ورث نظام حافظ الأسد حكمه ومنهجه لنجله بشار، وأسس لحكم وسيطرة الأقلية على الأكثرية، حيث أعطى وزنا نسبيا للعلويين فى الحكم لا تتناسب مع أعدادهم مقارنة بالسنة أو الأكراد أو حتى الشيعة، ولم ينجح فى إقامة توازن سياسى وطنى بعيدا عن العرقية والطائفية، واستمر فى غلق مسارات التعددية السياسية والحزبية المدنية السلمية، واعتمد على قوى خارجية لمساندته فى مواجهة القوى السياسية الفاعلة داخل سوريا، وأنتج هذا التدجين للمعارضة المدنية وأى رأى حر مخالف لاختيارات النظام مقاومة إسلاموية مسلحة متعددة الروافد، كما أنه مهد لانفصال العرقيات ذات الأكثرية مثل الأكراد احتجابا على اضطهادهم وتمكين العلويين منهم، فاستقلوا بجزء من الأرض يتمتع بالثروة والنفوذ، ويستظل بالجوار الكردى فى تركيا والعراق، ومع استمرار ممارسات حكم بشار الأسد تقلصت القوى التقليدية المدنية وبقيت روافد القاعدة وفلولها فى سوريا وحدها تقيم معادلة «إسلاموية» تتلحف بالدين لمكاسب سياسية.
منذ أكثر من عشر سنوات بدأت سوريا فى تصدير متطرفيها الشبان إلى العراق إبان الغزو الأمريكى، وترعرت هناك القاعدة ثم داعش بفضل مشاركة كل فلول المعارضة الإسلاموية السنية لبشار الأسد فى أنشطة داعش والقاعدة وأشباههم، وأصبحت سوريا هى المصدر الأساسى للقوى البشرية المتطرفة لكل المنظمات الإرهابية، وما إن استقر العراق، ثم ارتخت يد الحكم فى سوريا إبان الثورة السورية عادت كل هذه القوى إلى أرض الشام لتحقيق أحلام تنظيم الدولة الإسلامية فى الشام والعراق، ولكن تحت قبعات إرهابية أخرى مختلفة، نظرا لأن «براند داعش» الإرهابى فقد بريقه وصيته الدولى بعد كل عمليات مواجهته ودحره فى العراق ومصر وغيرهما.
من هنا نبت أحمد الشرع أو محمد الجولانى، «وهو لقبه الداعشى»، واستطاع أن يحشد قوى إسلامية متعددة وفصائل متناثرة لمواجهة نظام بشار، الذى أصر على غلق المعادلة السياسية إلى أن انفجرت فى وجه سوريا بالكامل، وظهرت هيئة تحرير الشام نتاج استبداد بشار المستمر وقهره لكل أطياف الشعب.
استغل «الجولانى» جولات الحرب بين إسرائيل وحزب الله، والتى منى فيها الحزب بهزائم وضربات قاصمة موجعة قصمت ظهره وأجهدت الحليف الإيرانى الرئيسى، فارتخت قبضة إيران ولم تستطع مساندة بشار فى مواجهة زحف التنظيمات الإسلاموية، كما أن روسيا المنهكة فى أوكرانيا قررت هى الأخرى التخلى عن مساندة حكم بشار لأحد أمرين، أولهما الحفاظ على قاعدة طرطوس الروسية على سواحل سوريا والثانية ربما لحصد تسويات مهمة بدعم أمريكى وأوروبى فى أوكرانيا، وعزز ذلك أيضا ضعف وهزال الجيش السورى الذى يقتات على فتات السلطة، وأنهكته المقاومة لأكثر من عقد من الزمان، وبفضل مباركة أمريكية معلنة لهيئة تحرير الشام، والتى أيدتها أمريكا بديلا وعوضا عن مشروع تمكين الإخوان فى مصر، هنا سقط بشار الأسد بتخلى الحليفين وانسحاب جيشه، وكتبت النهاية لحكم استبدادى تخطى الخمسين عاما لسوريا، الذى انتهك كل قواعد السياسة والحرية وحقوق الإنسان، فى تحد صارخ لآدمية الشعب السورى العظيم.
أفرز سقوط بشار وفراره إلى روسيا، تاركا قادته ورجال حكمه إلى روسيا، ظهور الزعيم الجديد أحمد الشرع وامتطاؤه وسائل الإعلام الأمريكية فى دعم سافر ومحاولة لتبييض وجهه الذى عفره ماضيه الإرهابى، إن هذا الوجه الرقيق لمحمد الجولانى «نجم تنظيم القاعدة وداعش سابقا وهيئة تحرير الشام حاليا» فى حواراته التليفزيونية ليس هو وجهه الوحيد، فقد خبرنا القاعدة وكوادرها فيما قبل، وخبرنا أيضا قواعد المسكنة والتمكين!
نحن أمام انتصار لـ«المعارضة الإسلاموية المسلحة» فى سوريا بديلا عن المعارضة المدنية، حيث استطاعت أن تحصل على «غطاء رضائى» من القوى الدولية العظمى وجانب من القوى الإقليمية، لذلك نحن أمام تغير «جيوإسلاموى» خطير يهدد الوطن العربى بالعدوى.
إن مستقبل سوريا فى مهب الريح مما يستتبعه مستقبل مضطرب للوطن العربى، ومستقبل مكفهر للهلال الشيعى أو محور المقاومة طبقا للشعارات القديمة، فسيطرة «هيئة تحرير الشام» السنية على سوريا تكتب نهاية لشهر العسل لإيران فى سوريا، كما أنه أيضا يقطع خط الإمداد والتسليح لحزب الله عبر الأراضى السورية مما يضعف جبهه إيران بشكل موجع ويقلص تواجدها فى سوريا ولبنان معا، وعلى الوجه الآخر نرى نفوذا متزايدا لتركيا فى سوريا عبر مساندة أحمد الشرع فى القطاع السنى وإحكام القبضة التركية على الأراضى السورية التى يسيطر عليها الأكراد، وتبقى إسرائيل طرفا يحدد معادلة الولاءات والانتماءات لنظام سوريا الجديد بتفاعلها وتعاملها مع الجولان وسوريا الداخل ومقومات الجيش السورى، حيث تنفذ إسرائيل عمليات يومية لقطع كل أذرعه من تسليح وتجهيزات ميدانية!
إن معادلة الشرق الأوسط والأمة العربية بالكامل فى حالة تهديد مباشر، ومصر فى قلب الأمة والشرق الأوسط وأساس تلك المعادلة،
لذا وجب علينا الآن الانتباه واليقظة فى «مصرنا» أمام أى محاولة لشق الصف أو صرف الانتباه عن الهدف الأعلى وهو استقرار مصر، فكل فصيل سياسى الآن عليه اليقظة لأن استقرار الداخل يصعب تماما أطماع الخارج، وعلينا جميعا أن نعمل جنبا إلى جنب ويدا بيد مع النظام السياسى فى لحظات الخطر الكبرى، والتى تمثلها الآن كل الأحداث فى المنطقة العربية والشرق الأوسط.
كما أنه من إجراءات الوقاية وصيانة أمن مصر أن نستوعب ضرورة الاستمرار فى تطبيق آليات ومظاهر الانفتاح السياسى الواجب إتاحته لـ«المعارضة المدنية» وفتح المجال العام، وتعزيز قوى المجتمع الداخلية، ببسط قواعد الأمان والثقة، مع اليقظة الواجبة فى مواجهة أذرع التيارات الإسلاموية فى مصر، وعدم التزحزح عن معادلة صيانة أمن الوطن والمواطن وحريته.