على ضفاف التاريخ، تقف العريش شامخة كأنها لوحة بديعة رسمتها يد الطبيعة وخطّتها أنامل الزمن، هذه المدينة الساحلية التي زرتها فاكتشفت أنها تجمع بين عبق الماضي وسحر الحاضر، تنثر في أحيائها حكايات لا تنتهي، حيث يلتقي البحر بالسماء، ويتناغم صوت الأمواج مع أغاني الذكريات.
من حي المساعيد إلى ضاحية السلام، ومن أبي صقل إلى كرم أبو نجيلة، تحمل شوارع العريش وجوهًا مبتسمة وقلوبًا مليئة بالحب.
هنا، على كورنيش الشاطئ، يتنفس الزائر عبق النخيل الممتد كأنه حارس على المدينة، وهناك، في متحف التراث البيئي، تنبض الحكايات القديمة بالحياة، لتذكّر أهلها وزائريها بأن الجذور هي ما يمنح الأجنحة قوتها.
"مدينة العرش"، كما كانت تُعرف قديمًا، ليست مجرد اسم، بل قصة ترويها الرمال والرياح، قيل إن يوسف عليه السلام استقبل فيها إخوته، وإن إبراهيم عليه السلام نصب فيها عريشًا يستظل به، وتُهمس الحكايات بأن بالعريش قبور عشرة أنبياء، فتبدو المدينة وكأنها قطعة من السماء نزلت على الأرض.
وفي أحيائها مثل الفواخرية والسمران، يعيش أهلها ببساطة وطيبة، حيث القصص تُروى على نغمات الشاي الممزوج برائحة النخيل، أما في آل أيوب وعاطف السادات، فتتجلى روح الوطنية، التي امتزجت بأحلام الغد وآمال المستقبل.
العريش ليست فقط شاطئًا ساحرًا أو تاريخًا عريقًا، بل هي روح تعبر عن العزة والجمال، إنها المدينة التي تحمل ذكريات العابرين، وأسرار الموج، وحكايات أهاليها الذين يجدون في كل زاوية فيها سببًا للابتسام.
في قلب مدينة العريش، نسج الزمن ذكرياته مع عمي الراحل عبد الرحمن عبد الراضي، الرجل الذي لم يكن مجرد مدير للعلاقات العامة بمحافظة شمال سيناء، بل كان جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، وبين قريتنا الصغيرة شطورة في شمال سوهاج ومدينة العريش الساحرة.
في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حمل عمّي أحلامه على كتفيه واتجه نحو العريش، تلك المدينة التي كانت حينها هادئة كنسيم البحر الذي يعانقها كل صباح، لم تكن رحلته مجرد انتقال جغرافي، بل كانت بداية لعلاقة إنسانية عميقة بين جنوب الوادي وشماله، هناك، تحت سماء العريش، استدعى عمّي أقاربنا وبلدياتنا، فتحولوا من زوّار عابرين إلى أبناء أوفياء، عمروا الأرض، بنوا البيوت، وأسّسوا علاقات راسخة مع المكان وأهله، حتى باتت العريش جزءًا لا يتجزأ من جغرافيا قلوبنا.
لم تكن هذه المدينة بالنسبة لهم مجرد موقع على خريطة، بل كانت موطنًا جديدًا يُزرع فيه الأمل ويُبنى فيه المستقبل، وقفوا خلف الدولة ومؤسساتها، ساندوا عجلة البناء، وصنعوا قصصًا تُحكى عن الانتماء والعطاء.
العريش اليوم ليست مجرد مدينة على أطراف الوطن، بل صفحة من كتاب حياتنا، سطّرت فيها أقلام أبنائنا حكايات الكفاح والحب، إنها ليست فقط شواطئ النخيل أو آثارًا تحكي عن التاريخ، بل روح تمتزج فيها جغرافيا الأحباب بمشاعر لا تنتهي.