في قلب محافظة الجيزة، بين شوارعها العتيقة وأحيائها الشعبية، ينبض نادٍ عريق يحمل تاريخًا لا يمحى من ذاكرة الكرة المصرية "نادي الترسانة"، أو كما يلقبه عشاقه "نادي الشواكيش".
تأسس في عام 1921 بجهود رجل إنجليزي يُدعى سلاوتر، لكنه سرعان ما أصبح رمزًا شعبيًا ومصدر فخر للمصريين، يحمل على عاتقه أحلام الجماهير البسيطة التي وجدت في ألوانه الزرقاء تعبيرًا عن انتمائها.
الترسانة ليس مجرد نادٍ رياضي؛ بل هو جزء من وجدان الكرة المصرية، فماضيه العريق يشهد بأنه كان ثالث أكثر نادٍ مصري تحقيقًا للألقاب المحلية بعد الأهلي والزمالك، ولم يكن مجرد متفرج في الساحة الكروية، بل كان منافسًا شرسًا، يُزعج الكبار ويصنع المجد، من كأس مصر عام 1923 إلى الدوري المصري موسم 1962/1963، كان الترسانة بعبعًا حقيقيًا، تهابه الفرق الكبرى، ويتربع نجومه على قلوب المشجعين.
كيف ننسى الجيل الذهبي للترسانة، حين كانت الأسماء اللامعة مثل حسن الشاذلي، مصطفى رياض، وبدوي عبد الفتاح تسطر صفحات المجد؟ هؤلاء الأبطال جعلوا من الترسانة رمزًا للفن الكروي، وأدخلوا السرور في قلوب الملايين، الشاذلي ورياض، أسطورتان خرجتا من رحم هذا النادي الشعبي ليصبحا أيقونتين في عالم كرة القدم المصرية.
لكن الزمن دار دورته، وشهدت السنوات الأخيرة ابتعاد الترسانة عن الأضواء، أصبح الحلم الذي يراود عشاقه هو العودة مجددًا إلى دوري الأضواء والشهرة، حيث الكبار، الأهلي والزمالك، فالجماهير التي وقفت على المدرجات تهتف للشواكيش لا تزال تحلم بعودة ناديها العريق إلى سابق عهده.
التاريخ حافل بلحظات لا تُنسى، مثل الفوز على الأهلي بنتيجة 6-2 عام 1954، والهزيمة القاسية أمامه 6-0 في نهائي كأس مصر 1950، لكن هذه اللحظات، بحلوها ومرها، جزء لا يتجزأ من شخصية النادي، فهي شهادة على منافسته الشرسة مع الكبار، وقدرته على صنع المفاجآت.
إن الترسانة ليس مجرد نادٍ، بل هو قصة أجيال، قصة عشق بدأها الأجداد واستمرت في عروق الأبناء، هو رمز للكرة الشعبية التي تُجسد حب البسطاء لكرة القدم، والآن، وبينما يحلم المصريون بعودته إلى الدوري الممتاز، يبقى الترسانة مثالًا على العزيمة والإصرار.
وفي سطور التاريخ، دائمًا ما تختلط البطولات الكبرى بحكايات تبدو في ظاهرها عادية، لكنها تخفي بين تفاصيلها لمسات عبقرية تنسج خيوط الخداع والدهاء، ففي السادس من أكتوبر 1973، بينما كان أبطال مصر يخترقون مانع قناة السويس المائي ويقتحمون حصون خط بارليف، رافعين العلم المصري عاليًا على الضفة الشرقية، كان هناك مشهد آخر يُدار بحنكة على أرض نادي الترسانة العريق، لكنه هذه المرة لم يكن مجرد مباراة كرة قدم عادية.
كانت الكرة تدور على ملعب الترسانة بين فريقي غزل المحلة والطيران، في مباراة بدت للعيان كأنها جزء من إيقاع يوم طبيعي، تصفيق الجماهير وهتافهم للاعبين كان يخفي وراءه صوت خطوات الجنود المصريين الذين عبروا القناة، وسط صيحات الصمود والنصر، لقد كانت المباراة جزءًا من خطة الخداع الإستراتيجي، إذ ساهمت في إيهام العدو الإسرائيلي بأن يوم السادس من أكتوبر لا يحمل سوى روتين عادي، دون أن يدركوا أن عقارب الساعة كانت تسجل لحظات تاريخية تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.
استمرت المباراة حتى الساعة الرابعة والنصف عصرًا، رغم صدور أربعة بيانات عسكرية تؤكد بدء المعركة، كانت المدرجات تكتظ بالمشجعين، بينما كان الأبطال الحقيقيون يخوضون معركتهم الكبرى على الجبهة، كانت صافرة الحكم على أرض ملعب الترسانة تتناغم مع صيحات النصر في سيناء، وكأنها جزء من سيمفونية مصرية تتقن فن الخداع والدهاء.
نادي الترسانة، الذي لطالما ارتبط بتاريخه الرياضي العريق، سجل في هذا اليوم صفحة جديدة في دفتر الوطنية، كان الملعب شاهدًا على واحدة من أذكى لحظات التخطيط العسكري في تاريخ مصر الحديث، حيث لعبت الرياضة دورًا فاعلًا في تضليل العدو وتشتيت انتباهه، بينما كانت القوات المسلحة تكتب بأحرف من نور ملحمة العبور العظيم.
وهكذا، ارتبط اسم نادي الترسانة ليس فقط بالبطولات الكروية، بل أيضًا بحكاية وطنية فريدة، تظل محفورة في ذاكرة الأجيال، وفي كل مرة تُذكر فيها هذه اللحظة، يُعاد إلى الأذهان كيف تحولت كرة القدم إلى جزء من معركة شرف، وكيف اجتمعت مهارة الرياضة بعبقرية التخطيط لتحقق مصر انتصارها العظيم.
نأمل، عودة الشواكيش لنثر سحر كرة القدم في الملاعب، لرفع راية المجد مرة أخرى، فالقلب يتسع لأحلامهم، والملاعب تشتاق لهتافات جماهيرهم، والوطن ينتظر عودتهم إلى مصاف الكبار.