ربما لا توجد لغةٌ يتيمة بين أهلها كالعربية. حصّتها من البشر قد لا تزيد على خمسٍ بالمائة، لكنها تشغل ضعف النسبة من تعداد الدول، وقرابة المِثل من مساحة الجغرافيا. أمَّا فى التاريخ فإنها لا تقلُ عراقة عن سابقاتها فى الترتيب.
هى الخامسة بين لُغات العالم الكُبرى، تالية للإنجليزية والصينية والهندية والإسبانية، وسابقة للفرنسية والبنغالية وغيرهما من بقية المعاجم الإنسانية. لكنها ربما تكون الأقل إسهاما فى الثقافة المعاصرة، وفى مُنجزات العلم والتحديث.
يحلّ يومها العالمى فى الثامن عشر من ديسمبر، منذ اعتمدته الأمم المتحدة فى أحد احتفالاتها بيوم اللغة الأم، بعدما أضافتها إلى قائمة لغاتها الرسمية. وإذا كانت مُقيَّدةً بمواقع ناطقيها على سُلّم المدنية والفاعلية الاقتصادية والحضارية؛ فإن أعباءها الناشئة عن تعقيدات الداخل، تفوق ما يُطوّقها من الخارج بكثير.
ليست المسألة فى أنها لا تستند إلى اقتصادٍ مُهيمن، ولا لقوَّةٍ عسكرية كاسحة، وليست لسان امبراطورية آفلة أو بازغة؛ إنما أن المنضوين تحت رايتها أقلُّ اقتناعًا بقدرتها على تمثيلهم، وبأهليّتها لأن تتقدَّم على مسار الراهنيّة والاستجابة لمُتطلّبات العصر.
تمدَّدت اللغةُ قديمًا تحت ظلِّ السلاح، عبرت مع الجيوش الغازية من شبه الجزيرة العربية شرقا وغربا، وحملها الأُمويّون إلى أطراف أوروبا وأعماقها. ما تزالُ بقاياها حاضرةً فى كثير من اللغات الحيَّة، ويسهل أن تتلمَّس شيئًا من مفرداتها وأُجروميّتها فى ثقافات مُعاصرة، بل إن لُغةَ دولة مالطا تكاد تتطابق معها فى البِنية والنحت والدلالات، وثمّة ظلال واضحة فى الإسبانية، وتأثيرات ليست عصيّة على الاكتشاف فى أنحاء عديدة من آسيا.
القوّة كانت السحابة التى مَشَت العربيةُ تحت حمايتها؛ إنما الثقافة كانت الهواء الذى تنفّسته بينما تتغلغل فى أرواح الآخرين، وتُعشِّقُ نفسَها بين نسيج هُويّتهم المنطوقة. وقتَها كانت المنطقة مُنتجةً للمعرفة؛ على الأقل من زاوية تصدير العقيدة الجديدة ومحمولاتها فى الفقه وعلومه، وفيما تصدَّى له العلماء الأوائل من جوانب الفكر العريضة، أدبًا وموسيقى واشتباكًا مع فلسفة الإغريق وتاريخهم.
والانقطاع الحضارى الذى أصاب المنطقة منذ انقسمت على نفسِها، وتبدَّد حضورها خارج الفضاء العربى الأصيل، هو ما أصاب اللغةَ ذاتَها فى الركائز الأساسية الداعمة لانتشارها، والمحفِّزة لتداوليتها بين أطياف البشر.
الاحتفال اليومَ ليس مُناسبةً للفخر بالماضى التليد، ولا فُسحةً للوقوف على الأطلال نحيبًا وتأسّيًا؛ إنما الواجب أن يكون فرصةً لإثارة الأسئلة التى تحاشيناها طويلا، والنبش فى قبور الإخفاقات السياسية والثقافية المُتلاحقة، دون إنكارٍ لمسؤولية المنطقة عمَّا أصاب لُغتَها، ولا انصرافٍ عن الاشتباك العميق مع المُسبِّبات والآثار؛ لأنه لا تتيسَّرُ مداواة الأمراض المجهولة، كما لا يُمكن أن يدخل العربُ فى العصر، ما لم تسبقْهم العربيَّةُ إلى دخوله، والالتحام العميق مع مكوّناته المُعقَّدة، وتبدُّلاتها التى لا تتوقَّف لحظة، ولا ترسو على حال.
جذرُ المشكلة البعيدُ هُنا، فى تُربة الاعتقاد. إذ بقدر ما استفادت اللغة من الدين؛ فإنها تضرَّرت أيضا. والفكرةُ باختصار؛ أنه جرى الربطُ بين اللسان والإيمان، واعتُبرِتْ العربيةُ جزءًا مُكمّلاً لحالة القداسة المُرافقة للنص وإنتاجاته، فتجمَّدت فى الزمن، وتوقَّف العمل على تحريكها وتطوير أبنيتها بالمنطق السيَّار مع بقيَّة اللغات.
والمعنى؛ أنها حُرِمَت من أثمن ما تُقدّمه التداولية اليومية، بحيث تأخذ وتعطى، وتتلاقَحُ مع بقيّة الثقافات والألسنة، وتصيرُ قادرةً على تطوير نفسها عمليًّا بما يستجيب للتحديات، ويقتدر على فهم السياق المحيط، وإعادة إنتاجه بمادة عربية حيّة وصافية.
فُهِمت مسألةُ حِفظ الذكر/ القرآن على نحوٍ خاطئ. فالنصُّ المركزىُّ يتحدَّث عن كفالة إلهيّة بمهمَّة العناية به والتحويط عليه؛ لكنها انتُتزِعَت من السماء لصالح الأرض، ومن سُلطة الرب لعُهدة البشر. وبطبيعة الحال اختُزِلَت فيما يقعُ بين أيديهم من إمكانات، وكان أوّلها مُصادرة الكتاب نفسِه فهمًا واستيعابًا واستخلاصًا للعِبَر والأفكار، ثمَّ تحنيط مادّته اللغوية لتصير مُكوِّنًا أصيلاً من عناصر الصيانة الواجبة.
أىْ أنَّ مركزيَّة المُعتَقَد أضرّت اللغة، عندما سيَّدت الفقهاءَ على العوام، وجمعت لهم سُلطةَ اللسان إلى جوار السُّلطة على الإيمان، وبات من يومِها إحداثُ أىِّ شىء فى العربية، صِنوَ الابتداع فى الإسلام، وكلُّ بدعةٍ ضلالة بطبيعة الحال.
الشاهد؛ أنَّ صدرَ التجربة الحضارية للعرب بوجهها الإيمانى، توحَّدت فيها علوم الدين مع علوم اللغة، واحتكر المُحدِّثون ومُنظِّرو الفقه ما اعتُبِرَ مسارًا معرفيًّا واحدًا. يَندُرُ أن تجد لُغويًّا لم يشتغل بالحديث أو السِّيَر، وما تفرَّع عليهما لاحقًا من تشريعٍ وقضاء واستنباط للأحكام.
حتى التاريخ صار وجهًا لتثبيت الفَهم الأوّل، وغُضَّ النظر اعتسافًا عن تعدُّد القراءات القرآنية فى مدلوله العميقة، بمعنى أنه تسامحَ مع اتِّساع أُفق اللغة وتراكب مستوياته، وقابلية للحذف والإضافة الضروريِّيَن بحسب اللحظة والسياق. كأنهم انطلقوا من الاتساع ليُقيِّدوه، ومن التعدُّدية إلى فرض اللون الواحد.
الآن؛ ربما انحلَّت قبضةُ المُؤسَّسات الدينية عن المُؤسَّسة اللغوية ظاهرًا، بينما فى الباطن ما تزال حاكمةً لها ومُتسلّطةً عليها. حتى الجامعات تُدرِّسُ العربيَّةَ فى أقسامها المُتخصِّصة، مشفوعةً بالعلوم الإسلامية أو مُلحقةً عليها، وتنظر إليها باعتبارها فرعًا من الأُصول الدينية، ومتحفًا مُقدَّسًا لا يصحُّ دخوله إلا مُتوضِّئًا. وهذا فى الأفضية المدنية مثلما فى الأزهر وغيره من الصروح الشبيهة.
حتى المجامع اللغوية الكُبرى، فى القاهرة ودمشق وغيرهما، لا تنظرُ للغة بمعزلٍ عن تاريخها القديم. وإن كان الماضى ثابتًا يتعيَّن الانطلاق منه؛ فالخطأ فى أن يكون حاكمًا، أو قيدًا على الوثبة اللسانية كلَّما هَمَّ الواقعُ بتحفيزها، أو وضعَ الناطقين أمام امتحاناته المُوجِبَة للمواءمة والتوفيق.
والقصد؛ ليس أن ينقطع فَهم العربية واستيعابها، ولا دَرسُها وإدخالها فى الحاضر، عن العُمُد الوطيدة التى بُنِيَت عليها، أو المَحاضِن الأصليَّة التى نفخت فيها الروح، وتعهّدتها سابقًا بالرعاية والإنماء.
العثرةُ فى أننا ننظرُ للغة باعتبارها آخر ما تبقَّى من المجد؛ ولأننا نتعالى على الاعتراف بأننا أبناءُ حضارةٍ غابرة، وعليها الاعتراف بالحقائق مع السعى لتجاوزها؛ فحال الإنكار تتحقَّق فى الصلابة اللغوية، كأننا من دونها سننجرف مع التيَّار، أو نغرق فى عالمٍ يُسيِّل الهُويات ويمزجها ببعضِها دون حدودٍ مراكز مُتكافئة.
والحق؛ أنَّ أخطر ما يتهدّد اللغة، ونحن من قبلها، ألا نكون قادرين على تطويعها بما يُغلِّب الليونة على الشدّة، ويضمن التجاوب الخلَّاق بدلاً من المقاومة القاسية؛ بحيث لا نُفاجأ إزاء التركيز على إبقائها بصورتها القديمة، أنها تنكسرُ وتتشظَّى بما يتلاءم غصبًا مع الصور المُستجَدّة.
يحتفلُ العالم بالعربية تقديرًا لواقعها الراهن، وأنها تُعبِّرُ عن حضورٍ مادىٍّ يُمثِّل نحو خمسٍ وعشرين دولةً تتَّخذها لغةً رسمية، وينضوى تحتها قرابةُ نصف المليار من المُتحدِّثين. الحفاوة ليست ناتجةً عن تُراثِها القديم، ولا عن مرحلة قدَّمت فيها تصوُّرا «قَرَوَسطيًّا» من الامبريالية التى لفظها العالم، نظريًّا على الأقل.
لا أحدَ خارج الدائرة يُشاركُنا فى تقديسِها، وقد لا يشعرون بالعظمة التى نراها فيها؛ إنهم يحترمون الناطقَ لا المنطوق، وسيزداد الاحترام كلَّما تقدَّم موقعُ الأوَّل، وهو بدوره كفيلٌ بأن يُقَدِّمَ الثانية بالتوازى معه؛ بينما لا يُمكِنُ أن تستشرى اللغةُ وتُوسِّع مداها بمعزلٍ عن البشر. باختصارٍ؛ نحن من نَحكمُ العربيَّة ونرعاها، لا العكس.
ولنَكُن مَنطقيِّين. أنا أحدُ الناطقين بها، وأحبّها قطعًا، وأحسب أننى مِمَّن يُجيدونها لدرجة التمكُّن الكامل؛ إنما لا أعبدُها، ويجب ألَّا يعبدَها غيرى. أراها عظيمةً ومُلهمَةً بحُكم الانتماء؛ ويفرِضُ علىَّ المنطقُ أيضًا ألَّا أراها الأعظمَ ولا الأكثرَ إلهامًا وتأثيرًا. التواضع فاتحةُ الطريق إلى الاعتراف، وكلاهما شرطُ الضرورة للتشخيص السليم، ثمّ النظر فى جوانب العِلَّة، والبحث عن علاجها الفعّال.
ظُلِمَت العربيَّةُ مِن ناحيتنا لا من الآخرين، وإخراجها من سجنِها المُظلِم لن يحدُثَ إلَّا على أيدى سجّانيها، وبعدما يعترفون بأنهم أضرَّوا ذواتَهم؛ عندما تجاوزوا على لُغتهم من حيث يتصوّرون أنهم يُرفِّعون قدرَها.
نفخرُ بأشياء عجيبة عندما ننظر فى مرايا اللغات. يقول أحدُنا إنَّ العربية لديها ستّة عشر ألف جذرٍ مُقابل سبعمائة فقط فى اللاتينية، ويتعالى آخرُ على الباقين بأنَّ لدينا سبعين اسمًا للكلب ومائة وثلاثين للأسد. والحقيقة أنَّ الوفرة ليست دليلاً على القُدرة، كما لا تُشبه الثراء إلا من جانب تكديس الأرقام؛ إنما للفاعلية حساباتٌ أخرى بالتأكيد.
وإذا انصرفنا عن غرامنا بالتعداد والتكرار، وتناولنا اللغة من جانب وظيفتها الأساسية، بوصفها أداة اتصال تكتسب جدارتها من الاضطلاع بواجباتها حصرًا؛ فربما نكتشف أن التراكم الكثيف، والهيكلية البنيوية الضخمة، أقرب إلى العيب من الميزة، وقد يُعطِّلان التداول وتشبيك العقول ببعضها، بأكثر مِمَّا يُفيدان فى تدقيق القول وتحكيك الفعل.
وإذا كان منبت حقل الشوك هُناك فى الماضى؛ فإن الحاضر حارسه الأمين، وينثر بذوره على طُول المدى من دون توقُّفٍ أو حساب. التعليم على رأس الفواعل المؤسفة فى الأزمة الراهنة؛ إذ يُقدِّم اللغة على أسوأ الصور المُمكنة، ويُنشئ حاجزًا منيعًا يحجبها عن الأجيال الجديدة، ويضعهم فى خصومة عميقة معها.
المناهج أوّلاً، ثم طُرق التدريس، ومن بعدها منطقُ الامتحان، كُلّها تُغذّى فى النشء أنهم فى معركةٍ مع أنفسهم وأسلافهم، وعليهم أن يتجّهزوا للتفوق على الماضى، ولو خرجوا إلى الحاضر عُراةً من كل سلاح.
ثمّة ازدواجية فى تكوين المعارف اللغوية، وفى الخلط المُربِك بين الهُويَّة واللسان، وهو أحد العناصر لا كلّها. يقرأون فى الكُتب ما لا يُقرِئهم الواقع، وينجحون على الورق بينما يُخفقون فى الحياة.
والدعوة هُنا ليست لإزاحة النسخة الرصينة من اللغة جانبًا، واعتماد اللهجات المَحكيَّة بديلاً؛ وإن كُنت شخصيًّا أراها لُغاتٍ كاملةَ البِنَى والأهليَّة، وتُعبِّر عن تنوُّع مجتمعاتها بأكثر مِمَّا يوفّره الأصلُ المشترك.
لكنْ لنتجاوز تلك النقطة الخلافية؛ فالمطلوب أن تكون اللغة فى المدرسة وثيقةَ الصلة بالشارع، وقادرةً على شَقِّ طريقٍ فى المنتصف بين الماضى والحاضر، القداسة والاستهلاك، وبين ما نتعلّمه لنرتبط بجذورنا، وما نتعلّمه ليُمكِّنَ فروعَنا من التمدُّد وانتزاع مساحتها من الفضاء الكونىِّ العريض.
لو طلبتَ اليومَ مُراجعةَ قاعدة مثل الممنوع من الصرف؛ فإن تيَّارا واسعًا سيثور من دون منطق واضح؛ لا لشىء إلا أنَّ القرآن أورد تلك المقاييس على صيغتها الجامدة، والتحوير فيها قد يُربك المشتغلين بالنصِّ وعلومه، أو يصطدم فى أفهامهم مع فلسفة التقديس و»الذكر المحفوظ».
ولست أعرف ما ضرّنا لو قلنا «غضبانًا» بدلاً من غضبان، أو «مشاربًا» بدلاً من «مشارب»، وقد صرفها القرآن نفسه فى «سلاسلا» بحسب الآية الرابعة من سورة الإنسان، وهذا مُجرّد مثال واحدٍ على جانبٍ من التعقيد، بينما الخروج منه يُحقِّق اطّراد القاعدة وتعميمها، بحيث لا تتفرَّع الأحكام وتتعدَّد، ولا يقعُ الخلط والارتباك، ويتعثّر الدارسون فى الفهم والتطبيق.
وما فات يصلحُ للإسقاط على مئات الحالات الشبيهة، وعلى الاستدراكات الكثيفة فى علوم النحو والصرف، والتصلٌّب الغريب فى استيعاب المنتوجات الحديثة بحُمولاتها اللغوية المُرافقة.
لقد صار من باب النوادر أن تُستعاد حكايةُ التعريب الشاذ لمفردةٍ إنجليزية مثل «سندويتش»، وقد استبدل بها البعضُ جُملةً حكائيَّة ركيكة تُعرّفه بأنه «شاطر ومشطور وبينهما طازج»، بينما صكّ لها مَجمعُ القاهرة تعبير «شطيرة»، وقرَّر الناسُ جميعًا أن يعتمدوا الأصل.
والحالة نفسها فى مفردتى تليفزيون وتليفون إزاء الاقتراح العربى: مرناة، ومسرّة؛ بينما اضطر المجمع أخيرًا إلى اعتماد كلمة «تريند» بأصلها المُتدَاوَل.
لنا مُفرداتٌ فى كثير من اللغات، بعضُها حرّفه الناطقون، وكثيرُها ظلّ على صورته أو ما يقترب منها. الحركيّة اليومية ستفرض قانونها دائمًا، وما فى الكُتب يبقى فى الكُتب.
وواجب اللغويين أن يُوفِّقوا بين الأمرين، وألَّا يجعلوا اللغة فى نزاعٍ مع العصر والمجتمع؛ إذ الخسارة وقتها ستطال الجميع كحالنا الآن: شارع مُشتَّت، وسَدَنةٌ ينصرف الجمهور عن أصنامهم، وعجزٌ عام وعارم عن المصالحة بين المُتخاصِمِين، وعن إنجاز الاتفاق الضرورى بين المنطوق والمقصود.
اللغة تصاوير مُعبّأة فى حروف، وإذا كان النحويون يقولون منذ زمن طويل، إن الإعراب فرع المعنى، فالخلاصة أن القصد يحكمُ البناء، والغاية كلها فى الدلالة واستقامتها. ولو نظرنا للعربية من تلك الزاوية؛ فإنَّ أُصولَها الكُبرى تظلُّ محلَّ احترام وتقدير، وموضوعًا دائمًا للدرس والعناية بين المتخصصين؛ إنما بما لا يُسقِطُ أحقيّة الناس فى تطوير معرفتهم بها، وفى إغنائها بما يستجيب للمستحدثات المحيطة، ويلبّى حاجاتهم دون مُعاظلة أو تعقيد.
وبهذا؛ لا يقعُ الشِّقاق مع فقيه يخلط بين اللسان والإيمان، ولا مع لغوىٍّ يعتبر نفسَه منتدبًا لمهمَّة مُقدَّسة، ويُحوِّل مجالَ اختصاصه المحدود، من نطاقه الحيوى المتجدد، إلى متحفٍ واسع يتسلَّط على الحاضر، ويُعبّئ المطلق فى النسبى.
علينا أن نبتهج باحتفال العالم اليوم بالعربية وناطقيها؛ لكن على أن تكون مُناسبةً للمراجعة والتقويم، والبحث فى استدراك ما فاتنا فى استيعاب لغتنا على وجهها السليم، والتوقف عن التنكيل بها، وممارسة الظلم الفادح عليها، عندما نسجنها فى تصوّراتنا المبهمة عن المجد والقداسة، وعن فتنة الفخر التى ورثناها من شعراء البداوة الأولى، ولمَّا نُغادرها بعد. تعيشُ اللغة على ألسنة الناس حصرًا؛ أما الكُتب فإنها قبور ناعمة.
ولإيجاز المسألة؛ فالخلط بين اللغة والدين لا ينبغى أن يظل حاكمًا على مُقاربة الموضوعَين، وكلاهما له مجاله فى الفهم والعمل. صحيح أنَّ الأصل أن تكون العقيدةُ نفسُها كيانًا مُتحرَّكًا، يتجدَّد فى الزمن بتجديد الرؤى وإعادة الإنتاج؛ لكنها مهمَّة شبه مستحيلة على ما يبدو، أقله فى المدى الراهن.
أمَّا العربية فيُمكن تحريرها من سجون الأُصوليَّة الموروثة، أكانت فى عقول الفقهاء أم فى ممارسات اللغويين والتربويين، ومن بعدها سيكون الاحتفال مع العالم أو من دونه، له صورة الاحتفاء الكاملة، وليس شبيها بافتتاحيات الرثاء والوقوف على الأطلال فى مدوّنتنا الشعرية العتيقة.
يجبُ تحرير اللغة من قبضة الشيوخ، بالمعنى الدينى للمفردة. ويجب أن تتحرَّر فى المقاربات النظرية لمادّتها، وما يُقترَح لإجرائها على المجال العام، علمًا ودرسًا وتداولا.
ومن الضرورى أيضًا أن تتجاوز تُراث اللغويين الأوائل، وتنفتح على أحدث ما أنتجته اللسانيات والعلوم اللغوية الحديثة، وأن تستمد قيمتها من حاجتنا إليها، ومدى قدرتها على الوفاء بها، وليس من ذاتها التى جُمِّدت قهرا؛ فصارت قيدًا عليها وعلى الناطقين جميعًا.
ولأنها كائن حىّ، وتفصيل عضوىّ بين مكونات الاجتماع والمدنية والتحضر؛ فلا يُرجَى أن تتقدَّم وتتبوأ مكانتها المُرادة، من دون عملٍ جاد، واجتهاد لا ينقطع، على محاور البناء والإنتاج وتحديث المجتمعات، وإعادة تكوين الرؤى السياسية والاقتصادية بما يصبُّ فى صالح تركيز الحضور العربى وتكثيفه، إقليميًّا وعالميًّا، وخلق طلب على منتوجٍ نوعىٍّ يتجاوز المواد الأولية والمداخيل الريعية، ناهيك عن الفوضى والتوتُّر، وعن الوقوع الدائم فى نطاق المفعول به وتحت سقف «رد الفعل».
جيوشٌ جرّارة يتحدَّثون العربية، وقلّة مُؤسفة يُجيدونها. ويندرُ أن تجد بين أبناء لغة من اللغات، من يتعثَّر فيها نُطقًا وكتابة، فضلاً على الفهم والاستيعاب الكاملين. مُتونٌ كاملة لو فُتِحَت أمام طلاب الجامعات ودارسى العربية؛ فلربما تتعذَّر عليهم الإحاطةُ بها كما لو كانوا أمام لسان غريب!
صحيح أنها لن تموت؛ لكنها تعيش مع عِلَل تُقوِّض حياتها، وتتخطَّى قدرة جهازها المناعىّ على التشافى. يصح أن تكون عزيزةً علينا، بل يتوجَّب؛ إنما لصالحها ألَّا تكون مُقدَّسة.
إنها ليست القرآن ولا ظِلاًّ له، والعمل على تطويرها لا يُهدِّد الهُويّة أو يُقوِّض الأصول. إخراجُها من مدارج القداسة مدخلٌ إجبارى إلى إدخالها فى الحياة، وتطوير آليات تعلّمها حاجة لا رفاهية، والضمانة الوحيدة أن ينبع احتضانُها من الحب لا العسف، ومن استشعار جمالياتها لا سقايتها للناس قهرًا.
لعلّنا الأمة الوحيدة التى تتهدَّد من داخلها قبل خارجها، وقد باتت عاجزة عن إدراك عمقها الثقافى، وعن احتوائه وتوظيفه لصالح مشروعها الحضارى الجديد. اللغةُ عُدّة الحرب وعديدها، وأخشى ألا يكون من حقنا الاحتفال بها؛ بينما يشقّ على أغلب أهلها أن يضبطوا جُملة سليمة!