في الجنوب البعيد، حيث الأرض تحمل بين طياتها حكايات الزمن الجميل، تأتي ليالي الشتاء لتُعلن حضورها بقسوة، برد قارص يطرق الأبواب والنوافذ، لكنه يعجز عن النفاذ إلى تلك القلوب التي تُشعل دفئها بنيران المحبة.
في الصعيد، الشتاء ليس مجرد موسم، بل لوحة إنسانية تُرسم بحطب يُشعل نارًا، وحكايات تُحيي الأمل في النفوس، تبدأ ليالي الصعيد مع غروب الشمس، حين يغزو البرد الأزقة والطرقات، لكن داخِل البيوت البسيطة، تبدأ مراسم خاصة للدفء، حول مدفأة مشتعلة أو "كانون" تقليدي، يلتف الأهل والأحباب في جلسة تُذيب برودة الأجواء، أكواب الشاي الساخن تُوزَّع بحب، تُمسكها أيدٍ اعتادت الكدح نهارًا وتجد في ليالي الشتاء راحة مُستحقة.
يُسكب الشاي ببطء، كأنه يروي حكايات عن دفء اللمة وصوت الضحكات المتناثرة في المكان.
وفي تلك الجلسات، لا تقتصر الليالي على دفء النيران، بل تمتد إلى دفء الحكايات التي تُنسج مع خيوط الليل، هنا تسمع الجدات يروين "الحواديت"، قصصًا قديمة تُحلق بالأطفال في عالم من الخيال، بينما يستعيد الكبار ذكريات أيام مضت، كأن كل حكاية تُلقي ببصيص نورٍ على ظلام الشتاء الطويل، فتُخفف وطأته وتُضيء القلوب.
في المنازل المبنية من الطوب اللبن، التي لا تعرف الرفاهيات لكنها تعرف السكينة والبركة، يجتمع أفراد الأسرة حول "الطبلية" الواحدة، الطبلية ليست مجرد مكان للأكل، بل منصة للتواصل والدفء، حيث يجتمع الجميع على طعام بسيط لكن مطهو بالمحبة والرضا، أيدي الأمهات تُقدم الأطباق بتلك العاطفة التي تجعل الطعام ألذ من كل ولائم العالم.
هنا، الجدران قد تكون متواضعة لكنها قائمة بالمودة، والسقف قد يكون "معروشًا" ببساطة لكنه مُغطى بالستر والبركة.
ليالي الصعيد ليست مجرد أوقات شتوية، بل هي مدرسة تعلمنا أن الدفء الحقيقي ليس فيما ترتديه، بل فيمن تجده بجانبك.
وسط البرد القاسي، يبتسم الصعايدة، كأنما يقولون: "ما دام هناك لمة.. لن نعرف للبرد طريقًا"، هذه الليالي تُثبت أن أجمل ما في الصعيد هو تلك الروابط التي تُشبه نيران المدفأة، تشتعل بهدوء فتجمع القلوب حولها.
ليالي الشتاء هناك ليست عن البرد والظلام، بل عن اجتماع يُعيد للأرواح دفئها وللقلوب سكينتها، ففي الجنوب، تُصبح الليالي الباردة موعدًا للسمر، ودفء اللمة هو الرد الصادق على قسوة الشتاء.