رُسِمَت الملامحُ الأُولى للمرحلة المُقبلة فى سوريا. ستتولَّى «هيئة تحرير الشام» الإدارةَ مُنفردةً لنحو ثلاثة أشهر، يُفترَضُ أن تشهدَ تحضيرًا لأجواء الانتقال، بالتوازى مع الاضطلاع بالمهام الحيويَّة، لجهة تثبيت الأمن وتأمين الحاجات الاجتماعية.
والجميعُ، فى الداخل والخارج، يتعاملون مع الأمر الواقع بانفتاحٍ وسِعَة صدر، ولم تطرأ أيَّة مُؤشِّرات على التنازُع فيما يخصُّ السُّلطة التنفيذية المُؤقَّتة، وهيمنة أحمد الشرع ورجالِه على المشهد الراهن، لا من المُعارضة المدنيَّة وراء حدود الدولة، ولا من قُواها الاجتماعيَّة ومُكوِّناتها الهُويَّاتية المُتنوِّعة.
العنوانُ العريض يَنحو إلى إحسان الظنّ، ورعاية مسار التعافى العاجل من مُتبقِّيات النظام القديم، وإرجاء الخلافيَّات إلى ما بعد النظر فى الأولويات، وتجاوز تحدِّيات الوضع القائم.
المجالُ الوطنىُّ يسيرُ فيما يُشبه الإجماع، والمُواكبة الإقليمية تتثبَّتُ فى مواقفِها احترامًا للقرار السورى.. وبعيدًا من الشكوك والمُلاحظات المُبكِّرة؛ فإنَّ قطاعًا عريضًا من الشعب لا يرى غضاضةً فيما يجرى حتى اللحظة، مُنطلقًا على الأرجح من افتراض أنّه لا شىءَ أسوأ مِمَّا كان، ولا غايةَ تتقدَّمُ على تصفية تركة «البعث»، والخروج الكامل من ميراث العائلة الأسديَّة.
إنه وقتُ التلاقى على هدفٍ واحد، ولن تبرُزَ التناقُضات الآن، ولا فى أىِّ وقتٍ قريب. ثِقَلُ الماضى غطاءٌ على أيَّة مرارةٍ حالية، ونشوةُ النصر تكفى لتقديم حُسن الظنِّ فى القادة الجُدد، والأحلام السامية متروكةٌ للمستقبل وتفاعلاته.
وفى هذا شىءٌ من المَنطق والبراجماتيَّة؛ لكن فيه أشياء من الخوف، ما يعنى استمرارية سَطوة النظام على المجال العام، ولو من جانبٍ معنوىٍّ. أى أنَّ التحرُّر من قيود «بشَّار» لم يكتمِلْ بعد، مع مخاطر أن تظلَّ حاضرةً فى ورشة البناء، ومساعى العمل على إرساء البديل.
إشاراتُ «الجولانى» إيجابيَّةٌ حتى الآن؛ إنما المطلوب أن تقترنَ الأقوالُ بالأفعال. وليس من التزيُّد والتشغيب أن تُسجَّلَ مآخذُ مُبكِّرةٌ على تكوين الحكومة المرحليَّة، وانفراد «هيئة تحرير الشام» بها، وأن تُختزَلَ فى الآتين من «إدلب» بذاكرةٍ مُترعَة بالعداوة والفرز الأيديولوجىِّ والطائفى؛ ناهيك عن ضآلة التجربة التنفيذية، ومحدودية خبرات القائمين عليها.
صحيحٌ أنها مرحلةٌ عنوانُها الشكّ، ويقودُها هاجسُ الخلاص من سلطةٍ قديمةٍ كانت تهيمنُ على كلِّ شبرٍ فى البلاد؛ لكنَّ الشعبَ فى حاجةٍ للاطمئنان بمثل ما يحتاجُه الفاعلون الجُدد، أو أضعافه؛ لأنهم لا يتحصَّنون بسلاحٍ أو مُؤازرةٍ خارجية كغيرهم، كما يجبُ ألَّا يظلَّوا مُستبعَدِين تمامًا فى الحالين: النظام قديمًا بالطائفية والتخوين، والأُصوليِّون حديثًا بالولائيَّة والانغلاق على ذواتهم.
والحاجةُ للتطمين فى سياقٍ مُلتبسٍ كهذا؛ إنما تتعلَّقُ فى عنقِ الحاكم الجديد حصرًا، بإبداء صورةٍ مُغايرةٍ عن سلفِه الساقط، وتبديد الريبة المُحتمَلَة فى أنَّ السياق قد لا يتجاوزُ إحلالَ مُستبدٍّ بآخر.
لم يَكُن مُوفَّقًا أن يُطِلَّ رئيسُ الحكومة الجديد على العالم من مكتبه، مُآخيًا بين علم الدولة وراية الهيئة. الرسالةُ سلبيةٌ للغاية؛ لجهة الانضواء تحت ظلِّ الكيان الجامع، أو القناعة بأنَّ الصِّفَة الوطنيّةَ قادرةٌ وحدَها على التعبير عن كلِّ مُكوِّناتها.
ما يُفهَمُ من الصورة أنَّ فصيل «الجولانى» جاء ليقيم، بمعزلٍ عن حركيّة السياسة وإفرازاتها؛ بمعنى أنَّ المرحلةَ تتمثَّلُ فى العَلَمَيْن معًا، والمُقاربات المُقبلة ستكون تحت سقف الثنائيَّة المرسومة بصريًّا، دون اعتبارٍ لتوازُنات القوى تحت هدير الشارع، أو للشراكة الواجبة فى بناء المسار المأمول.
وبصياغةٍ أوضح؛ فإنَّ العَلَم السورىَّ غيرُ قابلٍ للإزالة تحت كلِّ الاحتمالات، والمجاورةُ مع شعار «هيئة تحرير الشام» تُشركَها فى الرمزيّة، وتمنحُها الصِّفَةَ ذاتَها؛ ليكون الجَدَلُ مُستقبلاً فى الشخوص لا العناوين.
كأنَّ الإشارةَ أنَّ «البعثَ» يُولَد من جديدٍ بنكهةٍ إسلامية سُنيَّة، وأقصى ما يُحتَمَلُ فى هذا الفضاء أنْ يُستبدَلَ الوزراءُ والمسؤولون، بل وأحمد حسين الشرع نفسه؛ إنما لا سبيلَ لاستبدال التنظيم أو إزاحته؛ ولو أراد الشعب وتلاقت الإراداتُ جميعًا.
ربما تكونُ صورةُ الأعلام اجتهادًا من محمد البشير ومجموعته؛ لكنَّه كان يستوجِبُ الاعتذارَ والتصحيحَ على وجه السرعة. والحال؛ أنَّ إطلالات رئيسِ الحكومة الجديد بتصريحاته العلنية، وفى حُوارَيْن مُوجَزَين مع قناة الجزيرة وصحيفة «كوريرى دى لا سيرا» الإيطالية، لم تُفصِحْ عن رؤيةٍ واضحةٍ بشأن المستقبل القريب، بعيدًا من أن تكون ناضجةً أو سائلة.
بدا الرجلُ مُرتبكًا للغاية، وهشًّا فى النظرة والطَّرح، وهو قد يكونُ طبيعيًّا إزاءَ سُرعة النصر، وضخامة المسؤولية، والانتقال من مهام جُزئيَّةٍ محدودة فى جيوب إدلب، إلى التزاماتٍ حقيقيَّة ثقيلة باتِّساع الوطن السورىِّ.
لكنَّ المُبرِّرات لا تكفى لإذابة مخاوف عدم الجاهزية، وانعدام التناسُب بين المهارات الحاضرة والواجبات المطلوبة، وهُما أمران يُوجِبان الحذرَ من العثرة فى المدى المنظور، وأقلّ تأثيراتها ألَّا تتحقَّق الأولويات المرحليّة بالسرعة والكفاءة الضرورِيَّتَين، أو أن تستطيل الفترةُ الانتقالية بما يتجاوز مداها الزمنىَّ، ويتسبَّبُ فى إذكاء المخاوف وترقية منسوب الريبة وسُوء الظنِّ.
قد يحتاجُ الخروج من دمار الحرب الأهليَّة المُشتعلة منذ ثلاثَ عشرةَ سنةً، ومن نصفِ قرنٍ أَسَدىٍّ قُرابة نصفِه تحت ولاية رئيسٍ باهت ومحدود القدرات، إلى ما يتجاوزُ نطاقَ الأشهر الثلاثة الموصوفة فى برنامج السلطة المُؤقَّتة.
وقد كان التصوُّر السابقُ مقبولاً خلال الأيام الأُولى للاستبدال؛ لكنه عَمليًّا ما عاد على حالِ السِّعَة نفسِها بعدما وُضِعَ جدولُ الانتقال، بإرادةٍ فرديَّةٍ من الصاعدين الجُدد، ودون اقتراحاتٍ من الداخل أو إملاءاتٍ من الخارج.
لقد أَلزَموا أنفسَهم اختياريًّا بأنْ يرى الناسُ فارقًا ملموسًا بحلول الربيع المُقبل، وأن ترتَسِمَ معالمُ الطريق المستقبليَّة بما يسمحُ بالسَّير فيها، ويضمنُ اجتنابَ المزالق والعثرات.
وعليهم الوَعىُ بأنَّ أىَّ تعديلٍ لاحقٍ؛ ولو فرضَتْه ظروفٌ اضطراريّةٌ يرونها ولا يراها الآخرون، قد لا يكونُ مَوضِعَ ترحيب، ولا يُرافقُه إحسانُ الظنِّ السابقُ من الجموع الغاضبة.
الأيَّامُ العاديّةُ ستأكلُ رصيدَ الغضب وتُطفئ جمراته، كما سترفعُ حِصَّة الآمال فى الصدور، ولن يعودَ «الأسدُ» ونظامُه تبريرًا كافيًا للتقاعُس أو التقهقُرِ، ووقتَها قد تنقلِبُ الثورةُ على ذاتِها؛ كما جرت عادةُ الثورات التى تُختَطَفُ، أو لا تُلبِّى طموحات جمهورِها بما يُواكبُ آمالَهم العاليةَ، أو يُداوِى جراحاتهم الغائرةَ فى الأرواح والأبدان.
لم يُنتَخَب النظامُ السابقُ من الشعب، جاء «الأسد الأب» من رحم الانقلابات المُعتادَة، وورثه الابنُ بطريقةٍ أُوتوقراطيَّة لا علاقة لها بالأنظمة الجمهورية. والثوراتُ بطَبعِها تُسقِطُ القديمَ وتأتى بالجديد، وتتصدَّرُه بالضرورة القوَّةُ الأقدرُ والأكثر جاهزية.
لكنَّ المشهدَ السورىَّ منذ انتقل من ثورةِ الشارع، إلى حربٍ أهليَّةٍ بيان كياناتٍ مُسلَّحة؛ صار الحُكمُ للسلاح حصرًا، وعلى صهوتِه صعدَتْ «هيئةُ تحرير الشام» وزعيمها. الظرفُ قد يُصرَفُ لصالحِها دوليًّا من جهةِ القبول السياسىِّ، وغَسْل السُّمعة الإرهابيَّة القديمة؛ لكنَّ المشروعيَّةَ تظلُّ محليَّةً بكاملِها، ولا يُحقِّقُها قبولُ الخارج بالسماحة أو الاحتضان.
وكما كان توظيفُ النظام للدولة فى خدمة مشروعِه الفئوىِّ انحرافًا عالىَ الكُلفة؛ فإنَّ أىَّ إنتاجٍ للحال لن يختلفَ فى المآل، وواجبُ النظامِ الجديد أن يقطعَ الصِّلة تمامًا مع كلِّ المُمارسات القديمة، وأنْ يترُكَ المُؤسَّسات مُحايدةً أمامَ الجميع، من دون تلوينٍ أو إعادة هيكلةٍ مُوجَّهة، وبما لا يُحكِّمُ العارضَ فى المُقيم، ويُعبِّئ الوطنَ فى الجَيب الخلفىِّ لأحد مُواطنيه.
وإثارةُ الأسئلة اليومَ، وما يزالُ الجرحُ مفتوحًا وساخنًا؛ ضرورةٌ عمليَّة لتحصين المسار، وضمان التشَافِى على أرضيَّةٍ سليمة، وليس استباقًا أو حصارًا لأفكارٍ ما تزالُ غيرَ واضحةٍ فى الأذهان.
لم يَكُن «الأسدُ» حليفًا أمينًا لدُّوَل الإقليم، ولا يُمكِنُ الردُّ على أيَّة انتقاداتٍ بأنها نابعةٌ من انحيازٍ مُسبَق، أو تتباكى على مصالحَ ضائعةٍ.
قائمةُ المُنتفعين من النظام السابق ضَيِّقةٌ ومعروفة، وما عداها لديهم مَنفعةٌ مُباشرةٌ مع سوريا العَفيَّة المُوحَّدة، غير السقيمة، والتى لا تتعثَّرُ فى ثوابتها الوطنية أو تُخطئ فى ترتيب أولويَّاتها.
يجبُ ألَّا تغيبَ الحاضنةُ العربية عن المشهد الجديد، ويتعيَّنُ على حُكَّام اللحظة فى دمشق أن يتجاوزوا ماضيهم، ويرتقوا فوق الانتماءات الأوَّلِيَّة والتحالُفات غير الصافية، انفتاحًا على المحيط الإقليمىِّ الواسع، وعلى الفسيفساء السوريَّة العَصيَّة على التأطير والتقويض.
مصلحةُ الفصائل صارت مع الدولة لا أىِّ طرفٍ آخر، وصِدقُ انحيازهم لذواتهم يفرضُ عليهم أن يكونوا مُنحازين لعمليَّةٍ سياسيَّةٍ وطنيَّةٍ شاملة، إمَّا أن تُمكِّنَهم من الإدارة باستحقاقٍ يقومُ على ميثاقيَّةٍ وتعاقُدٍ اجتماعىٍّ مُحدَّث، أو تضمنُ حضورَهم فى أىِّ سياقٍ بديلٍ، على قدم المُساواة مع الجميع، لا غالبين ولا مغلوبين.
درسُ «الأسد» الأهمّ أنَّ الهُويَّات الكُبرى لا تُشطَبُ ولا تُبتَلَع، وما عجزَ عنه نظامُ العقود الخمسة، قد يكون مُستحيلاً على أىِّ نظامٍ آخر، مهما كانت المرجعيَّة، ومهما توافر له من بأسٍ وهيمنة.
حرصَتْ مصرُ على أن تكون فى طليعة المُنفتِحِين على السياق الجديد. أعادت تنشيطَ بعثتِها الدبلوماسيَّة على وجه السرعة، وتتابعت رسائلُ وزير الخارجية من القاهرة وأوروبا والصين، قبل أن يطير للأردن أمس.
إدارةُ الشؤون السياسية بالحكومة السورية شكرت ثمانىَ دُوَلٍ على تشغيل سفاراتها، منها السعودية والعراق بين أعضاء لجنة الاتصال العربية المُشكَّلَة فى قمَّة جدة 2023، والمُجتمِعَة فى «عمّان» قبل ساعاتٍ بشأن التطوُّرات الأخيرة.
لا أحدَ يدعو إلى إملاءِ مسارٍ سياسىٍّ على دمشق؛ إنما تضطلعُ الدُّوَل الإقليميَّةُ الوازِنَة بواجبها تجاه الأشقاء، وتُحصِّنُ تجربتَهم فى المُداولات الجارية مع القُوى الكُبرى فى المنطقة والعالم. وبالتصوُّر البسيط ثمَّة مصلحةٌ مصريَّة أردنيَّة لبنانيَّة تركيّة فى استقرار الأوضاع، وعودة النازحين للمشاركة فى انتشال بلدهم من الضياع، والإسهام فى بنائه وإدارته.
ومن زاويةٍ عميقة، فإنَّ عودةَ سوريا لعافيتِها مصلحةٌ جماعيَّة لكلِّ الأطراف، لا لأنها ستكون خنجرًا فى يَدِ أحدٍ أو فى خاصرةِ غيرِه؛ إنما لأنها ستقومُ بواجباتها المُثلَى تجاه مُواطنيها أوَّلاً، ولا تعودُ عاملَ إرباكٍ كما كانت، أو أكثر اتِّصالاً بأجندات الآخرين من الدفاع عن نفسِها وأهدافها العُليا.
صَمَتَ القادةُ الجُددُ طويلاً على العدوان الإسرائيلىِّ المُتوحِّش بامتداد سوريا. من التزيُّدِ قَطعًا أنْ يُطالِبَ البعضُ «هيئة تحرير الشام» بحربٍ تفوقُ طاقتها، أو باستعادة الجولان الضائعة منذ ستَّة عقود؛ لكنهم لم يُسجِّلوا حتَّى مُجرَّد موقفٍ سياسىٍّ بالكلام العابر.
أمسِ فقط، نقلت وكالة «أسوشييتد برس» الأمريكية أنهم خاطبوا مجلس الأمن الدولىِّ بشأن سلوك الاحتلال، وطالبوا بوَقف تعدِّيه على الأراضى السورية بما يُناقِضُ سوابق الاتفاقات القائمة.. ومعلومٌ أنها اتفاقات سوريا، لا حافظ ولا بشَّار.
لم يَصدُر عن «الشَّرع» وحكومته ما يُطابق القول السالف؛ لكنهم حتى لو فعلوا فإنَّه إتيانٌ مُتأخِّرٌ للغاية، وغيرُ مفهومٍ فى تأخيره الغامض، ويُثيرُ القلقَ بشأن آليَّة التفاعُل مع باقة المسائل الحيويَّة كلِّها، وكيف تُرتِّبُ الهيئةُ أولويَّاتها فى غياب الشراكة الوطنية، وانعدام تمثيل بقيَّة الأطياف فى السُّلطة الجديدة.
قد لا يكونُ مُتاحًا لوَرَثة الأسد أن يُحقِّقوا ما عجزَ عنه، بشأن التحرير أو رَدع الاحتلال وتغوُّلِه على الأقل؛ لكنهم ليسوا عاجزين عن مُجاراتِه فى تسجيل المواقف اللفظيَّة غير المُكلِّفة؛ ولو من دون أثرٍ مُثمرٍ.
الغيابُ الطويلُ إمَّا يُشيرُ لتقديم مُنازعات الداخل على الخارج، أو للاحتكام إلى تصوُّراتٍ حركيَّةٍ أو إملاءاتٍ خارجيَّةٍ تُرتِّب الأولويَّات بمَنطقٍ مُختلِف؛ وكلاهما يُناسِبُ حركةً مُسلَّحةً تُمارسُ الثورة العنيفةَ أو الحربَ الأهليَّة أو النزاع على السُّلطة؛ لكنّه يختلفُ تمامًا عن واجباتها فى الحُكم، وعن التزامها تجاه الدولة التى سقطَتْ فى حِجرِها، لا كغنيمةٍ ذاتيَّةٍ يصحُّ تقسيمُها على مَذهَبٍ أُصولىٍّ خالص، إنما كانتدابٍ لحظِىٍّ مُؤقَّت،ٍ قبل إعادة الحق لأصحابه الأصليِّين/ الشعب فى مجموعِه دون فرزٍ أو تصنيف.
تواضَعَ الجميعُ على توصيف المُؤسَّسة العسكرية بأنها «جيشُ بشَّار»: النظام على سبيل الشخصَنَة واختزال الدولة فى الفرد، والمُعارضةُ من باب الوَصْم والتشويه، وتسييد فكرة انعدام الحاجة للمُؤسَّسات القديمة، وانصراف الجهود إلى الهدم والبناء؛ بدلاً من الإصلاح والتقويم.
والسُّلطة الوَارِثَةُ لم تُخفِ مَيلَها إلى تفكيك الأُطُر النظاميَّة والأمنيَّة القائمة؛ لكنها لم تقترِحْ البديلَ أو تفتح حوارًا بشأنه، وبطبيعة الحال سيسقطُ وَعدُ «الجولانى» بحلِّ هيئة تحرير الشام؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُغامِرَ بالسيولة الكاملة، ويحتاجُ جهازًا مِطوَاعًا لتثبيت أُسُس الأبنِيَة الجديدة.
وعليه؛ فقد يكون الصَّمْتُ على استهداف الجيش، أىْ مُقدَّراتِ الدولة نفسِها، ينطلقُ من تصوُّرٍ فصائلىٍّ عن الاستعانة بفاعلٍ خارجىٍّ فى هَدم العسكرية السورية القائمة، على طريقةٍ تُشبه تجربة بول بريمر فى العراق.
والخطأ هنا ليس فى البقاء تحت أَسْر القبضة الأسديَّة، حتى فى محاولات الفِكَاك منها؛ بل فى تكرار التجارب التى ثبت خطؤها فى بيئةٍ مُجاورة، تكتنزُ بكلِّ التعقيدات والأمراض المُستوطِنَة للجسد السورىِّ، مع فارق أنها انطلقَتْ من حَوزةٍ مدنيَّة، ولم تُدَرْ عبر كيانٍ أُصولىٍّ مَوصومٍ بالإرهاب، ولديه تناقُضاتٌ داخليَّةٌ قد تُعطِّلُه أو تبتلعُه لاحقًا.
الحصانةُ لا يُمكِنُ أن تتأتَّى من تغليب سلاحٍ على آخر، ولا من إحلال الرُّتَب العسكريَّة من الولاء للأسد إلى الولاء للشَّرع. المُؤسَّساتُ التى كانت سببَ الأزمة، ربما تكونُ الطريقَ الذهبيَّةَ إلى الحَلِّ، أوَّلاً لأنها مخزنٌ للخبرة والقُدرات النوعية الغائبة عن الفصائل، وثانيًا لأنها فى حاجة لاحتوائها تحت مظلَّةٍ وطنيَّة، بدلاً من الانفلات أو الانخراط فى مشاريع مُعادية.
لن يستسلِمَ «محورُ المُمانَعة» بسهولةٍ لخسائره الثقيلة، ولا لانقطاع سُبل الرَّبط بين أذرُعِه الباقية، والضعيفُ المهزومُ أشدُّ خطرًا من القوىِّ المُنتصِر. العوامُ يُراقبون السُّلطةَ، ولن يُقيِموا اعتبارًا لتشغيب الفلول القديمة، ما يُهدِّدُ بإبطاء مسار الانتقال، ووَضعِ الحكومة البديلة فى مُواجهة الشارع فى أىِّ وقتٍ قريب.
باختصار؛ خطرُ الاحتواء أقلُّ كثيرًا من مخاطر العداء، وانسحابُ الثأر من العائلة الأسديَّة على بقايا المُتعاونين معها، قد يتَّسعُ مع الوقت ليشملَ قطاعاتٍ أُجبِرَت على التعاون، أو لم يَتوافَر لها الخيارُ الضِدُّ أصلاً، وتلك أسهلُ وأسوأُ الوصفات لتفخيخ مراحل الانتقال.
سوريا فى مخاضٍ وجودىٍّ حقيقىٍّ. ليس من مصلحة الدولة أن تُكسَرَ السُّلطةُ الجديدة، ولا من مصلحة الطرفين أن تُبتلَعَ المرحلةُ الانتقاليَّةُ لصالح طيفٍ واحد.. البيتُ مُبعثَرٌ لدرجةٍ تتجاوزُ طاقةَ أىٍّ من ساكنيه على الترتيب، والمخاوف فى أَوْجِها داخليًّا وخارجيًّا. تجربةُ الأسد أثبتت بُؤسَ الحواضن الخارجية؛ ويجبُ أن تكون درسًا للواقفين على أطلاله الآن.
يُمكن أن يُفوِّضَ الشارعُ حُكَّامَه الجُددَ، رضاءً أو اغتصابًا، فى الشهور القليلة المُقبلة؛ لكنهم لن يتحمَّلوا مدىً مفتوحًا أو انتقالاتٍ شديدةَ العثرات. ثمَّة حاجةٌ ظَرفيَّة مُعجَّلةٌ للتوافق بين المُكوِّنات المُتصارعة، وتبريد حرارة الهويَّات الساخنة والمُحترِبة معًا. المسألةُ الكُرديَّة فى قلب الترتيبات المُهمَّة، بنزوعٍ سورىٍّ صافٍ لا بما يُناسبُ الرعاةَ وراء الحدود، وقضايا الأقليَّات لا سبيلَ لترميمها بالوعود، ما لم يَتوافَرُ برنامجٌ مَدَنىٌّ بملامحَ واضحةٍ.
الرعايةُ العربيَّةُ حاضرةٌ على رأس الميدان، وقدَّمَتْ الإشارات الإيجابية المطلوبة. يتبقَّى أنْ يُلاقيها الفاعلون فى دمشق، وأن يُبدوا اتِّصالاً حيويًّا مع محيطهم وبيئتهم؛ بأكثر مِمَّا يجمعُهم بالقُوى الخارجية ذات المصالح الخاصة فى سوريا. لا معنى لإرجاء الحُوار، ولا للتقاعُس عن بدء ورشة العمل الإلزاميَّة بشأن العقد الاجتماعىِّ الجديد، دستورًا ومرافق وآليات حُكمٍ وجدولاً زمنيًّا للاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
ضيَّع الأسدُ الأبُ فائضَ الصراع مع الصهاينة بعد حرب أكتوبر، وبدَّد الابنُ بشارات «ربيع دمشق» بالعودة السريعة لسلوك العائلة ومحفوظاتها. رصيدُ الخلاص من النظام لن يدومَ، والصاعدون على رُكامه يحتاجون لشرعيّةٍ جديدة، تنضبطُ بالثابت الوطنىِّ، وتحتكمُ إلى القبول تحت مظلَّة الوِفَاق أو الإجماع. سوريا باقيةٌ فى كلِّ الأحوال؛ إنما الامتحانُ الآنَ فيمَنْ سيَبقون بين هيئتها الوطنيَّة الصافية غدًا، أو سينقلبون على أنفسهم قبل الشعب، ويختارون الرحيلَ بطريقةٍ قد لا تختلفُ عن النظام الذى ثاروا عليه!