رغم ضبابية المشهد في سوريا، بعد أيام من سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، إلا أن ثمة حالة من الاستقطاب، باتت تستهدف الدولة، تجاوزت في جوهرها الحالة الإقليمية المحدودة، نحو نطاق دولي أكثر اتساعا، وهو ما يمثل تحديا كبيرا في ضوء مرحلة انتقالية، تشهدها البلاد، ومخاوف كبيرة جراء فوضى محتملة، مع تدخلات مباشرة في الشأن الداخلي، تحمل في جزء منها بعدا عسكريا، في إطار الهجمات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي السورية، من جانب، وأبعاد أخرى سياسية، في إطار غطاء من الحماية تضفيه قوى دولية وإقليمية للاعبين مؤثرين في المعادلة السورية، ربما على رأسهم هيئة تحرير الشام نفسها، والتي سيطرت على الأمور ميدانيا في الداخل، بعد سقوط النظام، من جانب آخر.
التشابك في المشهد السوري، لا يقتصر في أبعاده على مجرد الصراع بين الأطراف الفاعلة في الداخل، وما قد ينجم عن ذلك من فوضى قد تصل إلى حد الصراع والاقتتال، حال تصاعد النزعة الانتقامية دون احتواء، وإنما كذلك في تعددية الأطراف الدولية المتصارعة، في الداخل السوري، والذي شهدت بالطبع تحولات عميقة، حتى في إطار المشهد العالمي، بصورته الأكبر، إلى الحد الذي تحولت فيه دمشق إلى أحد ساحات المواجهة الدبلوماسية المباشرة بين روسيا وأوكرانيا، في ضوء رغبة الأخيرة في إحراز تقدم في إطار ما تحظى به من دعم دولي، خاصة وأنه لم يكن دعم نظام الأسد لموسكو خافيا على أحد.
حالة الاستقطاب على سوريا ربما ليست جديدة، حيث كانت محلا لذلك لعقود طويلة من الزمن، تحت إدارة النظام السابق في إطار الموالاة لقوى إقليمية بعينها تحت شعار الممانعة ومقاومة الاحتلال تارة، ثم الولاء لقوى دولية على خلفية دعمها في الحرب على الارهاب، بعدما سيطر تنظيم داعش الارهابي على مساحة من الأرض لإعلان دولته المزعومة، تارة أخرى، لتخرج الدولة مرحليا من أزمتها التي ضربتها خلال العقد الماضي، ليس فقط مهلهلة إثر الحروب والصراعات التي نهشت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، وانما أيضا تعاني حالة من الارتباك الدولي، إثر العجز عن اتخاذ مناحٍ جديدة في إدارة علاقاتها مع العالم الخارجي، في الوقت الذي لم تجد فيه مفرا من مواصلة ولاءاتها، لتعجز تماما عن استغلال العديد من الفرص المتاحة للاندماج مع حالة إقليمية شهدت انسجاما نسبيا، خلال سنوات ما قبل العدوان على غزة، كانت المصالحات بين القوى الفاعلة في الاقليم أهم ما ميزها.
ولعل أبرز الفرص التي تتبادر إلى الذهن والتي أضاعها نظام الأسد، كانت العودة إلى عضوية جامعة الدول العربية، بعد أكثر من عقد من التجميد، في انعكاس صريح لحالة من الانفتاح العربي، حيث واجهتها حالة من الانعزال السوري، ربما فرضته ظروف الداخل، أو حالة الجمود التي انتابت النظام والتي أعاقته عن إحداث تحول في إدارة السياسة الخارجية، واستغلال الزخم الناجم عن التغييرات الكبيرة سواء في المشهد الاقليمي أو المشهد الدولي الأكبر، وما ينبغي أن يترتب على ذلك من عقد الشراكات وتنويعها بعيدا عن سياسة الأحلاف التي عاف عليها الزمن، وهو ما يبدو في العديد من النماذج الدولية الكبري، على غرار الخلافات العميقة التي باتت تضرب أعتى التحالفات الدولية، وعلى رأسها ما يسمى بدول المعسكر الغربي.
المشهد الدولي الحالي تجاه دمشق متكررا، وإن اختلفت الأدوار، وتبقى الكرة بين أقدام السوريين، فإما الانتصار لبلادهم أو مواصلة سياسة "دفع الفواتير" وتقديم فروض الولاء والطاعة لأصحابها، للحصول على قدر من الحماية، التي ستبقى مدفوعة الاجر من مقدرات وحقوق الشعب السوري وسيادة دولته وربما تنال أيضا من وحدة أراضيه، بينما ستبقى في الوقت نفسه حماية مؤقتة مرهونة بتغيير الظروف، على غرار مشهد النهاية من قصة الأسد، في حين يبقى المواطن هو الخاسر الأكبر في ظل ما يلاحقه من تهديد.
الفرصة مازالت سانحة أمام السوريين، خاصة مع المبادرات المقدمة لهم، وأحدثها اجتماع العقبة، والذي يعكس دعما عربيا لإنجاح المرحلة الانتقالية والتي ينبغي أن تقوم في الأساس على احترام ما يحظى به المجتمع السوري من تنوع، وهو ما يرتبط في أحد جوانبه بسياسات دمشق الخارجية، بحيث لا يسمح الوضع الداخلي لاستقطاب قوى خارجية للتدخل في الشؤون الداخلية، أو العكس، فلا تسمح سياساتها الخارجية في إثارة النعرات الطائفية أو العرقية، لتصبح الخطوة العربية في ذاتها بمثابة فرصة مبكرة للداخل السوري للانفتاح مجددا على محيطه الدولي والاقليمي إذا ما أراد الاستقرار، في لحظة تبدو فارقة، في تاريخ المنطقة بأسرها، في ضوء ما تشهده من مستجدات متسارعة، وتطورات كبيرة، باتت تحمل تداعيات تتجاوز الإقليم الجغرافي، نحو آفاق عالمية ودولية أوسع
وهنا يمكننا القول بأن الاختيار الذي يواجهه السوريون في اللحظة الراهنة، يدور حول ما إذا كان يرغب في الدوران في نفس الفلك الذي دار حوله الأسد ونظامه، دون تغيير، سوى في هوية الولاءات، مما يضعه في نفس دائرة الاستقطاب، التي تساهم في تقويض دورهم، وربما تضعهم على محك الصراع، جراء التداخل والتشابك الكبير بين أطراف المعادلة السورية، ومصالح قوى دولية وإقليمية أخرى، أو تغيير النهج نحو التحصن بشراكات مؤثرة من شأنها تعزيز دمشق ودورها، على المستوى الإقليمي، وبالتالي استعادة مكانتها كقوى رئيسية في المنطقة.