حازم حسين

انتقال إلى الأخونة لا المَدنيّة.. عن تحولات الجولانى بين غرام أُموى وأصولية بعثية

الخميس، 19 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تدفَّقت الوفودُ والاتصالات الغربية على دمشق، علنًا وسِرًّا. والمُواكبة العربية حاضرةٌ، أكان من خلال تشغيل السفارات، أم باجتماع لجنة الاتصال الوزارية بشأن سوريا فى العَقَبة الأردنية. والجميع فى حالةِ استشرافٍ وترقُّب؛ لكنهم مُنفتحون على المسار الجديد دون افتراضاتٍ مُسبَقَة.


لا غايةَ إلَّا أن تنتظم الدولةُ، وأن تكون قطيعتُها مع ميراث البَعث والعائلة الأسديَّة حقيقيةً وكاملة، بعيدًا من التعثُّر فى رواسب الماضى، أو إعادة إنتاجه بنكهةٍ أُصوليَّة تُغطِّى شُموليَّته المُتجذِّرة فى بِنية النظام.


واتِّصالاً بالرسائل المُتواترة من القيادة الجديدة، تبدو المصلحةُ واحدةً، والرهانُ كلُّه على أن تنسجِمَ رُؤى الداخل والخارج، وأن تتطابق الأفعالُ مع الأقوال.


الأحداثُ مُتدفِّقةٌ بإيقاعٍ لاهث، ويصعُب التحليل أو التوقُّع. الحجَّة أنَّ البلد يخرجُ من ميراثِ ستّة عقودٍ بَعثيَّة، أو خمسةٍ أَسَديَّة؛ لكن لا يعنى هذا أن يصطبِرَ الناسُ لفترةٍ مُماثلةٍ قبل أن يُثيروا أسئلةَ اللحظة، أو يُعبِّروا عن تصوُّراتهم بشأن المستقبل.


يقول «الجولانى» كلامًا لطيفًا؛ لكنَّ الوقائعَ كلَّها تقفُ على طرفِ نقيض. احتكرَ الإدارةَ السياسية ظاهرًا تحت لافتة «قيادة العمليات المُشتركة»، وباطنًا بإرادةٍ فردية واضحة. وركَّز السلطة التنفيذية فى مجموعته، وانتدب لها شابًا محدودَ الخبرة، تغلبُ عليه إخوانيَّتُه الطافحة.


ولا إشارةَ حتى اللحظة عن فتح قنواتٍ للحوار، أو لقاء مُمثِّلى القوى العريضة من الساسة والمدنيِّين، وإشراك المُكوِّنات الاجتماعية شديدة التنوُّع والاختلاف فى ورشة الترتيب الوَقتىِّ، أو مُداولات البحث عن مسارٍ نحو إرساء الدولة الضائعة.


قُدِّمَ قائدُ «هيئة تحرير الشام» على نِيّة إخفاء التناقُضات الكامنة خلفه. إذ تَسهُل إعادةُ إنتاج وجهٍ واحد، وتسويقه للعالم، بدلاً من محاولة إقناع المُراقبين، فى الداخل والخارج، بأنَّ التيارات الجهادية قد خلعَتْ رداءها القديم، وانتقلتْ بكَبسَة زِرٍّ إلى قناعاتٍ مَدنيَّة صافية، وكاملة البناء والأوصاف.


النزاعُ النفسى هُنا يتقدَّم على النزاعات الماديَّة، ولا سبيلَ لتخطِّى الرواسب القديمة بمُجرِّد إحكام الدعاية الجديدة. إنك إزاءَ فصيلٍ آتٍ من ماضٍ إرهابىٍّ قريب، حُكِمَ عليه بالوقائع الثابتة؛ ولا سبيلَ لإبراء ذِمّته بالأقاويل.


ربما يقولُ قائلٌ إنَّ التشاؤم وافتراضَ الأسوأ يظلمان تيَّارًا يُجرِّبُ نفسَه فى سياقٍ مُستحدَث، ولم يعرفْه سابقًا؛ إنما لا يُمكن القفز على أنَّ التفاؤلَ المُطلَق جريمةٌ ساذجة، وقد يظلمُ بلدًا بكامله، وسوءُ الظن فى هذا المقام ليس من حُسن الفِطَن فحسب؛ بل الفطنة كلّها.


الفجوةُ واسعةٌ بين ما جاء «الجولانى» منه، وما يتطلَّعُ للذهاب إليه. التاريخُ عائقٌ فى الطريق بين النقطتين، وحتى مَنطقُ «البَيّنة على من ادَّعى» ينطبقُ عليه لا على الخصوم؛ بمعنى أنه لا يصحُّ أن يُطلَبَ من الخائفين التدليلُ على خوفِهم، بينما للرجلِ صحيفةُ سوابق حيَّة فى الأذهان؛ إنما يتعيّنُ عليه هو أن يُحدِثَ القطيعةَ الواجِبَة، ويُبرهِنَ عليها، وأن يُثبِتَ أنه ما عاد الشخص الذى كان!


واجبُ الخلاص من الإرث الثقيل يتعلَّق فى رقبةِ صاحبه، وحجّية السيرة العمليَّة لن تتكسَّر إلَّا بسلوكٍ جديد. أىْ يقعُ الالتزام على «الجولانى» وهيئته فى أن يُجسِّروا مساحةَ الريبة والظنون مع محيطِهم، داخليًّا وخارجيًّا، قبل أن يطلبوا من الآخر احتضان نُسخَتِهم البديلة، وتنزيهها فوق الادِّعاء والتلفيق.


الاعتقادُ ليس كائنًا حيًّا، يتنفَّسُ وينمو وتتبدَّلُ تفاصيله؛ أقلّه لدى المُتطرِّفين والتيَّارات الأُصوليَّة الجامحة. احتاجتْ كلُّ الحركات العنيفة عقودًا لتتزحزحَ داخل الفكرة نفسها؛ أى أن يُسلِّم الواحد منها بانتفاء حَقِّه فى مُمارسة القتل، دون التسليم باستحقاقه على القتيل. أمّا مسألةُ الإقرار بالمَدَنيَّة والمُواطنة الكاملتين؛ فقد ينتهى العالم ولا تراها من أُصولىٍّ تائب.


احتاج «الجولانى» قرابةَ عقدين لينتقل من داعش إلى القاعدة ثمَّ لوَصفةٍ محليّة فى العنف. ولا يُمكن بحالٍ أنْ يقطعَ أضعافَ المسافة نفسِها فى أسبوعين أو أقلّ. وإمَّا أنه كان تاجرًا من الأساس، ولا يُوثَقُ فى سُلوكِه اليومَ وغدًا، وإمَّا أنه يحتالُ فى الراهن، ويناورُ لأطماعٍ وَقتيَّةٍ قد يعودُ بعدها أسوأ من السابق.


الاحتمالاتُ تُوجِب القلق؛ لكنها تفتحُ له ثغرةً يَنفُذُ منها إلى حقِّه فى التجربة وإثبات التوبة. وتظلُّ العِبرةُ بمقدار ما يقطعُه على طريق التصويب، وما يُبديه من جدّيةٍ واجبة فى تخطئة ماضيه وتثبيت حاضره. على شرطِ أن يبدأ من نقطةٍ صائبة؛ وهى أنه اليومَ جزءٌ من مجموع، وليس كلَّ الصورة، ولا صاحبَ الحقِّ الحصرى فى احتكار المشهد.


نشأ الرجلُ فى الجنوب؛ لكنه تربّى فى الخليج، وعاش شطرًا من عُمره فى دمشق، وقضى سنواتٍ عِدّة تحت سماء العراق. للعائلة هوىً قومىٌّ ناصرىٌّ، وللخَلفيَّة الدينية فروضٌ أُمَميّة؛ وكلاهما يتَّفق فى الغاية ويختلفُ فى التفاصيل.


على مَرمَى حجرٍ منه الآن، تأسَّست الدولةُ الأُمَويَّة، وعرفَتْ داهيةَ السياسة الأكبر، ورمزَ البراجماتية الأعلى صَخبًا فى التاريخ الإسلاموىِّ. انتقلَتْ السلطةُ مع معاوية من الدين إلى الرَّحم، ومن الاختيار بالإيمان إلى الاستحقاق بالنَّسَب العائلىِّ. صارت مُلكًا عضوضًا؛ لكنه يلتحفُ بغطاءٍ مُقدَّس. وهكذا فعل حافظ مع بشَّار.
البَعثُ اتَّخذ غطاءه من نوعٍ مُشابه، تلك العروبةُ التى صارت دِينًا بدَورها، وإنكارها لا يُورِثُ إلَّا الكُفرَ وإجراء «حَدّ الردّة» على المُنكِر. والجوهرُ أنَّ الأُمويِّين ما كانوا مُختلفين كثيرًا عن البعثيين، أو العكس، والمُتاح بشأن «الجولانى» إلى الآن أقربُ إليهما معًا، وليس فى انقطاعٍ حقيقىٍّ عنهما.


ليست مُفارقةً عابرةً أن يُمَكِّنَ الصاعدون الجُدد سُلطتَهم بالرموز قبل الوقائع. صحيحٌ أنهم يُناورون بكلِّ ما وَسِعَتهم الحِيلة؛ لكنهم يسقطون بين وقتٍ وآخر فى المآخذ والشُّبهات. ومن الإشارات المُهمَّة أن يُستبدَل باسم البَعثِ فى جامعة حمصيّة، مُسمَّى خالد بن الوليد؛ بكلِّ حُمولاته الدلاليَّة من تغليب السيف على اللسان، ومن التلويح بعاقبةٍ واحدة للمُرتدّين.


كان «الأسدُ» يعتبرُ نفسَه ثابتًا وحيدًا فى المعادلة، ومن موقعه تتحدَّد مواقعُ الآخرين، ويتوزّعون على الكُفر والإيمان. وإذا أعاد «الجولانى» إنتاجَ الحالة ذاتِها؛ فإنَّ وَصفَتَه الدينية والسياسية ستكون معيارَ القياس، ولن يُضمَنَ بعدَها أىُّ شىءٍ على الإطلاق، من أوَّل كتابة الدستور وتحديد ملامح الدولة، إلى فَرز الداخلين من الخارجين فى العهد الجديد.


ظهيرةَ الاثنين الماضى، كان لقاء القائد بالمبعوث الأُمَمىِّ جير بيدرسون ووفدِه المُرافق. اجتمع بهم جميعًا، ولم يَطلُب من النساء الحجاب إلَّا فى وقت التصوير. وفى اليوم التالى استقبلَ وفدًا بريطانيًّا، ويبدو أنَّ طلبَه رُفِضَ من جانبهم؛ فاضطُرَّ لالتقاط الصُّوَر مع امرأةٍ سافرة.


يُمكِنُ أنْ يُفهَم سلوكُه فى الحالين على معنى البراجماتية أو التناقُض؛ لكنه يُعبِّر عن شخصيّةٍ مُتحرِّكة، بغَضِّ النظر عن أهدافِها من الحركة. يعرفُ الرجلُ أنه واقعٌ تحت ضغوطٍ عديدة، ومركّبة، ويُلاعِبُ جمهرةً من الحلفاء والمُناوئين فى وقتٍ واحد، ولا ننسى أنَّ عقيدتَه تُجيز له الكذبَ والتقيّة والمعاريض.


حالُه الآن أقربُ لِمَن ينتعلُ حذاء واسعًا، وتتحرُّك قدماه فى داخله؛ لكنَّ موضعَه من الأرض لا يتغيَّر. لديه ظهيرٌ أُصولىٌّ ليس على قلبِ رجلٍ واحد، وعليه أن يُؤلِّفَ بين فصائله المُتعارضة، وألَّا يخسرَ إجماعَهم على شخصِه. وفى المُقابل يحتاجُ الكثيرَ من العالم، اعترافًا واحتضانًا ودعمًا ومعاونةً، والأهمّ ألَّا يُقاوِمَه الخارجُ أو يُعطِّلَ مسيرتَه.


بهذا المنطق؛ سيستميت «الجولانى» فى تثبيت أفئدة الحاضنة اللصيقة، وسيفعل كلَّ ما يتوجَّب عليه لاستمالة الخارج. وبينهما لا يُمكِنُ الجَزم بالنسخة الحقيقية منه، ولا ما إذا كان يُضمِرُ حالةً ثالثةً تختلفُ تمامًا، ويُرتِّب لإظهارها فى مرحلةٍ بعينها.


شهدَ العام الماضى صراعًا على شخصِه. وكانت الأجواء قد توتّرت فى إدلب، بأثرِ الإفراط فى التنكيل بالخصوم، وما ترشَّح عن توقيف المئات، وتعذيبهم فى سجونه، ووفاة بعضهم. تمرَّدتْ الفصائلُ، واندلعت تظاهراتٌ، وتردَّد أنه تعرَّض لمحاولة انقلابٍ من داخل الهيئة، بينما كانت تُوصَفُ من خارجها بأنها أقربُ إلى «شَبّيحَة النظام».


فى النهاية، نجحَ فى احتواء الحالة الغاضبة، وأعاد ترتيبَ الصفوف. ولعلّه سرَّع من عملية التحرُّك ضد «الأسد» بدَفعٍ من تعقُّد أوضاعِه فى مناطق خَفض التصعيد. أى أنه هَرِب للثورة على النظام، من مخاطر الثورة عليه شخصيًّا. وما حدثَ برغم النصر؛ أنه وسَّع المساحة وضاعفَ مقاييس اللعبة، ولم يتجاوز التناقُضات أو يكبحها تمامًا.


القَصدُ؛ أنَّ سُلوكَه القديم لو تكرَّر سيستتبعُ خروجًا عليه من الآتين معه من الشمال، ولو استرضاهم سيُثيرُ حفيظةَ الباقين على امتداد الخارطة السورية. كأنه يرقصُ على حبلٍ مشدود، بين الأُصوليَّة والمَدنيَّة، ويستحيلُ عليه مهما بلغ من مهارةٍ أن يُقنِعَ الطرفين.


لعبةُ الاستيعاب الواسعة تَمُرُّ اليومَ؛ لأنَّ الجميع فى نشوة النصر، ولم يُغادروا ساحة الاحتفال بسقوط النظام. تناقُضات الخطاب ستَبرزُ لاحقًا، والأقليَّات ستعلو مخاوفُهم المكتومة، والمُعارضة المدنيَّة لن تجدَ لها موطئَ قَدمٍ؛ بينما الميليشيات الحليفة ستكتشف فى القائد صِفَةً تُلامس النفاق، وتُحمَلُ على التفريط، وقد يستثيرُهم أن يُعطِى الدَنيّة فى دينه؛ بعدما مكَّن له الله بقوّة السلاح.


رفعَتْ أوروبا فى وجهه ثلاثةَ ثوابت: الانتقال المدنىّ بما يشمل الأقليَّات، والقضايا الحقوقية وعلى رأسها المرأة، والرفض الكامل للتطرُّف والإرهاب. والحال؛ أنَّ أرضيَّته لن تقبلَ مسيحيًّا أو شِيعيًّا فى الرئاسة، ولا أُفقَ للنساء فى دولةٍ بهُويّة دينيَّة رجعيّة، أمَّا ما يُعَدُّ إرهابًا لدى البشر الطبيعيَّين؛ فهو من تمام الإيمان وصِدق المُعتَقَد فى عُرف المُكوِّن الغالب على طبقة الحُكم الجديدة.


التوفيقُ قد يكون عسيرًا، والمحاولات غرضُها تمرير اللحظة الصعبة، على أمل الحَسْم لاحقًا. سيحتاجُ «الجولانى» للتخلِّى عن طرفٍ من أجل الآخر، وهو لا يضمنُ الغربَ وإن كان فى حاجةٍ إليه، ويحتاجُ الميليشيات وإن كان لا يطمئنُّ لدَوام ولائها، ويلعبُ عليهما معًا فى انتظار أن يصلَ لنقطةٍ تُجبرُهما على التلاقى مع وَصفَتِه المُقترَحَة، أو التى أُعِدَّت له من خبراء مُختصّين.


يُبشِّرُ بحَلِّ الجماعات المُسلَّحة، وبطبيعة الحال سيكونُ أفرادُها نواةَ الجيش فى المرحلة الجديدة، بما يعنى تثبيت المُكوِّن العقائدىِّ ضمن قلب الدولة الصلب. ومسألة الانفتاح يعرفُ أنها تُطلَبُ منه لغاياتٍ؛ لا لذاتها. أىْ أنْ يكونَ عضوًا صالحًا بالمقاييس الأنجلوساكسونية، وإن تعذّر عليه أن يخدمَ مصالِحَهم مُباشرةً؛ فأقَلّه ألَّا يُهدِّدها.


من النقطة السالفة، يُمكِنُ أن نفهَم لماذا أفرطَ فى الحديث عن العداء مع الوَصفة الإيرانية، وكان مُهادِنًا وحُلوَ اللسان تجاه إسرائيل. ما تريدُه واشنطن ورَديفُها الأوروبىُّ ألَّا تعود سوريا مَعبرًا لمشروع الشيعيَّة المُسلَّحة، ولا مُرتكَزًا لتهديد إسرائيل، وكلُّ ما عدا ذلك تفاصيل يُمكن استيعابها أو الاشتغال عليها ببطء.


يُبدى «الجولانى» رغبةً فى بناء دولة، أو هكذا يقول، وهو يحتاجُ للوصول إليها أن يتوافقَ عليه الشارع، وأن تُواكِبَه رعايةٌ دولية. كلاهما لا يغنى نظريًّا عن الآخر؛ لكنه قد يجورُ عليه. بمعنى أنَّ شعبيَّةَ اللحظة تُوظَّفُ لاستجلاب المشروعيَّة والاعتراف الخارجيَّين، وهُما بدورهما سيكونان عَونًا له لاحقًا على البيئة السورية السائلة ومُقَطَّعة الروابط.


تبدو الجبهةُ الداخلية مُتماسكةً، بأثر الفرحة والتئام الميليشيات، وعندما يستعيدُ الشارعُ توازُنَه، ويقفُ اضطراريًّا أمام الأسئلة الحقيقية الجادّة؛ لن يكون قادرًا على التصدِّى للسلاح على بُعد أمتار، ولا للاحتضان والإسناد من وراء الحدود.


لعبةُ الرجل أن يستعينَ بأهلِه على الغريب، ثمَّ يستعين به عليهم. وكلُّ ما يُقال الآن سيناريو مرسومٌ بعِناية للحفاظ على حال التوازُن بين الهدفين؛ فيُسمِعُ الغربَ ما يحتاجُ سماعَه، ويُطمئِنُ الشرقَ فيما يخشاه؛ لكنه لا يمنحُ شيئًا ملموسًا لهذا أو ذاك.


تتجلَّى نواياه الخَفيّة بأوضح صُوَرِها فيما يخصُّ المرحلةَ الانتقالية. وهو إذ يرسمُ معالمَها بانفرادٍ كامل؛ يرفضُ فى الوقت نفسِه أن يُوضَعَ القرارُ الأُمَمىُّ رقم 2254 على الطاولة، بل يطلبُ عَلنًا أن يُعادَ النظرُ فيه، كونَه لم يَعُد صالحًا للإجراء بعد سقوط النظام.


كان القرارُ المذكور يُرتِّبُ أجواءَ الحلِّ السياسىِّ على قاعدة الحوار مع النظام، صحيحٌ أنَّ «الأسد» غادرَ السياق؛ لكنَّ الحوار غايةٌ عُليا دائمةٌ، ولا تنقضى فاعليَّته والاحتياج إليه بثورةٍ سِلميَّة أم دامية. أهمُّ بُنودِه تكوين حكومةٍ مَدنيَّة شاملة وغير طائفيَّة لستّة أشهر، وكتابة الدستور، والإعداد لانتخاباتٍ ديمقراطية حُرّة فى غضون ثمانية عشر شهرًا.


الرَّفضُ معناه استنكار المُهَل الزمنيَّة، أو الصيغة الوطنيّة الجامعة للإدارة المُقترَحة، أو طبيعة الانتخابات المأمولة؛ وكلُّها تتصادَمُ مع فكرة الخروج من ميراث النظام القديم، أو السعى لبناء دولةٍ طبيعية عادلة بين أبنائها، ومُحايدة فى النظر إلى انتماءاتهم.


والخروجُ من إطار التنظيم القانونىِّ والإجرائى للمرحلة، لا يجعلُ الانتقال عمليَّةً ديناميكيَّةً مُنضَبِطة ومحكومةً بأُطرٍ وقواعد؛ إنما مِنَّة من القائد يُسيّرها كيفَ يشاء. وعليه؛ يُصبحُ الحديثُ عن الأقليَّات وحقوقهم نتاجَ فكرةِ التسامُح لا المُواطنة، ومن مَوقع الهيمنة وتسيُّد المكوّن السُّنّىِّ فى لَونِه الميليشياتى، لا منطق التكافؤ والنديَّة بين كلِّ المكونات.


كلُّ ما يُقدَّمُ من جانب السُّلطة الجديدة تطمينات؛ إنما لا علامةَ واحدة على الالتزام بضماناتٍ واضحة. كأننا إزاءَ إعادة إنتاج لوثيقة المدينة أو العُهدة العُمَريَّة، وهُما على صفائهما لا يتّصلان بالدُّوَل الحديثة ومنطقها، وينبُعان بالأساس من مبدأ الوصاية الدينية، وتحت قاعدة الغَلَبة والاسئثار بالقوّة.


تقودُ الحالة السابقة؛ إنْ مَدَدناها على استقامتها، إلى جَوٍّ ثيوقراطىٍّ بغلالةٍ مَدنيَّة شفيفة. وانطلاقًا من أنها ناتجةٌ فى سياق غير طبيعىٍّ، وتحت قيود الاحتياج الطارئ؛ فلا يُمكِنُ الجَزم بأنها تُعبِّرُ عن قناعةٍ راسخة، ولا عن إيمانٍ حقيقى بفكرة الدولة الجامعة، وبالسباق مع بقيَّة أطيافها من مراكز مُتكافئة.


كانت المُشكلةُ سابقًا مع سلوك البعث؛ لكنها نابعةٌ بالأساس من أيديولوجيته الشمولية المُتسلِّطة، ومن إلغائها للآخرين تحت ظلٍّ من ادِّعاء الصفاء والقداسة. القوميَّةُ لَونٌ من الأُصوليَّة، وعندما امتزجت بالشيعيَّة المُسلَّحة صارت خليطًا مُشوَّهًا فى كلِّ شىء؛ إلَّا إيمانه بالاستحقاق المُفرَد، وقناعته بالحقِّ فى التنكيل بالمُعتقِدِين من أجل العقيدة.


والتصوُّر نفسه لا يغيبُ عن الرجعية الدينية؛ بل يُمثّلُ صُلبَ نظرتِها لنفسِها والواقعين فى حبائلها. وبهذا؛ ربما نقتربُ من استبدال أُصوليّةٍ بأُخرى: الإسلامية محلّ القومية، والسُّنيّة بدلاً من الشيعيَّة، والعُثمانيَّةُ تَرِث الصَّفَويّة، والشام ضائعةٌ فى المُقبل كما فى الفائت.


الفارقُ أنها كانت صاخبةً وصارت هامسة؛ لكنها رماديَّةٌ فى الحالين، والمَدنيَّةُ تتناقضُ مع كليهما بالدرجة نفسِها. وإذا نظرنا إلى فتنة «الجولانى» بالنسخة الأُمويَّة من دمشق، ونزوعه إلى استنساخ تجربة معاوية وقبيلته؛ فالأقليّات على موعدٍ مع ذميّة جديدة، ولن تغنيها عذوبةُ اللسان عن حقيقة أنها خرجَتْ من استبعادٍ تحت ظلِّ المُمانَعة وشعارات الصمود والتصدِّى، إلى استبعادٍ آخر يبدأ بأولويات اللحظة، ثمَّ استحقاقات البناء، ثم تأبيد القبضة الرجعيَّة مع «يزيدٍ» جديد.


القائدُ عاجزٌ عن الاكتفاء بذاتِه الهشّة، ومُشغّلوه لن يتكفَّلوا بأعباء المرحلة. وهكذا يُحسِنُ القَول من دون فعل، ويُقابلُ الوفود الغربية، مثلما يفتحُ بابَه لإرهابيِّين من الإخوان وغيرهم. إنه فى حاجةٍ لاحتضان العالم وشرعيّته، وقَبول الإقليم وأمواله، وقُلوب المُتطرِّفين ودعايتهم، ويرقصُ على الإيقاعات الثلاثة بمهارة؛ إنما ليس باقتناعٍ.


الحقيقةُ الوحيدة أنه يُخلِصُ لنفسِه أكثرَ من أىِّ شىءٍ آخر، ويُديرُ حُضورَه فى المشهد ببراجماتيَّةٍ كاملة؛ لكنَّ تحوُّلاته محكومةٌ بثوابت تسكنُ رأسَه، ولا يعرفها سواه. وبالتأكيد لم يَكُن الداعشىَّ الأوَّلَ تمامًا، ولا القاعدىَّ الثانى، كما أنه ليس قائدَ الهيئة أو الدولة حاليًا، وله قناعٌ خامسٌ سيظهرُ فى وقتٍ آخر؛ هذا لو طال عُمرُه ولم يَسقُط بين شِراك التناقضات.


يصمُتُ الرجلُ ويتكلَّمُ بحساب، ورسائلُه مضبوطةٌ على ميزانٍ دقيق. انتقد سلوكيات طهران القديمة؛ بينما كان يغضُّ الطرف عن توغّل إسرائيل فى سوريا، وعندما أدانها كان دبلوماسيًّا بما لا يليق بتاريخه ولا حاضره. يبدو أنه محكومٌ باعتباراتٍ خارجية، وتُفرَضُ وصايةٌ كاملة على خياراته فى القول والفعل، وربما تأتيه المواقف مكتوبةً من عاصمة السادة الجُدد.


يقفُ فى مركز الدائرة، وتتنازعه قوى الجذب والطرد. غايته أن يَنفُذ بالأجندة المُكلَّف به، ووسيلته ألَّا يفقد قاعدةَ التشدُّد أو يصدمَها، وألَّا يُحبِطَ تطلُّعات المجتمع السورى أو يصطدم بها. لن يفتحَ البابَ ليدخل الجميع إليه؛ كما لن يخرج لهم. إمَّا أن يُجبَر، أو يستمرّ فى التسرُّب البطىء إلى نقطةِ التعادُل: مُقنِعًا للإرهابيين، مُحتالاً على السوريين، ومُلبّيًّا الحدَّ المطلوب من الدائرة الغربية.


وأقصى ما يُؤمَل منه هُنا أن ينتقلَ فى الحذاء، أى أنْ يتزحزحَ داخل الفكرة نفسِها. العالم لن يُحبّه جهاديًّا، والجهاديِّون لن يقبلوه مَدنيًّا، والوَسَطُ أن تتأخون هيئةُ تحرير الشام وزعيمُها، والإشارات متواترة فعلاً. وبهذا؛ ينتقل من نسخة الإرهاب الصاخب، إلى نُسخَتِه الناعمة، ويرفعُ رايةً يعرفُها الغَربُ، ويُجيد التعاطى معها واستثمارها، ويُتقن كيفية يُحرِّكها وتوظيفها، ويقتدرُ على إدخالها فى الصورة وإخراجها كيف يشاء. إنها رحلةٌ من الشرِّ للشرّ، وفى وَكر الأشرار لا مكان للخير غالبًا.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة