صدق مَنْ قال أن كل ساقٍ سيُسقى بما سقى، وأنه كما تدين تُدان، ولكن للأسف، كثير من الناس تفوتها هذه الحكم، ربما لأنها تظن أنفسها الأفضل على الإطلاق، فلا يضعون أنفسهم في المكان الصحيح، ودائمًا ما ينظرون لأنفسهم نظرة ملؤها التقدير، فهم من وجهة نظر أنفسهم لا يُخطئون وخارج نطاق المُقارنة، ولكن ما لا يُدركه هؤلاء أن أخطاءهم هم الذين يكشفونها بأنفسهم، لأن الحماقة عادة ما تكون وثيقة الارتباط بسلوكياتهم، لأن مَنْ يظن أنه فوق مستوى الخطأ أو النقد عادةً ما يكون مغرور، وهذا الغُرور لابد أن يقوده إلى إيذاء نفسه دون أن يدْري.
ففي إحدى القرى البعيدة، كان هناك مُزارع طيب يبيع لخباز القرية رطلاً من الزبد يوميًا، وفي أحد الأيام قرر الخباز أن يزن الزبدة التي يشتريها من المُزارع للتأكد من أن الوزن صحيح، وليس به تلاعب، ولكنه اكتشف أن الوزن أقل من المطلوب، فغضب غضبًا شديدًا، وتقدم بشكوى إلى المحكمة ضد المُزارع، وحينما وقف الخباز والمُزارع أمام القاضي، سأل الأخير المُزارع إن كان يملك مكيالاً دقيقًا يزن به الزبدة، فأجاب المُزارع المسكين: يا حضرة القاضي، إنني رجل فقير لا أملك ميزانًا مُناسبًا في منزلي، لكني مع ذلك كنت أتبع طريقة خاصة في الوزن"، فسأله القاضي: "إذن كيف كنت تزن الزبدة؟"، فأجاب المُزارع: "يا حضرة القاضي، قبل أن يبدأ الخباز في شراء الزبدة مني بوقت طويل، كنت أشتري منه رطلاً من الخُبز، وفي كل يوم يُحضر فيه الخباز الخُبز، أضعه على الميزان وأعطيه الوزن نفسه من الزبدة، فإذا كان هناك مَنْ يستحق اللوم، فهو الخباز".
فهل كان يظن هذا الخباز أنه بشكواه ضد المُزارع إنما كان يشكو نفسه، ويفضح غشّه وتلاعبه في المكاييل، ولكن غُروره ورغبته في أن يحمي نفسه من أي ضرر، هي التي ألقت به في خضم الأضرار، فمن يعتقد أنه كان بإمكانه خداع الحياة، والتذاكي عليها، والخروج منها في صورة المنتصر بصفة دائمة ومستمرة، فهو بالقطع واهم، لأن الحياة لديها دفتر إيصالات أمانة، تقيد فيه كل المُعاملات الإنسانية، سواء الدائن فيه أو المدين، ولكن كل ما في الأمر أنها تختار الموعد والطريقة المُناسبين لاقتضاء دينها، ومَنْ يظن أنها تتغافل وتنسى، فمما لا شك فيه أنه أحمق، لأن إيصالات الأمانة لابد أن يتم سدادها عاجلاً أم آجلاً.
ولذا، علينا ألا ندع الغُرور يُصيبنا في مقتل، ويجعلنا نزن الأمور بميزان خاطئ، لأننا سنُسدد ما علينا، والأدهى من ذلك أننا مَنْ سنُقر بالدين ونعترف بها رغمًا عنا.
بقلـــم