حين يحل الشتاء على الإسكندرية، تتنفس المدينة عبير الحنين وتفرد شواطئها كأوراق حكاية قديمة، كأنما تقول: "هنا كان اللقاء الأول بين البحر والسماء".. تلك المدينة التي تغني بها التاريخ وتراقصت على أمواجها الأحلام، تتحول في برد الشتاء إلى لوحة لا ترسمها إلا ريشة العشق.
في "بحري"، حيث الروح الأصيلة تنبض في كل زاوية، تأخذك المقاعد الخشبية على كورنيشها إلى رحلة بين الماضي والحاضر.. هناك، تحتسي القهوة بنكهة المطر.. تصاحبك أغاني فيروز التي تمزج بين دفء المشاعر وبرودة الطقس.. تجلس صامتًا، لكن داخلك يعج بحكايات الأمواج وأصوات المراكب العائدة من رحلات الصيد، وكأن المدينة تهمس لك بأسرارها القديمة.
على الكورنيش، تتناثر الذكريات مع نسمات البحر، فتغمر وجوه المارة بابتسامات مجهولة السبب.. الهواء المالح، الممزوج برذاذ خفيف، كأنما يعيدك إلى لحظات طفولية كنت تراقب فيها الموج يتلاعب بالصخور، بينما والدك يشرح لك كيف يُنسج الحب بين البحر والمدينة.
أما المقاهي العتيقة، فهي معابد صغيرة تعبد فيها الإسكندرية الحب والدفء، من مقهى "إيليت" إلى زوايا "بترو" .. تتناغم الأصوات بين طرق فناجين القهوة وأحاديث الأصدقاء.. هنا تلتقي الأجيال، وتمتزج أحاديث العشاق بصخب مشجعي الكرة، كأن المقهى يحمل على عاتقه روح المدينة كلها.
ركوب الترام في الإسكندرية ليس مجرد وسيلة نقل، بل رحلة في الزمن، صوت الترام، الذي يشبه موسيقى قديمة، يأخذك من محطة لأخرى، بينما ترسم النوافذ صورًا متحركة لمدينة تتزين بكل فصل بلونه الخاص.
في الشتاء، تبدو الإسكندرية كأنها عروس ترتدي وشاحًا رماديًا رقيقًا، يتخلله شال من البهجة الدافئة.
وفي لحظة، بين كوب قهوة دافئ وأغنية فيروزية تُسمع على استحياء، تجد نفسك تتأمل الموج وكأنك تسائله: "ما سر هذا الجمال؟"، فيرد البحر بصمت، لكنك تشعر بالإجابة في نسمات المحبة التي تحملها الرياح من قلب الإسكندرية إلى قلبك.
الإسكندرية في الشتاء ليست مجرد مدينة، إنها قصيدة تُقرأ على أنغام الأمواج، ورواية تُروى بين دفاتر الذكريات، هناك، حيث يتعانق البرد مع الدفء، تكتشف أن جمال الحياة يكمن في التفاصيل الصغيرة: في رائحة القهوة، وأغنية عابرة، ونظرة حالمة نحو البحر الذي لا يشيخ.