في لحظات التحولات الكبرى، يصبح استدعاء التاريخ ضرورة أساسية لتثبيت الاتجاه الوطني وتعزيز استقرار الدول.. تمر منطقتنا العربية اليوم بأزمات معقدة على الأصعدة السياسية والأمنية، وتظل مصر، بفضل موقعها الجغرافي وثقلها التاريخي، ركناً أساسياً في معادلة الاستقرار الإقليمي والعالمي.
قراءة التاريخ ليست مجرد استذكار للماضي، بل هي وقفة للتأمل واستخلاص العبر التي توجه الأجيال نحو مواجهة التحديات الراهنة بثبات ورؤية واضحة.. شهدت السنوات الأخيرة محاولات للنيل من بعض الرموز التاريخية التي شكلت محطات مفصلية في تاريخ مصر.. وظهرت أصوات تسعى لتشويه سمعة قادة مثل طومان باي، ومحمد علي باشا، وسلطان المماليك قطز، وحتى الزعيم جمال عبد الناصر.
تلك المحاولات ليست بريئة، بل تأتي في سياق حملات تهدف إلى ضرب الهوية الوطنية وزرع الشك في قدرة الدولة على الصمود في وجه الأزمات.. لكن الوعي العميق بتاريخ مصر يبقى حاجزاً أمام هذه المحاولات، فالتاريخ مليء بالشواهد التي تثبت قدرة المصريين على تجاوز المصاعب وحماية أرضهم.
لقد كانت مصر، عبر عصورها المختلفة، عصية على الغزاة. قادة مثل طومان باي قدموا مثالاً في الشجاعة، رغم أصولهم غير المصرية، إذ وقفوا ضد الاحتلال العثماني ورفضوا الخضوع. في عصر آخر، تمكن كامس، قائد مصر الشاب، من التصدي للهكسوس، واضعاً حجر الأساس لتحرير البلاد على يد أحمس الأول. أما محمد علي باشا، فرغم كونه غير مصري الأصل، استطاع بناء دولة حديثة بجيش قوي واقتصاد متماسك، ممهداً الطريق لمصر كي تصبح لاعباً إقليمياً محورياً.. وسلطان المماليك قطز، بقوته القيادية وحكمته، أوقف زحف المغول في معركة عين جالوت، ليجعل من مصر حامية للأمة الإسلامية.
إن قراءة التاريخ الأوروبي خلال العصور الوسطى تكشف ازدواجية واضحة في مواقف الدول الغربية تجاه القوى الإسلامية والمغول، حيث سعت بعض تلك القوى إلى التحالف مع المغول ضد المماليك، قبل أن تتحول إلى التعاون مع المماليك لاحقاً، استناداً إلى المصالح المشتركة. هذا التقلب التاريخي يبرز أهمية الوعي بتعقيدات السياسة الدولية، وهو درس مهم لمصر الحديثة.
على الجانب الآخر، تبرز في السياق الإقليمي محاولات لتقديم نماذج زائفة مثل "النموذج السوري 2024"، الذي يروج عبر منصات الإعلام، متجاهلاً الواقع الأليم الذي تعيشه سوريا، حيث الهيمنة العسكرية والانقسامات الداخلية. هذه المحاولات تهدف إلى خلق صورة وهمية عن الاستقرار، بينما تخفي وراءها واقعاً مأساوياً يسعى لإعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى.
في التاريخ الحديث، يظل جمال عبد الناصر رمزاً لمعركة التحرر الوطني، ورغم تعرضه لانتكاسات مثل نكسة 1967، إلا أن جهوده في مواجهة الاستعمار وتعزيز الهوية العربية لا يمكن إنكارها. بالمقارنة، فإن التطور الذي شهدته القدرات العسكرية المصرية بعد عام 2014 أعطى البلاد موقعاً استراتيجياً يمكنها من ردع أي تهديدات خارجية، ما يعزز مكانتها كركيزة للاستقرار في الشرق الأوسط.
من بين اللحظات الفارقة في تاريخ مصر المعاصر، تبرز ثورة 30 يونيو 2013، التي كانت تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب في استعادة هويته الوطنية ورفض التدخلات الأجنبية. تلك اللحظة لم تكن مجرد حدث عابر، بل محطة أعادت ترتيب المشهد الإقليمي، مؤكدة أن مصر، بوعي شعبها وإرادته، قادرة على حماية مقدراتها في وجه المخططات الخارجية.
إن استحضار المحطات التاريخية الكبرى مثل معركة نزيب عام 1839، وجلاء الاحتلال البريطاني عام 1956، وثورة 30 يونيو، يثبت أن مصر ليست مجرد دولة تمر بتقلبات سياسية، بل هي مركز ثقل إقليمي يدرك الجميع أهميته. القوى الكبرى، منذ العصور الوسطى وحتى اليوم، ترى في مصر حجر الزاوية في معادلاتها الاستراتيجية، ولهذا كانت محاولات استهدافها دائمة، لكنها لطالما واجهت هذه التحديات بصمود استثنائي.
في هذه المرحلة الحرجة، تبرز أهمية تعزيز الهوية الوطنية وتحصين الوعي الجمعي ضد الحملات التي تستهدف استقرار البلاد. التاريخ المصري يعلمنا أن الشعوب التي تتوحد خلف هدف مشترك قادرة على التصدي لأي مؤامرات. مصر، بإرثها العريق، ستظل قادرة على تقديم دروس ملهمة في الصمود والبناء.
إن الحفاظ على الهوية الوطنية ليس خياراً، بل هو ضرورة لاستكمال مسيرة البناء. الأجيال القادمة بحاجة إلى استلهام قيم الإصرار والولاء من القادة التاريخيين الذين صنعوا الفارق، لترسيخ مكانة مصر كدولة ذات سيادة ودور محوري في حماية أمن المنطقة.