انتشر مصطلح «اليوم التالى» عبر خطابات السياسيين من الفاعلين فى ملف الحرب على غزة، معبرا عن خطط مأمولة لإدارة القطاع بعد الانتهاء المرتقب للحرب.
ولكن هل تعى وسائل الإعلام الكبرى حول العالم أنها قد تكون بحاجة هى الأخرى للتفكير فى «اليوم التالى» الذى يخصها؟ هل خططت كيف ستزيل المخلفات التى علقت بجدران مهنيتها ومصداقيتها بعد أعوام حافلة بتغطية حروب وصراعات مسلحة، أعوام لم يتوحد فيها العالم إلا على حالة مستمرة من الاستقطاب، وتبادل الكراهية وخطابات العنصرية والتطبيع مع المعايير المزدوجة.
قد يكون من المفيد للمؤسسات التى تريد التشبث بإرثها المهنى أن تطرح عدة أسئلة تحدد أولوياتها فيما هو قادم.. خمسة أسئلة تحتاج غرف الأخبار للإجابة عنها:
1 هل مارسنا دورنا الضرورى خلال أوقات الصراع؟ فى عام 2018 كتب ديكلان وولش، مدير مكتب نيويورك تايمز بالقاهرة آنذاك، عن معضلة واجهته أثناء تغطية حرب اليمن، وتساءل عبر عدة كتابات عن دور الصحفى الضرورى، وما إذا كان يجب عليه الالتزام بدوره كشاهد على فظائع الحروب لينقلها فقط للعالم؟ أم يجب عليه كصحفى أيضا، فى بعض الأحيان، أن يساعد الضحية بدلا من تصويرها؟
تساؤلات طرحها «وولش» معبرا عن معضلة أخلاقية دائما ما تنازع أدوار الصحفيين الضرورية خلال تغطية الصراعات المسلحة، تتمثل تلك الأدوار فقط فى الاكتفاء بالأخبار، ونقل الصراع ومعاناة المدنيين بتجرد.
لكن وإن كان ما طرحه «وولش» يبحث فى السؤال الأخلاقى أولا، فإنه يجب أن نمد الخط لنسير إلى عكس هذا القياس، ونتساءل: هل حادت المؤسسات عن أدوارها الضرورية لنقل الصراع لتصبح فى بعض الأحيان جزءا منه؟
هل التزم صحفيوها بأن يكونوا ناقلين للخبر فقط؟ وإذا قالت بعض المؤسسات نعم لقد قدمنا تغطية محايدة معبرة عن الجميع، فكيف يمكنها تفسير انتشار التغطيات المدمجة مع قوات نظامية شكلت طرفا من أطراف الصراع، فيما يعرف بـ Embedded Journalism!
وماذا عن هؤلاء المهنيين الذين ظهرت انحيازاتهم الأيديولوجية أثناء التغطيات؟ وماذا عن غيرهم- وما أكثرهم- ممن تعاملوا بمنطق لا إنسانى، مفاده أنه لا بأس من أن تكون أرواح مدنيين أقل أهمية من غيرهم!
2 هل نقلنا الصراع بتوازن؟ تضع جميع أدلة وقواعد النشر لوسائل الإعلام «التوازن» قيمة مهمة يجب الحرص على تحقيقها فى أى محتوى يقدم لتحليل أو تفسير الأخبار، فى حين يقول معظم من يعملون فى المجال الصحفى إنهم متوازنون، فإن الكثير مما يقدم فى النهاية للمتلقى لا يكون بالقدر نفسه من التوازن المخطط له من قبلهم.
فى الحروب بالأخص، يختلط التوازن بالانحياز منذ اللحظة الأول لبدء الصراع، فيفقد السياق.. وتقدم الأحداث فى أطر من صياغة صانع السياسة التحريرية للمؤسسة أو ممولها.
يختل التوازن باختلال تقنيات تقديم المحتوى، واختيار زوايا الكاميرات والتغطيات وأحكام مسبقة لدى القائمين بالاتصال.
3 هل قواعدنا التحريرية المعلنة تحتاج إلى صياغة أكثر واقعية؟ أى تحليل محتوى مبسط لنسبة مما قدم خلال حروب العامين السابقين سيتبين اختلاف ما يقدم من محتوى خبرى أو تحليلى عما هو موثق منذ البداية، عبر كتب القواعد والإرشادات، التى تتباهى بها وسائل الإعلام الدولية كونها مرجعا مهنيا لا ريب فيه.
قد يقولون فى دليل القواعد: إن الوسيلة تقف على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع، ويأتى الانحياز فى عرض السياق وصياغة المصطلحات، واختيار الضيوف واللقطات، ليطيحوا بقدسية النص فى دقائق.
فى حين لا تلزم وسائل الإعلام نفسها بشرح اختياراتها التحريرية، يجد المتلقى نفسه أمام مسميات غير مفهومة، مثل لفظ «المعارضة المسلحة»، الذى أطلق على مجموعة من المقاتلين غير النظاميين ممن يستخدمون الدين مرجعية ثابتة، فى حين تسمى أخرى مماثلة على التوازى «جماعات جهادية» أو إرهابية.
تضع أدلة القواعد سلامة المدنيين وعدم الكشف عما يضرهم كأولوية للتغطية، إلا أننا شهدنا للأسف خلال العام الماضى موضوعات صحفية، تستخدم لاحقا كتحريض مباشر على أرواح المدنيين وأماكن تجمعاتهم، ولتوفر غطاءات لمهاجمة منشآت مدنية بدون محاسبة أو مسؤولية.
4 هل خسرنا الحرب لصالح منصات التواصل الاجتماعى؟ فى ظل وجود بديل معلوماتى فرض نفسه على استخدامات الجمهور، بديل مخلق من قبل أشخاص ومؤثرين على منصات التواصل الاجتماعى، بديل لا تحكمه قواعد مهنية، ولا يخضع للمراجعة ولا التدقيق ولا المحاسبة.
تجارب ذاتية مست قطاعات معينة من المستخدمين، الذين تغيرت تفضيلاتهم، أو وصلت لقطاعات جديدة منهم لم يعتادوا على استهلاك الأخبار عبر ولائهم لمؤسسات بعينها.
وهل سبب انصراف قطاع كبير إلى وسائل التواصل الاجتماعى هو تغير شكل وتفضيلات الجماهير فقط، أم لأن المؤسسات لم تنتبه، لأنها بالفعل تعرضت لأضرار جانبية للحرب، لم تعزز سوى تقليل الثقة فى الأخبار المؤسسية حول العالم.
5 كيف نستعيد الجمهور؟ تشير إحصائية نشرها معهد رويترز لدراسات الصحافة إلى أن 4 من بين كل 10 أشخاص فى العالم أصبحوا يتجنبون التعرض للأخبار بنسة 39% من إجمالى المتلقين حول العالم.
يشير التقرير إلى أن حربى أوكرانيا وغزة قد يكونا ساهما فى الازدياد المطرد فى تجنب الأخبار، ودفعتا بأسباب تتعلق بكثافة التعرض والشعور بالعجز أمام مشاهد مروعة يعرضها الإعلام.
كما تتعلق أيضا، وبشكل رئيسى، بالثقة فى الأخبار، التى تتآكل نسبها هى أيضا عالميا وبنسب أعلى فى القطاعات العمرية أقل من 35 عاما.
وفى هذا السياق، يمكن الإشارة إلى تجربة واشنطن بوست الذى بدأها ويل لويس، رئيسها المنضم حديثا للمؤسسة، وهى «غرفة الأخبار الثالثة»، التى تستهدف صناعة محتوى غير الأخبار والرأى، محتوى قادر على أن يصل للناس، وأن يضمن نسب مقرؤية تتيح للبوست الاستمرارية وجذب مزيد من القراء والموارد.
وسائل الإعلام التى تريد أن تستمر كمدارس صحفية يعتد بها، سيكون عليها أن تعيد تقييم أدائها وتحديد خسائرها المهنية والأخلاقية، وأن تجيب عن أسئلة تخص مستقبلها ومخاطره.