تبدو المستجدات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية، مرتبطة بما لا يدع مجالا للشك بحالة إقليمية شاملة، تشهدها منطقة الشرق الأوسط، منذ أكثر من عام، وتحديدا مع اندلاع العدوان على قطاع غزة، وما تلاه من تطورات شملت لبنان واليمن والعراق وسوريا نفسها، وحتى إيران، بينما في الوقت نفسه يمثل امتدادا صريحا للأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، في العقد الماضي، في إطار ما يسمى بـ"الربيع العربي"، باعتباره مكملا للصراع الذي نجم عنه، والذي أشعل حروبا أهلية هنا وهناك، حيث كانت الأزمة السورية هي أحد أكثر أزمات المنطقة تعقيدا خلال تلك الفترة، جراء سيطرة التنظيمات الإرهابية على مساحات واسعة من أراضيها، وهو الأمر الذي ساهم بصورة كبيرة في تدمير جزء كبير من البنية التحتية، ناهيك عن صعوبة استعادة الحياة لوتيرتها، رغم مرور بعض السنوات من الاستقرار النسبي.
المشهد سالف الذكر، يعكس ازدواجية مسار الأزمة التي تشهدها سوريا، بين بعدين متوازيين، أحدهما مرتبط بلحظة الانفجار الإقليمية الراهنة، والتي تتولى إسرائيل زمامها عبر عدوانها الغاشم على غزة، ورغبتها العارمة في تصفية القضية الفلسطينية، وما ترتب على ذلك من سياسة توسيع نطاق العدوان، ليشمل دولا أخرى، نالت منها دمشق قسطا عبر هجمات بين الحين والآخر على الجولان، ربما نظرا لتركيز تل أبيب على الجبهة اللبنانية، بينما يبقى البعد الآخر نتيجة لتراكمات الماضي القريب، سواء في إطار الصراعات أو أزمات الداخل، أو حتى التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري، وهي الأمور التي ربما لم تشهد حراكا كبيرا، رغم البيئة التي تهيأت لتحقيق ذلك على الكثير من الأصعدة، ربما أبرزها حالة الدعم العربي لاستقرار سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها، وعودتها إلى عضوية جامعة الدول العربية، ناهيك عن تخفيف حدة الضغط الدولي التي عانتها دمشق وتجرعت مرارتها خلال العقد الماضي، والتي أسهمت بقدر كبير في تضييق الخناق على الشعب السوري.
فلو نظرنا إلى البعد الأول، والمرتبط بإسرائيل، فالواقع يؤكد أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يبحث لا محالة عن جبهة جديدة للصراع، بديلا عن لبنان، حتى يتسنى له مواصلة الإبادة في غزة، على الأقل حتى تنصيب دونالد ترامب في الولايات المتحدة في يناير المقبل، للبدء في ترتيبات جديدة، وهو الأمر الذي بدا واضحا في تهديده للعراق أولا، ثم الحديث عن سوريا، لتأتي بعد ذلك المستجدات الأخيرة، والمرتبطة في جزء منها بالبعد الثاني، والتي تعكس تماهيا مثيرا للانتباه بين التنظيمات الإرهابية التي شنت الهجمات الأخيرة في حلب وإدلب من جانب، ورغبة تل أبيب المتعطشة لمزيد من الفوضى، وعدم الاستقرار من جانب آخر، خاصة إذا ما تمكنت من استنساخ تلك الحالة التي كانت عليها الأمور في العقد الماضي، وإن اقتصر ذلك على المناطق الأكثر هشاشة في الإقليم المشتعل أساسا، جراء الأزمات المتواترة، بينما في اللحظة نفسها، يمكنها التذرع بالمستجدات على الساحة السورية، لفتح جبهة جديدة وبديلة للجبهة اللبنانية، بحجة الدفاع عن النفس.
ولعل الحديث عن هجوم إسرائيلي على سوريا، وإن كان سيساهم في مزيد من التفاقم للحالة الإقليمية المنهكة، فإنه لن يحظى بالزخم الدولي الذي شهدته الحالة اللبنانية، والتي يبقى ارتباطها بالغرب الأوروبي أحد أهم النقاط الفارقة، التي ساهمت في إنهاء الصراع، والوصول إلى نقطة الاتفاق حول وقف إطلاق النار، بينما تبقى الجبهة السورية، في رؤية تل أبيب، خيارا أفضل من العراق، والتي تحصنت بشراكات مهمة مع العديد من القوى العربية في محيطها الجغرافي، استعادت من خلالها حالة الزخم، باعتبارها قوى عربية بارزة، استطاعت في الوقت نفسه الاحتفاظ بعلاقاتها مع كافة القوى الإقليمية الأخرى، ناهيك عن علاقاتها المتميزة مع العديد من القوى الدولية الكبرى، ناهيك عن الانتصار الذي حققته في حربها ضد الإرهاب، وقدرتها على فرض كلمتها والسيطرة على أراضيها، وهو ما بدا في قرار مجلسها الأمني بملاحقة السلاح خارج نطاق الدولة.
التعطش الإسرائيلي للفوضى مستمرا، والمواجهة الإقليمية تبدو ملحة، عبر حشد المجتمع الدولي، في مواجهة السياسات العدوانية التي تتبناها تل أبيب، والتي قد تجد ضالتها في دمشق عبر استنساخ مشهد العقد الماضي مضافا إليه الحالة العدوانية الغاشمة المتواصلة منذ أكثر من عام، بينما يبقى دور الدولة السورية مهما ومحوريا في احتواء الأوضاع في الداخل، عبر فرض قبضتها على الأوضاع في الداخل، والاحتماء بمحيطها الإقليمي، وتعزيز أبعاد الهوية العربية، والاستفادة من تجارب دول الجوار في الحروب التي خاضتها ضد الإرهاب، من أجل إخماد أي محاولات من شأنها تهديد وحدة الأراضي السورية وسلامة أراضيها، والتي تمثل في جوهرها أحد أهم الأهداف التي يضعها الاحتلال على عاتقه.
وهنا يمكننا القول بأن الأوضاع في سوريا تمثل امتدادا لحالتين إقليميتين متوازيين، وهو ما يزيد الأمور تعقيدا، في لحظة تبدو حساسة في تاريخ المنطقة بأسرها، خاصة مع التصعيد الإسرائيلي، ورغبة نتنياهو العارمة في خلق المزيد من الجبهات القتالية، في الشرق الأوسط، للفت الأنظار عن غزة