الأهمية الكبيرة التي تحظى بها قمة الثماني النامية، والتي تستضيفها القاهرة، تبدو في توقيت ومكان انعقادها، من قلب "المحروسة"، في ضوء تزامنها مع العديد من المستجدات، سواء في منطقة الشرق الأوسط، والاعتداءات الإسرائيلية المتواترة، سواء في غزة أو لبنان أو سوريا، وحتى اليمن، ناهيك عن التصعيد المتقطع مع إيران، أو على المستوى الدولي، في ضوء التباينات التي تشهدها الحرب في أوكرانيا صعودا وهبوطا، والتداعيات المترتبة على تلك الصراعات التي باتت لا تقتصر على مناطقها الجغرافية، حيت تمتد نحو مناطق تبتعد عنها آلاف الأميال، في حين يبقى نطاقها الزمني غير معلوم، في ضوء صعوبة التنبؤ به جراء التشابكات والتعقيدات المرتبطة بكل الصراعات القائمة.
ولكن بعيدا عن توقيت القمة المهمة، والتي تحمل بكل تأكيد دلالات عميقة، تدور في معظمها حول ضرورة تحقيق توافقات كبيرة، حول القضايا المثارة، والأولوية بالطبع لمنطقة الشرق الأوسط، إلا أن الظرف المكاني لها، في إطار انعقادها بالعاصمة المصرية، يحمل في ذاته مدلولات عميقة، تتجاوز تلك الفكرة التقليدية القائمة على الدور الإقليمي، نحو أفاق أوسع، حيث تحولت إلى مركز العالم، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد السابقة، ربما أبرزها النجاح المنقطع النظير في حشد القوى الدولية والإقليمية في كافة مناطق العالم، لدعم رؤيتها فيما يتعلق بثوابت القضية الفلسطينية، والتي وضعتها الدولة المصرية كأولوية قصوى، منذ اليوم الأول للعدوان على غزة، رغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي صرف الأنظار عنها لحساب القطاع، باعتباره، بحسب مزاعمه، مصدرا للتهديد المباشر على أمنها، ليمارس خطته الهادفة إلى وأد الدولة الفلسطينية وتصفية قضيتها.
ولعل مركزية الدور الذي تلعبه الدولة المصرية، في محيطها العالمي، لا يقتصر بأي حال من الأحوال على مجرد القضايا الإقليمية، ذات الأبعاد السياسية، وإنما تمتد إلى المساهمة الفعالة في تقديم رؤى بناءة لتعزيز الاستدامة، تتجاوز المحيط الشرق أوسطي، أو حتى العمق الإفريقي، وإنما في إطار أوسع يمتد إلى دورها القيادي في دول الجنوب العالمي، والذي يمثل العالم النامي والقوى الاقتصادية الصاعدة، في العديد من قارات العالم، انطلاقا من إفريقيا، مرورا بآسيا ودول الكاريبي وحتى دول أمريكا اللاتينية، وهو ما بدا في العديد من المشاهد خلال الأعوام الماضية، عبر الحديث باسمهم في مختلف المحافل الدولية، وأبرزها خلال قمة المناخ التي استضافتها شرم الشيخ في 2022، وغيرها.
والحديث عن قمة "الثماني النامية" التي تترأسها مصر من قلب القاهرة، لا ينبغي النظر إليه بمعزل عن مشاهد أخرى، أبرزها عضوية مصر في مجموعة "بريكس"، والتي تمثل مجموعة الدول الصاعدة اقتصاديا، من مختلف أقاليم العالم، لتعزيز التعاون وتحقيق التكامل الاقتصادي، مما يساهم في تعزيز القدرات على مجابهة التحديات العالمية المتزايدة، من جانب، والمشاركة الفعالة، من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، في قمة مجموعة العشرين الأخيرة، والتي عقدت في البرازيل، بناء على دعوة من الرئيس لولا دي سيلفا، لتكون المشاركة الرابعة لهم خلال ثماني سنوات، مما يعكس التقدير الدولي لفاعلية الدور المصري، وأهميته، في إطار تجربة اقتصادية ناجعة، تمكنت من تحقيق تحولات كبيرة، في غضون سنوات معدودة، غير مسار الدولة من الاحتراق بنار الفوضى، التي اندلعت في إقليمها بأسره، نحو السير على طريق الاستدامة والتنمية.
وبالنظر إلى الحضور المصري الطاغي في ثلاثة قمم لمجموعات اقتصادية، تمثل في جوهرها، ما يمكننا تسميته "الطبقات الدولية" المتباينة، في ضوء التصنيف التقليدي لدول العالم، بين أول وثالث، يمكن أن نستلهم الحالة المركزية التي باتت تحظى بها مصر، باعتبارها حلقة وصل، بين الشمال والجنوب، ليس فقط بحكم الجغرافيا، وإنما أيضا بحكم التجربة، التي يمكن استلهامها، في إطار عملي من قبل الدول الأخرى.
وفي الواقع، فإن الوجود المصري الفعال في مثل هذه المنتديات الاقتصادية، من شأنه تحقيق حالة من التكامل فيما بينهم، بعيدا عن فكرة الانكفاء على الذات، التي سيطرت على عمل المنظمات الاقتصادية، ذات الطابع الإقليمي، وعلى رأسها تلك التي ارتبطت بالقوى الكبرى، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تراجع دورها بصورة كبيرة، خاصة مع صعود قوى مؤثرة، على غرار الصين، والتي باتت بديلا مهما يمكن الاستعانة به، فيما يتعلق بالتجارة والاقتصاد، على حساب الولايات المتحدة والغرب، في الوقت الذي تسعى فيه مصر إلى تعزيز شراكاتها، في إطار ثنائي أو ثلاثي، مع العديد من القوى في مختلف مناطق العالم، وهو ما بدا في جولة الرئيس السيسي الأوروبية الأخيرة، وقبل ذلك من خلال شراكات دولية، على غرار الشراكة مع اليونان وقبرص في مجال الغاز الطبيعي، أو على المستوى الإقليمي، كالشراكة مع الأردن والعراق.
وهنا يمكننا القول بأن الدولة المصرية أثبتت فعاليتها، في إطار القضايا الدولية الكبرى، وهو ما بدا في مشهد غزة، والذي تقوم بإدارته بكفاءة كبيرة، تتحرك كذلك بجدية نحو المساهمة في تشكيل مستقبل العالم، أو على الأقل رقعة واسعة منه، عبر تركيزها على مصالح دول الجنوب النامي، والعمل على تعزيزها والحديث باسمها في مختلف المحافل الدولية، بينما يبقى العامل المشترك بين المشهد السياسي والاقتصادي، يدور في مفهوم "الشراكة"، والذي يحمل الكثير من المرونة، والتي تساهم في تعزيز التكامل إلى الحد الذي تتوارى معه خلافات السياسة وصراعاتها، بهدف تحقيق حالة تنموية مستدامة، لا يمكن أن تتحقق في ضوء استمرار حالة الصراع.