنموية شاملة، قادتها دول إصلاحية، على رأسها مصر، بالإضافة إلى حزمة من المصالحات والتوافقات بين قوى كانت في الماضي القريب متخاصمة إلى حد الصراع، فآثر نظامها الانكفاء على نفس النهج، دون حراك حقيقي على الأرض، سواء في الداخل عبر سياسات من شأنها تحقيق الاندماج المجتمعي بين كافة الأطياف، مع العمل على تحقيق شراكات اقتصادية تساهم في إعادة البناء، والانتقال بالبلاد إلى مراحل جديدة، أو حتى في إطار السياسات الخارجية، والتي لم تراوح مكانها، منذ عقود طويلة من الزمن.
والحقيقة التي لا جدال فيها، أن المشهد السوري يمثل نموذجا لـ"الجمود" السياسي في مواجهة حالة من الحراك الدولي والإقليمي، في ظل العجز عن مواكبة التغييرات المتسارعة، عبر خطوات جدية من شأنها تحقيق الإصلاح، بينما يعكس على الجانب الآخر، أهمية الخطوات التي اتخذتها قوى إقليمية أخرى، في أعقاب "الربيع العربي"، والتي حملت أبعادا سياسية وتنموية واجتماعية، من شأنها تعزيز الجبهة الداخلية، في مواجهة ما يطرأ عليها من تحديات، وهو ما يبدو قس العديد من المشاهد الأخرى التي هيمنت على المعسكر الإصلاحي في الشرق الأوسط، وفي القلب منه مصر.
وهنا يمكننا القول بأن المعضلة الرئيسية التي واجهت سوريا، وتعد السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأمور مؤخرا، هي حالة الجمود التي أصابت نظامها، والتي حرمته من إبداء أي قدر من المرونة في التعامل مع المستجدات الدولية أو الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بإدارة مرحلة "ما بعد الربيع العربي"، سواء في الداخل أو الخارج، والتي كانت جوهرية للحفاظ على استقرار البلاد.