مستقبل سوريا، يبدو القضية الأكثر إثارة للتساؤلات في اللحظة الراهنة، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، والذي لم يتمكن من إدارة الحقبة الأصعب في تاريخ البلاد، والتي تناولتها في مقالي السابق، تحت مسمى مرحلة "ما بعد الربيع"، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في استعادة الفوضى بصورة أكثر شراسة فشل النظام في الصمود أمامها أكثر من أيام معدودة، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الاحتواء، وإن كان ضرورياً لانهاء حالة الفوضى، إلا أن هناك ضرورة ملحة لاتخاذ مسارات أخرى تعقبه وصولا إلى الاستقرار النهائي، تعتمد منهج الحوار والشراكة بين كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع والحياة السياسية، مع تنويع الشراكات الدولية التي تضفي قدرا من الحماية والصمود الاقليمي، في مواجهة ما يطرأ من عواصف خارجية.
والحديث عن إدارة مرحلة "ما بعد الربيع"، يبدو فيها النموذج المصري هو الأبرز بوضوح، وان اختلفت تفاصيل المشهد بالمقارنة مع الأوضاع في سوريا، ولكن تبقى الأبعاد الثابتة مرتكزة على المسارات التي اتخذتها الدولة المصرية في الداخل والخارج، عبر تمكين كافة الفئات المجتمعية، بدءً من الشباب والمرأة وذوي الهمم، مع دمج الاحزاب السياسية في حوار شامل جامع يتناول كل قضايا الوطن وتحدياته، مع تبني مسارا تنمويا يحمل ارادة حقيقية في تحسين حياة ملايين البشر، تزامنا مع حرب ضروس خاضها الجيش على الارهاب مع خوض معركة فكرية لدحض الأفكار التي بثتها جماعات الظلام لعقود طويلة من الزمن، بالإضافة الى تنويع الشراكات الدولية وعدم الاعتماد على حليف واحد.
المشهد المصري الداخلي، وإن كان مختلفا بحكم الظروف والأطراف الفاعلة فيه، عن الوضع في سوريا، إلا أن المقاربة تبدو قائمة في ظل ما قدمته مصر لملايين السوريين الذين قدموا إليها على مدار سنوات، جراء ما تعرضوا لهم في بلدانهم، لتقدم دليلا مهما يمكن الاستعانة به، ليس فقط في كيفية التعامل مع اللاجئين، إلى حد المساواة مع المواطن، وإنما أيضا في الكيفية التي يمكن بها إدارة بلادهم في مرحلة ما بعد سقوط النظام، حيث يبقى الدرس الأهم هو تحقيق قدر من الاحتواء لكافة أطراف المجتمع السوري دون تمييز، على أساس مبدأ المواطنة، حتى يصبح المواطن منتجا متمسكا بهويته الوطنية، بعيدا عن النزعات الانتقامية التي قد تهيمن على المشهد في مرحلة ما بعد نظام الأسد.
الرؤية المصرية، للأزمة في سوريا، تضع نصب أعينها مصلحة المواطن السوري كأولوية قصوى، وهو ما ترجمته أولا بصورة عملية، عبر قبول ملايين اللاجئين إليها والسماح لهم بالاندماج في السوق المصري، ومعاملتهم كمواطنين، متساوين في الغالبية العظمى من الحقوق مع مواطنيها، حيث تمكنوا من التنقل بحرية بين مدنها بعيدا عن سياسة الخيام، بينما تجلت في المواقف التي اعلنتها الدولة بصورة رسمية، سواء في البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية في أعقاب سقوط النظام، أو محادثات المسؤولين المصريين مع نظرائهم والتي دارت في فلك حماية المؤسسات والحفاظ على وحدة اراضي الدولة وسلامتها، بينما تبقى التجربة المصرية في ذاتها نموذجا قدمته لكافة دول المنطقة، يمكن الاستعانة به لإرساء دعائم الأمن والاستقرار.
القبول المجتمعي للسوريين في مصر، في ظل إرادة سياسية في احتوائهم، وهما كلمة السر في الاندماج والاستقرار الذي حظى به المجتمع، في ظل وجودهم، وهو الأمر الذي تبقى سوريا نفسها في حاجة إلى تطبيقه، أو بالأحرى استيراده، إذا ما أرادت تفادي المرحلة الراهنة والتي تبقى في غاية الخطورة، في ضوء ثورة النزعة الانتقامية في الداخل، مع أطماع خارجية جراء الحرب الشعواء التي يخوضها الاحتلال وسيطرته المطلقة على مساحات واسعة من أراضي الدولة، وهو الأمر المرشح للتفاقم خلال المرحلة المقبلة في ضوء جنون الحكومة العبرية ورغبتها العارمة في فتح جبهات جديدة للحرب.
ولعل مواجهة التهديد القادم من الاحتلال، إذا ما أراد السوريون، يتطلب أولا تعزيز جبهة الداخل، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل مشاهد الفوضى والقتل والانتقام، وتصاعد النزعة الطائفية، والتي لن تحقق أي مكاسب سواء للأطراف في سوريا أو للمنطقة، بينما تبقى إسرائيل المستفيد الوحيد من تلك الحالة.
المعضلة التي تواجه سوريا في اللحظة الراهنة، تتجسد فيما إذا كان القائمون على ادارة البلاد في اللحظة الراهنة سوف يقترفون نفس خطايا النظام السابق، عبر تبني نزعات طائفية، تتراوح بين تهميش المخالفين لهم في الداخل وقمعهم، مع الاعتماد على تحالفات أيديولوجية على النطاق الاقليمي، تفتح الباب أمام تدخلات خارجية تفاقم الأمور بصورة كبيرة، عبر إعادة مشاهد التسليح وتكوين الميليشيات لمواجهة السلطة حتى وان اتخذت من المقاومة شعارا لها.
وهنا يمكننا القول بأن الأمور في غاية التعقيد والتشابك في سوريا، في ظل مخاوف من اقتتال داخلى تبدو إرهاصاته واضحة، وصراع مفترض مع عدو طامع في المزيد من التوسع على حساب الأرض