ستكونُ الهُدنةُ فى غزَّة عملاً يُكافئُ إسقاطَ نظام الأسد؛ لا على معنى أنَّ نتنياهو يُشبِه الجولانى فى نزعتِه الثوريَّة، وإن كانا مُتشابِهَيْن فى الخلفيَّة شديدة اليمينية، ولا لرغبةٍ فى المُطابقة بين حزب البعث وحركة حماس، أو تذويب الفوارق بين شُموليَّة الحُكم القومى واستبداد المُقاومة الدينية؛ إنما وَجهُ التلاقِى أنها خطوةٌ على طريق الخروج من أوهام الماضى، وتحرير القضايا الكُبرى من وصاية مُمثِّليها الصِّغار.
تُدورُ المُحرِّكات على أقصى سُرعة، والمُؤشِّرات كُلُّها تُرجِّح أنْ يتحقَّق الاتِّفاقُ على وَقف الحرب فى غضون أيَّام، أو عدّة أسابيع على الأكثر. إسرائيلُ لم تَعُد لديها حاجةٌ فى القطاع؛ بعدما مسحَتْه تقريبًا عن وجه الأرض، وأعادت البشرَ والحجرَ والفصائلَ نفسَها عقودًا للوراء، أمَّا الغزِّيون فقد فاضَ مِكيالُهم، وليس فى قوس الصبر مَنزع. وقد أسفرت المُغامراتُ الهائجةُ عن وجهِها الكالح، ولا بديلَ لدى الفاعلين عن الاعتراف بالواقع الثقيل.
النقاطُ التى رفضَها «السنوار» قبل شهور، سيقبَلُها ورثَتُه الآن. الفارقُ الوحيد أنَّه أُلحِقَ بأكثر من خمسةٍ وأربعين ألف شهيد، وما اشتغلَ الحماسيِّون على مُراكمتِه طوالَ العقدين الأخيرين، تبدَّد كأنه لم يَكُن. لكنَّ هذا ليس المُتغيِّر الوحيدَ، أو الحاكم فى المشهد الراهن. ومن دون التطوُّرات الإقليمية المُحيطة؛ فلَرُبَّما كان سيتعذَّرُ عليهم الوصول إلى تلك القناعة الآن، أو فى غدٍ قريب.
صِلةُ ذلك بسوريا؛ أنَّ الأخيرة، من حيث أرادت أو لم تُرِد، كانت عاملاً فاعلاً وراء تصليب مواقف القيادات الحماسية، وتشدُّدها فى الخيارات على المدى المرصوف بالدم والأشلاء منذ «طوفان الأقصى» حتى الآن.
صحيحٌ أنها لم تتقصَّد ما آلَتْ إليه الأحوالُ؛ إنما لم تَكُن على استعدادٍ للاعتراف بالهزيمة مُبكِّرًا، وإنقاذ ما تبقَّى من الأُصول قبل أن تطالَه يَدُ البطش الصهيونية، فضلاً على الثقةِ الزائدة لديها فى حُلفاء المُمانَعة، وما قد يتَّصل بعلاقتِهما من مُحدِّداتٍ صارمة، أو إملاءاتٍ يتعذَّرُ تخطِّيها بإرادةٍ فرديَّةٍ خالصة.
خُدِعَتْ طهران على الأرجح فى الضربة الافتتاحيَّة، وقرَّرت من بَعدِها ألَّا تترُكَ الحَبْلَ على الغارب. ولم يَعُد مَحلَّ شَكٍّ الآن؛ أنَّ يحيى السنوار ربما اتَّفق معها على عمليَّة حماسيَّة تُلاقيها أنشطةٌ من بقيّة أذرع المحور، لإحكام طَوق النار؛ وعندما تباطأ الشُّركاء أو تقاعسوا، اتَّخذ زمامَ المُبادرة منفردًا، ليضعَهم أمام الوقائع وحقائق الأرض. ولعلَّ هذا كان أوَّل عهدٍ له باستقلاليَّة القرار، وآخره أيضًا.
فى المحطَّات التالية، أُبرِمت هُدنةٌ وَقتيًّة ضيِّقة بعد أسابيع القتال الأُولى، كان القصدُ منها استكشاف الأرض بين الغَرِيمَين المُتحارِبَين، وتطمين كلٍّ منهما لجَبهتِه، وربما توظيف الشارع فى الضغط على السُّلطة هُنا وهناك.
والإشاراتُ اللاحقةُ لم تُفصِح عن قبولٍ إيرانىٍّ للخطوة، ولا تحفيزٍ على تكرارها؛ بل وُجِّهَتْ رسائلُ مُضادَّةٌ للتهدئة على صيغةٍ صريحة؛ كان أبرزها من خلال المُرشِد الأعلى شخصيًّا.
حسبةُ الحرب بُنِيَتْ على اعتباراتٍ محليَّةٍ وعابرةٍ للحدود. أُرِيْدَ استغلالُ مشهد الاحتدام السياسىِّ فى إسرائيل، على خلفيَّة خطَّة الإصلاح القضائى، وتصاعُد المُعارضة المدنيَّة لسياسات حكومة اليمين بجناحَيْها القومىِّ والتوراتىِّ، بجانب إفساد مُحاولات التطبيع المُتصاعدة وقتها مع الرياض، ووَضْع المنطقة فى عين العاصفة قبل شهورٍ من سباق البيت الأبيض؛ لكنَّ الغايةَ المقصودةَ لم تَكُن واضحةً فى أذهان أصحابها، ولا عند أيَّة نقطةٍ يُمكِنُ التوقُّف وتجيير المكاسب، أو التثبُّت والاعتراف بالخسائر!
الافتراضُ حِينَها أنَّ تلَّ أبيب مشغولةٌ فى صراعاتِها الداخلية، وواشنطن مَشدودةٌ إلى النزاع مع موسكو فى أوكرانيا، وإيران وقَّعَتْ اتِّفاق تهدئة مع السعودية فى بكين، ويُمكِنُ أن تقطعَ طريقَها نحو تلِّ أبيب دون حساسيةٍ أو إساءة ظَنّ. كما أنَّ «حزبَ الله» يبحثُ عن ثغرةٍ للنفاذ من حال الانسداد السياسىِّ، وتطويع بيئتِه الطائفيَّة المُعقَّدة؛ بعدما تعذَّر عليه أن يُروِّض الخصوم أو يقهرهم؛ ليفرِضَ مُرشَّحَه الرئاسى على قصر بعبدا.
سوريا كانت فى القَلب من كلِّ التناقضات. إنها عضوٌ أصيلٌ فى تيَّار المُمانَعة؛ بل أبوها الشرعىّ وأشطر تُجَّارها العاطفيين، منذ تجربة جبهة الصمود والتصدِّى عندما كان هواها عربيًّا، ونكهةُ البَعثِ فيها تطغى على رائحة العَلَويّة المُلتحِقَة بالقطار الصَّفَوىِّ المُعَمَّم بقماشةٍ سوداء.
وإلى ذلك؛ فإنها أيضًا ميدانٌ يتلاقى فيه الرُّوس والأمريكيون، ولا ينقطعُ اشتباكُه مع الاحتلال، أو بالأحرى اشتباكُه معها، وهى المَعبرُ الذهبىُّ للسلاح والإمداد اللوجستى من الجمهورية الإسلامية لوكيلِها اللبنانىِّ.
نأى «الأسدُ» بنفسِه عن الصراع الأخير منذ بدايته. لم يَلتحِقْ به كما أراد الحُلفاء، ولا كان قادرًا على لَجْم الرُّعاة أيضًا. اتُّخِذَت سوريا ميدانًا جانبيًّا لحسم المواجهة المفتوحة فى الجغرافيا والزمن، ودفعَ النظامُ فواتيرَ الجولة كاملةً؛ ولو لم يَخُضْها بالأصالة والقَصد.
سحبَ حسن نصر الله مُقاتليه، مُقدِّمًا الذات على الصديق، و«الضاحية» على دمشق، واكتشفَتْ طهران أنها عاجزةٌ عن حماية نفسِها فى الشام، ولم تَعُد تجنى شيئًا من حمايتها للسُّلطة الأسديَّة المُتداعية.
توحَّشَ نتنياهو، وتشجَّعتْ ميليشيات إدلب ومَنْ يَقفون خلفَها، وتحقَّقت «وحدةُ الساحات» للمرَّة الأُولى والأخيرة، لا كما تصوَّرها قاسم سُليمانى وخَطَّط لها؛ إنما عبر رُؤيةٍ ليكوديَّة تجمعُ البيضَ كلَّه فى السلَّة، تمهيدًا لتهشيمه بضربةٍ واحدة.
ولا أقصدُ القَول، تصريحًا أو بالتلميح، إنَّ «الجولانى» وعصبتَه المُتشدِّدة كانوا يعملون لصالح الاحتلال. صحيحٌ أنه يأتى بإسنادٍ من مُحتلٍّ قريب؛ لكنه لا يُمكِنُ أن يكون على وفاقٍ مع غريمه البعيد.
ما حدثَ كان استحقاقًا مُؤجَّلاً لثلاث عشرة سنة؛ لكنَّ شُروطَه استوفِيَت على إيقاع الطوفان، وبأثرِ الخِفَّة المُهيمِنَة على التعاطى معه، واستيعاب ارتداداته، والرهان باللحم والعَظْم على أهدافٍ تكتيكيَّة واستراتيجيَّة غائمةٍ، وبمَعزلٍ عن السياق الجيوساسىِّ فى المنطقة والعالم، وعن الخلل الفادح فى مَوازين القُوى.
تراجَعَتْ الجمهوريَّةُ الإسلاميَّة عن وُعودِها لفصائل غزَّة، وكرَّرت المسألةَ مع حزب الله، دُرَّة التاج وأثمن استثمارات مشروع الشيعيَّة المُسلَّحة ودفاعاتها المُتقدِّمة. و«الأسدُ» فى غيبوبته لم يقرأ الحوادثَ وتطوُّراتها، وظَلَّ مُحافظًا على ثقتِه فى الحرس الثورىِّ، بأكثر مِمَّا يَثِقُ فى جيشه ويُراهِنُ عليه.
وإذا فوَّتَ فيضَ الدروس المجَّانية من خريف العام الماضى، إلى اغتيال هنيَّة ونصر الله وتصفية السنوار؛ فالتطوُّر الطبيعىُّ أنْ يَهرُبَ على مَتنِ طائرةٍ رُوسيَّة، ليكون مَشهدُه الأخيرُ خاتمةً للُعبةٍ تفوقُه حجمًا، تمدَّدت حَوالَيه حتى أكلَتْ عرشَه وقوَّضَتْ سُلطاته، ووضعَتْه أمامَ الحقيقة الصادمة؛ بأنه كان أداةً لا شريكًا.
قدَّم المحورُ الشيعىُّ نفسَه مندوبًا عن القضايا العادلة؛ لكنه كان ينتفعُ منها ولا يُضيف إليها؛ بل ربما أساءَ وعَتَّم عليها وأضرَّها بالتلويث والتحوير. التزاماتُه تجاه فلسطين كانت تُوجِبُ عليه أن يُرَشِّد خيارات حماس، أو أن يدعمَها للنهاية وخارج الحسابات النفعيَّة. وعلاقتُه بالضاحية الجنوبية لا تسمحُ مُطلقًا بدَفعِها فى النار، ثمَّ الوقوف المُحايد على أطراف المحرقة.
كانت الخُطَب تستعرُ هُنا، والترضياتُ تتواتَرُ من طهران: رسائلُ سِريَّة وعَلنيَّة، ولقاءات من وراء الظهر مع الشيطان الأكبر، وإخطارات مُتبادَلة تَسبِقُ الصواريخ بين تلِّ أبيب وطهران. يُنفَخُ فى هياكل الميليشيات الرَّدِيفة، بينما يتحدَّثُ الملالى عن الصبر الاستراتيجى، وعندما تتضخَّمُ مَرارتُه فى الحُلوق، لا يستنكفون الانسحابَ تحت شعار «التراجُع التكتيكىِّ».
إنهم يفعلون عكسَ ما يُجبرون الآخرينَ عليه، أو ما يرفضون منهم مُجرَّد التفكير فيه، ومداولته فى الصدورِ ومع إخوة الوطن، وتلك صِيغةُ استتباعٍ لا شراكة، وإدخالٌ فى أدوارٍ وظيفيَّة مُوجَّهة، وليست عملاً ائتلافيًّا مُنسَّقًا بنديَّة كاملة، وعلى أهدافٍ قِيَميَّة صافية.
لم يَكُن نتنياهو وافدًا جديدًا، ولا زائرًا بعد غيابٍ طويل. يَحكمُ الرجلُ دولتَه النازيَّة لنحو خمس عشرة سنة مُتَّصلة تقريبًا، باستثناء ستَّة فصولٍ انقضَتْ قبل عامين. لا يُمكِنُ تبريرُ المُغامرة بحُسنِ الظنّ، ولا بإبداء الدهشة مِمَّا بلغَتْه الوحشيَّةُ الإسرائيلية؛ كأنَّ عهدَ الفلسطينيين معهم أنهم يفرشون لهم الأرضَ رَملاً، أو يقصفونهم بالوَرد من فوَّهات المدافع.
كان صاحبُ «الطوفان» عالمًا بردّة الفِعل؛ ربما أعدَّ عدَّتَه لقافلةٍ أقصر من النعوش؛ لكنه كان يتيقَّن من الكُلفة الباهظة، ويُراهِنُ بها لأجل مصالحَ شتَّى؛ أقلّها يخصُّ القضية، وأكثرها ينصرفُ لفائدة الأيديولوجيا والمحور اللصيق.
أهميّة الهُدنة هُنا، ومن دون التقليل إطلاقًا من الخسائر المُوجِعَة، أنها تضعُ نقطةً فى آخر سَطر المُزايدة الأُصوليَّة ومشاريعها الحارقة. تُحرِّرُ الأرضَ فيما بين النهر والبحر من احتلالٍ مُراوغ، ولو بَقِيَت فى محنتها الطويلة مع المُحتلّ الظاهر.
لقد سُرِقَتْ القضيَّةُ من أصحابها تحت رايةٍ إخوانيَّة، ثمَّ نُقِلَتْ المِلكيَّةُ للشيعيَّة المُسلَّحة، وصارَتْ المسألةُ مُعقَّدةً بين عَدوَّين لا يختلفان عن بعضِهما: تهويد أو تشييع، وكلاهما يتقصَّدُ الإلغاءَ، خَشِنًا أو ناعمًا.
وسابقةُ الحال فى لبنان وسوريا والعراق واليمن تُفصِحُ عن المآل، وتُبشِّرُ بالصيغة المُقترَحَة بديلاً عن الاستيطان الصهيونىِّ، أكان بتَطيِيف الأرض وتمزيعها، أم بتَطويع البشر واستعبادهم تحتَ ظِلَّ السلاح المُقدَّس.
لن يَرُدَّ الاتِّفاقُ ما خسِرَته غزَّة حجرًا وبشرًا، ولن يُقصِّر رحلةَ التعافى التى قد تأكلُ أعمارَ جِيلَيْن أو أكثر؛ لكنه سيُجبِرُ المنكوبين جميعًا على النظر إلى الداخل، ويُعيِدُ الاعتبارَ للطاولة الوطنيَّة المُضَيَّعة بين مُتصارِعِين على لا شىء.
استعجلَ الفلسطينيِّون صراعات السُّلطة، قبل أن يَستولِدوا دولتَهم المأمولةَ من العَدَم. وهُم الآن أُمثولةٌ مأساويَّة حاضرة أمام الجولانىِّ، بقَدر ما هو نفسُه دَرسٌ عَمَلانىٌّ مُتجَدِّدٌ عَمَّا أصابَهم سابقًا؛ وما زال يُلاحقهم ويُهدِّد مسيرتهم المُرتبكة. يَكسبُ هناك بخسارة المُمانَعة، ويخسرون هُنا، والفارقُ رغمَ تطابُق الأيديولوجيا أنه استعان على العدوِّ ببيئته، بينما استعانوا على بيئتِهم بالعدوِّ.
قد يُخلِفُ قائدُ دمشق الجديدُ الظنونَ، ويُحقِّقُ انتقالاً مِثاليًّا تتشوَّق إليه سوريا، وقد يتعثَّرُ فى أطماعه وإملاءات مُشَغِّليه؛ لكنَّ القانونَ لن يَنكَسِر: الإجماعُ أوَّلاً، والحاضنةُ اللصيقةُ ضرورةٌ لا بديلَ عنها، ولا تُعوِّضُها الثِّقةُ المُتضخِّمة فى النفس، أو الإسنادُ الظرفىُّ المُتضائل من الخارج.
الحربُ إلى زوالٍ فى آخر المطاف، أو على الأقل ستنطفِئُ مُؤقَّتًا. برَحيل «الأسد» أو بقائه كان اتِّفاقُ غزَّة سيُبرَم حتمًا، و«حماس» ستُغادرُ المشهدَ فى القطاع مَرحليًّا أو بصورةٍ دائمة. الفارقُ أنَّ استدامةَ نظام البعث فى صورته المُهلهَلَة كانت ستسمحُ بتثبيت خطوط الإمداد نحو لبنان، ومنه للضفَّة الغربية بطريقةٍ أو أُخرى، وكان الحزبُ سيعتبرُ أنه فى هُدنةٍ اضطراريّة مُؤقَّتة؛ لالتقاط الأنفاس وتحضير الجولة المُقبلة.
والفصائلُ بدَورِها ستحفظُ الحَبْلَ السُّرىَّ الرابطَ مع المُمانَعة، وتتشجَّع أو تُدفَع لإنفاذ أجندة الآخرين لاحقًا. أمَّا الآن؛ فقد أصبح المحورُ طَللاً، وعاصمتُه معزولةً عن الأطراف، والضاحيةُ مُجبَرَةً على الالتحام ببيروت، والانضواء تحت راية الدولة وميثاقية الطائف، و«حماس» وأقرانها لا مخرجَ لديهم إلَّا منظمة التحرير، والتلاقِى على أجندةٍ وطنيَّة، تتصارَعُ أو تتوافَق؛ لكنها تحتكمُ لمَنطِقِها الذاتىِّ، وحسابات المَنافع والمَضار حصرًا، ومن دون حَرْفٍ أو توجيه.
انتفعَتْ «هيئةُ تحرير الشام» من الطوفان الغزَّاوى، ومن جهةٍ غير مُباشرة تُعينُه اليومَ على لَملَمَة ما تبقَّى من أمواجه. الانشغالُ بسوريا مثلما يصرفُ النظرَ عن مأساة القطاع؛ فإنّه يُعبِّدُ الطريقَ لإنجاز التهدئة المُعطَّلَة قصدًا من جانب نتنياهو وعصابته.
بالنسبة لزعيم الليكود، فقد خَفَّت الضغوطُ عليه، وفتحَ جبهةً بديلةً من ناحية الجولان، وما يزالُ نَشِطًا فى جنوبىِّ لبنان. وإن كان يُحضِّرُ لعملٍ مُباشرٍ ضد إيران؛ فإنَّ عليه أن يُغلِقَ دفاترَه القديمة، ويُقدِّمَ شارةَ الإطفاء لترامب؛ عَربونًا قبل دعوتِه للتأجيج فى ساحةٍ بديلة.
تُعرَّفُ السياسةُ فى الكون كلِّه على أنها فَنُّ المُمكِن؛ لكنَّ الأُصوليَّة الإسلاميَّة، والنكهةُ الشيعيَّةُ منها تحديدًا، تُعرِّفُها بالمستحيل. وفى كلِّ الأحوال لا قيمةَ للنوايا أمام الوقائع، ويُلامُ على الخطيئة مَنْ ارتكبَها بنِيَّةٍ صافية أو مَشوبةٍ بالدناءة.
هذا قطعًا لا يَغفِرُ ذنوبَ الصهاينة وإجرامَهم فى كلِّ الساحات؛ لكنه يجعلُ الهُدنةَ بشُروطِها القاسية، أقربَ إلى اعترافٍ من جانب الفصائل، وتكفيرٍ إجبارىٍّ عن جنايتهم على أنفسِهم أوَّلاً، شعبًا وتنظيمات، وعلى الأيديولوجيا التى انتدبوها لمُحاربة خصومهم جميعًا، القريب قبل البعيد؛ فتفجَّرت فى وُجوههم على غيرِ توقُّعٍ أو احتراز.
الفخُّ ذاتُه ما يزالُ محفورًا فى الشام، ويفتحُ فكَّيه على البيئة كلِّها حُكَّامًا ومَحكومِين. السُّلطةُ الجديدةُ ورثَتْ نظامًا وضعَ الفكرةَ فوق الوطن، والشخصَ قبل المجموع؛ فقادَه السلوكُ الاختزالىُّ إلى مُعايرة المصالح على ميزانٍ صَدِئ، وتفسير الهزيمة والنصر بالهَوَى لا الحقائق.
الفَرزُ استَدْعَى الاستبعاد، والذاتيَّةُ أبعدَتْ الموضوعيَّةَ جانبًا، وفُوجِئ فى آخر المطاف بأنه ما خدمَ نفسَه، ولا فازَ بعناية حُلفائه للنهاية، وقُيِّدَت أرصدتُه لحساب الأعداء. وأسوأُ ما يُمكِنُ أن يرتكِبَه وَرَثتُه الآن، أن يُنظَرَ للجُغرافيا والديموغرافيا من حَدَقة عين الجولانىِّ وحده.
الأخطرُ أن يُستعاضَ عن التطرُّف فى الحنجورية والقوميّة والمُمانَعة، بالتطرُّف فى الشعبويَّة والأُصوليَّة والمُهادَنَة، ويُستبدَلَ بإنكار الوحشيَّة ادعاءٌ للطُّهرانية، وبالوصاية السياسيَّة وصايةٌ أخلاقيَّة، وأنْ يتحصَّنَ بالاستبداد واحتكار المشهد كما كان من سابقه: شرعيَّةٌ يحميها سلاحٌ مُقدَّس، بدلاً من أُخرى كانت تحرسُها حناجرُ مُذخَّرةٌ ببارود الكلام.
دونَ أىِّ طعنٍ فى النوايا، أو خَصْمٍ من حقِّ المُقاومة المشروع، كان «طوفان السنوار» فكرةً انتحاريَّة كاملة، بغَضِّ النظر عن طريقة التنفيذ، ولا فارقَ بين استفزاز العدوِّ بالنار، أو استنفاره بالفتنة والتنازُع.
برَّرتْ تلُّ أبيب عدوانَها الأخيرَ بعد رحيل الأسد؛ بأنها تُؤَمِّنُ نفسَها، وتتحسَّبُ من وُصول السلاح لأيدى الميليشيات. والحال أنها تعرفُ دقائق الأرض، وبالتأكيد تلقَّت تطميناتٍ من قادة المرحلة والواقفين خلفهم.
والمعنى؛ أنَّ الضربةَ عملٌ على المستقبل لا الحاضر؛ كأنها تستشرفُ صِراعًا أهليًّا بين الحركات الفاعلة فى المشهد، وتحرِمُ أطرافَه المُستقبليِّين من امتلاك قوَّة الحَسْم، بما يضمنُ إدامتَه عندما يقعُ، ويُطوِّرُه بمجرَّد اندلاعه إلى استنزافٍ مفتوح، إن لم يَنتَهِ إلى التقسيم المادىِّ؛ فعلى الأقل سيُحقِّقُ آثاره المعنويَّة، ويقودُ وُجوبًا لتسييل الخريطة، وإبقائها تحت رحمة الاعتلال الدائم.
ليَقُل الجولانى ما يَعِنُّ له؛ إنما العِبرةُ بالأفعال. «الأسدُ» تاجرَ بالعروبة أكثرَ مِن غيره، وخانها كما لمْ يَخُنْها شخصٌ آخر. و«حماس» زايدَتْ على الجميع بالقضيَّة، وأوردتها مواردَ التهلكة بالعشوائية والاستخفاف.
نزل سيِّدُ دمشق الزائل على شرط السلاح، وستنزلُ الحركة اليومَ أو غدًا على مُقتضيات الهُدنة، وحليفُهما المُشترَك يلعقُ جراحَه، ولا يُبدى شعورًا بالندم أو الأسف، ولا بأنه فى حاجة للاعتذار، واسترضاء طوابير الضحايا.
قادةُ الشام الجُدد مَدعُوّون لاستيعاب كُلفة المُغامرات الخَطِرَة، والبُعد بكل السُّبل عن تكرارِها. و«رام الله» عليها واجبُ الإصلاح الذاتىِّ أوَّلاً، ثمَّ التصدى للواجبات الوطنيَّة الحالّة دون جَشعٍ أو تخوين.
العدالةُ الانتقالية مَطلوبةٌ على الناحيتين؛ إنما يجبُ ألَّا تصلَ إلى المُكايدة والتشفِّى، أو التناحر البَينىِّ وإعانة الآخرين على أنفُسِهم.
مُصالحةُ سوريا تفرِضُ الاستيعابَ، وكذلك فى لبنان وفلسطين. لا يَصِحُّ احتلابُ مَرارَات الماضى، ولا أن يُدفَع أطرافُه لتلتَصِقَ ظُهورُهم بالجدار. العَلَويِّون وكثيرٌ من البعثيِّين ليسوا أشرارًا بالتأكيد، والحزب وحماس والجهاد فيهم الصالحُ والطالح.
لقد خَسِروا جميعًا معاركَهم؛ وإن أنكَروا. عليهم الاعترافُ والمُراجعة والتقويم، وعلى وارثيهم الاحتواء والغفران. كان «الطوفان» رصاصةً صديقةً أصابَتْ أكبادَ مُطلقيها؛ لكنه انقضى، ولا ينبغى إطالةُ الوقوف على أطلاله.
لحيةٌ فارسيَّةٌ بيضاء أورثَتْ المنطقة خرابًا عَميمًا، ولن يُرَمَّم فى أجلٍ سريع، وعلى اللحى السوداء فى بيئات الموت والنَّزْف المفتوح أن تَتّعِظَ، وتتواضَعَ قليلاً أمامَ الزمن وفروضِه، وأن تجلِسَ إلى حَلَّاقٍ يُهندِمُ أفكارَها الجارحة.
عدوُّ عدوِّى ليس صديقى بالضرورةِ، وهَدمُ البيت لا يُمكن أن يكون ثأرًا عاقلاً لسُكِّانه من مُغادريه، أو المُتنافسين عليه. لكنَّها البديهياتُ على ما جَرَتْ العادةُ، تتعثَّرُ طويلاً فى بيئة الشرق، وكثيرًا ما لا تجدُ مَنفذًا إلى أدمِغَتِه الساخنة.