شنَّت إسرائيلُ عدوانَها على غزَّة بدعوى ملاحقة حماس، وعلى طول الشهور الماضية عرفَ كلٌّ منهما خصمًا واحدًا فى جبهة الحرب، بينما كان الساعون للتهدئة يخوضون صراعًا على جبهتين. وإنْ شِئنا الدقَّة فإنها أربعُ جبهاتٍ بالتحديد، إذا أضفنا أثرَ الانحياز من جهةِ الغرب، وخِفَّة المُتاجَرة والابتزاز من ناحية محور المُمانَعة. صار المدنيّون ضحايا للجميع، لا فارقَ بين مُحتلٍّ ومُقاوِم، بينما وقفَ خطابُ الاعتدال وحيدًا فى مهمَّة الإنقاذ الإنسانية، يُحاولُ ترويضَ الجنون الصهيونىِّ، وتُعطِّلُه دعاياتُ الشيعيَّة المُسلَّحة.
ولو رأى أحدٌ فى الحُكم السابق شيئًا من القسوة، فإنَّ عليه أن يُبرِّرَ ما لحَقَ بالقضيَّة من انتكاساتٍ ثقيلة، وخسائر خفيَّة وظاهرة، وأن يُقارِنَ حالَ النكبة الراهنة بما كانت عليه الأوضاعُ قبل «الطوفان»، وبأقصى ما يُؤمَلُ الوصولُ إليه فى اليوم التالى لإسكات البنادق، لو افترضنا أصلاً أننا إزاء تصوُّرٍ واضحٍ ومُكتَمِلٍ عن المُستقبل.
أخذ «السنوار» بزمام المُبادَأة، لا ضدَّ الدولة العبرية وحدها، إنما على مستوى إرباك الحلفاء والخصوم والمُتعاطفين دفعةً واحدة. كثافةُ الهجمة أزعجت العدوَّ واستفزَّت جنونَه، وحجمُها استنفرَ القبيلةَ الأنجلوساكسونية لأقصى مدىً، ولم تَكُن المُمانَعة جاهزةً للتعاطى مع مشهدٍ شديد الاحتدام، ولا بمَقدورِ دُوَل الاعتدال أنْ تمتصَّ فائضَ السخونة الزائدة عن الحَدِّ.
وهكذا، اندلعت الحربُ الغاشمةُ بإيقاعٍ صاخبٍ وغير مُتوازِن، وتقبَّلَ الغربُ المسيحىُّ الأبيض فاتورتَها الباهظة، وعجزَ الأُصوليِّون الإسلاميّون عن التداخُل المُثمِر معها، أو تجنيبها مزالقَ الوَصْم والتلوين بالمُعتقَد والطائفة، بينما انحصَرَتْ جهودُ الإطفاء فى البحث عن مخارج إنسانيَّةٍ، بعدما تبدَّى أنَّ طموحَ «نتنياهو» يتجاوزُ الثأرَ لكرامته المُهدَرَة، وأوهامَ المُمانَعة تحجبُها عن استيعاب فداحة الواقع، وأقصى ما يستطيعُه الضميرُ العالمىُّ أن يُسجِّلَ مَوقفًا أخلاقيًّا، يتعذَّرُ صَرفُه فى ميادين القتال.
سُجِّلَتْ المواقفُ الجادَّةُ مُبكِّرًا من جانب مصر والأردن تحديدًا، عندما قرَّر الرئيسُ السيسى الامتناع عن لقاء بايدن فى عَمَّان، عقب قصف المستشفى الأهلى المعمدانى، ثمَّ واكبَه الملك عبد الله والرئيس عباس، فأُلغِيَتْ القمَّة المُقرَّرة سَلفًا، وبدأت ورشةُ البحث عن ثغرةٍ فى جدار النار.
تواصَلَتْ الضغوطُ المصرية على المستوى السياسى، ونجحت قِمَّةُ القاهرة للسلام، بجانب مُقارباتٍ أُخرى، فى فتح معبر رفح، وبدء إنفاذ المساعدات الإنسانية بعد نحو أسبوعين من التعنُّت الإسرائيلىِّ. ومِن وَقتِها اعتبرت «حماس» أنها حصلت على شهادة ضمان ضد الحصار والتجويع، واستشعرت تلُّ أبيب أنها فرَّطَتْ فى استراتيجيَّة الخنق الكامل، فصارت مسألةُ الإغاثة، المضمونة وجوبًا بالقوانين والأعراف الدوليّة، نطاقًا للتنازُع بين الفصائل والاحتلال، أكان على صعيد المَنع المقصود، أم إساءة التعامُل معها لفائدة تجديد مخزون الحركة وتثبيت سُلطتها على حياة الغزِّيين. وهكذا وقعَ الاختلاف فى البديهيات، وأصبحت المُطالبةُ بإطعام الجَوعى وتَطبِيبِهم مهمَّةً شِبه مُستحيلة، وغايةً ربما تتقدَّمُ على البحث فى الهُدنة والتسوية.
أحدثُ الجولات تحتضنُها القاهرةُ أيضًا اليومَ، عبر المُؤتمر الوزارى الدولى للاستجابة الإنسانية لغزَّة، تحت عنوان «عام على الكارثة الإنسانية.. احتياجات عاجلة وحلول مُستدامة»، ويُعقَدُ تحت رعاية الرئيس السيسى، وبحضور سكرتير الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، مع مُشاركةٍ إقليميَّة ودولية واسعة، بغَرَض البحث فى سُبل الخروج من الأزمة الراهنة، ورَفع القيود الإسرائيلية، وإنهاء حال التوظيف السياسى والحربى للمسائل الإنسانية.
والحركةُ هُنا بالقطعِ ليست بديلاً عن الدفع لإنجاز صفقةٍ بين الاحتلال والفصائل، إذ تتواصَلُ تحرُّكاتُ القاهرة من أجل دَفع عجلة المُفاوضات المُتوقِّفة، وترميم البيت الفلسطينى، بما يسمحُ بالتوافق على ملامح المرحلة المقبلة فى غزَّة، وإعادة بناء سُلطةِ حُكمٍ مُتَّفَقٍ عليها، تتولَّى شؤون القطاع، وتُجدِّدُ السرديَّةَ الوطنية تحت سقف الإجماع وثابت «حلّ الدولتين».
أُثِيْرَ موضوعُ تشغيل المَعبر مُجدَّدًا خلال الأيام الأخيرة، على أن تتراجع حماس لصالح السلطة الوطنية، ويتَّصل التصوُّر بملفِّ المُصالَحة، على قاعدة إرساء «لجنة الإسناد المجتمعى»، وقد عُقِدَتْ بشأنها جولةٌ حوارية بين الفصائل الفلسطينية قبل أسابيع، وتجدَّدت مُؤخَّرًا بالتزامُن مع استعدادات مُؤتمر الاستجابة الإنسانية.
ومن تلك الزاوية، تتقدَّمُ القاهرةُ لتلعبَ دورًا نَشِطًا على ثلاثة محاور: تقديم مُقترَحٍ مُحدَّث بشأن الهُدنة أعلنه الرئيس السيسى خلال استقبال نظيره الجزائرى الشهر الماضى، والاشتغال المُكثَّف على لَمْلَمة الصفِّ الوطنىِّ، وأخيرًا وَضع قضيَّة الإغاثة فى الواجهة، مع عَزلِها عن مَسَارى السياسة والحرب، بحيث لا تكونُ الالتزاماتُ الإنسانيَّةُ موضوعًا للمُناكفة والتنازُع، ولا ورقةً حاكمةً لطبيعة الحوار الفلسطينىِّ، ولا لمسار التسوية المرحليَّة أو طويلة المدى مع إسرائيل.
جاء الجميعُ ورحلوا، وظلَّت مصرُ وحدها قابضةً على رُؤيةٍ ثابتة لا تتزعزعُ، ومحاورَ عملٍ لا تحيدُ عنها. الولاياتُ المُتَّحدة تكاد أن تكون نفضَتْ يدَها من ملفِّ الهُدنة فى غزَّة، وبقيَّة محور المُمانَعة أزاحوا «حماس» عَمليًّا من قائمة أولويَّاتهم، مع سقوط دعايات «وحدة الساحات».
الضغوطُ الصهيونيَّةُ أبعدَتْ قطر نسبيًّا عن جهود الوساطة، ودخول تركيا على الخطِّ لم تتَّضح مَلامحُه حتى اللحظة، بينما يُصِرُّ نتنياهو على مُواصلة عمليَّته العسكرية فى القطاع، خصوصًا أنه اضطُرَّ للتراجُع عن مواقفه السابقة فى لبنان، ويسعى لإبقاء الجَمر مُشتعِلاً حتى وصول «ترامب» للبيت الأبيض، والتفاهُم معه بشأن الترتيبات الإقليمية وتصعيد الصراع مع إيران.
أمَّا الحماسيِّون، فإنهم عاجزون عن اتِّخاذ قرارٍ حاسم، ومَشدودُون بين التزاماتهم الولائيَّة تجاه الشيعيَّة المُسلَّحة، وتكاليف هَزيمتهم الثقيلة فى الميدان، وتطلُّعهم لأنْ يَظلّوا بين مُكوِّنات المشهد، وألَّا يُفلِتوا طرفَ الخيط الذى يسمحُ بعودتِهم لاحقًا. والمعنى، أنهم مَوجوعون إنسانيًّا وعسكريًّا، وخُذِلُوا من المُمانَعة بالقَول والفعل، ويُسيئهم الانكسارُ أمامَ تلِّ أبيب، لكنَّهم يتمرَّدون إلى الآن على النزول عن الشجرة لصالح رام الله.
ما مُنِعَ على الحركة لأكثرَ من سنةٍ، سُمِحَ به للحزب بعد شهرين فقط. كان حسن نصر الله مدفوعًا بإملاءٍ إيرانىٍّ عندما أطلقَ حربَ «الإسناد والمُشاغَلة» فى اليوم التالى للطوفان، لكنَّ اللعبةَ الآمنة لإبراء الذمَّة وتحصيل منافع الدعاية والتأجيج العاطفى، تحت سقف الاشتباك الموهوم، انقلَبَتْ عليه عندما قرَّر نتنياهو تسعيرَ المُواجهة، والسيرَ بها على طريق الحسم، طَمعًا فى كَسر الميليشيا اللبنانيَّة وتحييدها، أو استجلاب الجمهورية الإسلاميَّة إلى ساحة القتال بالأصالة.
وهكذا سارت الأمورُ من سيِّئٍ لأسوأ، باغتيال فؤاد شكر ثمَّ «موقعة البيجر» وتصفية كوادر الصفِّ العسكرىِّ الأوَّل وُصولاً للأمين العام نفسه، وبعدها سمحَ المُرشدُ بالانتقال من الصبر الاستراتيجىِّ إلى التراجُع التكتيكىِّ، وأقرَّ قادةَ الضاحية على إبرامِ اتِّفاقِ تهدئةٍ بطَعم الهزيمة، حتى لو سُوِّقَ زَعمًا على صِفَة النصر، مع تفعيل القرار 1701، بما يعنيه من إخلاء الجنوب ونَزْع السلاح. وبعيدًا من اكتمال المسار أو تعطُّلِه، فالواقعُ أنَّ الراعى الشيعىَّ فرَّطَ فى الثوابت التى كان يتشدَّدُ بشأنِها، وسعى لإنقاذ ما تبقَّى من الحزب، بالوَصفَة نفسِها التى كان يُمكن أن تَستَنقِذَ غزَّة، وحرَّمَها باستبدادٍ وغطرسةٍ على حماس.
عندما قصفَتْ إسرائيل عُمقَ الجمهورية الإسلاميَّة أواخرَ أكتوبر الماضى، رَدًّا على هجمة الصواريخ الباليستية الإيرانيَّة فى مَطلع الشهر نفسِه. تحدَّثَتْ طهران عن الرَدِّ على الرَدّ، وأنها بصَدَد التحضير لجولةٍ ثالثةٍ من العملية التى منحتها مُسمَّى «الوعد الصادق».
وقتَها كان الحوارُ بشأن لبنان عند أعلى مُستوياته، والمبعوثُ الأمريكىُّ آموس هوكشتين يُحاولُ تقريبَ الرُّؤى بين بيروت وتل أبيب، وعليه تآكلَتْ الوعودُ الثأريَّة وابتلعَ الحرسُ الثورىُّ لسانَه، ما سمحَ بدَفعِ المُفاوضات وُصولاً للصفقة اللبنانيَّة بعد شهرٍ واحد. وهذا للأسف ما لم يَحدُث سابقًا لصالح غزَّة، بل اتُّخِذَ مَوقفٌ مُضادٌّ تمامًا، أمَدَّ «نتنياهو» بالذرائع المطلوبة لنَقلِ عمليَّاته المحمومة ضدَّ القطاع لمرحلةٍ أكثر تقدُّمًا.
كانت مُخرجاتُ جَولَتَى باريس قد تبلوَرَتْ بعد سلسلةٍ طويلةٍ من اللقاءات بين الدوحة والقاهرة، وقدَّمَتْ مصرُ مُقترَحًا ناضجًا للهُدنة الثانية. قصفَتْ إسرائيلُ القُنصليَّةَ الإيرانيَّةَ فى دمشق بحثًا عن ذريعةٍ جديدة للإفساد وخَلط الأوراق، واستجابت طهرانُ باستعراضٍ باهتٍ للصواريخ والمُسيَّرات بعد أقلِّ من أسبوعين، ما قادَ لتصعيد الخطاب الصهيونىِّ بشأن اجتياح رفح، ثمَّ قرَّر «السنوار» دون مَنطقٍ مَفهوم أن يَقصِفَ مُحيطَ قاعدةٍ عسكريَّةٍ فى كرم أبو سالم، فوقعَ الهجومُ وتوقَّف عملُ المَعبر تمامًا.
وهُنا، لا يُمكن التذرُّع بالمُصادفة، إذ قبلَها كانت الحركةُ تُبدِى قبولاً ضمنيًّا للصفقة المأمولة، فخرجَ المُرشِدُ بنفسِه فى ذكرى سَلَفِه الخمينى، ليرفض التهدئةَ المُقترَحةَ بشكل واضح، ويقولَ فيما يُشبه التوجيه والكَبْح، إنَّ المُقاوَمة مُستمرَّة ولن تتوقَّف، وبعدها تبخَّرتْ أقربُ الفُرَص، منذ هُدنةِ نوفمبر 2023، لفَتح القنوات المسدودة وتجديد التجربة، صحيحٌ أنَّ سُلوكَ حكومة اليمين المُتطرِّفة، وزعيمها بنيامين نتنياهو، كان منحازًا طوالَ الوقت للحرب والبطش بالغزِّيين، إلَّا أنه لا يُمكن الجَزمُ بأنَّ إفساحَ المجال لمُقاربة أبريل لم يكن ليُثمِرَ شيئًا. وتظلُّ الخسارةُ الأكبرُ أنَّ الاستخفاف والعشوائية قادا للتعجيل باجتياح رفح، قفزًا على الاعتراضات الأمريكية وقتها، وسمحا لجيش الاحتلال بأنْ يحرقَ الجانبَ الفلسطينىَّ من المَعبَر، ويُحكِمَ الخناقَ على القطاع تمامًا، بعد إغلاق منفذِه الوحيد مع العالم.
ومن يَومِها، صارت الإمداداتُ الإغاثيَّةُ مرهونةً بالمَوقف الإسرائيلىِّ حصرًا، أو محكومةً بمحدوديَّة عمليات الإسقاط الجوىِّ من جانب مصر والأردن، اتِّصالاً بالتعقيدات اللوجستيّة وضخامة الاحتياجات المطلوبة. وإذا كان من غايات تلِّ أبيب أنْ تخنقَ فُرَصَ الحياة وتُجُوِّعَ المدنيِّين، فإنَّ التزامَ حماس والمُمانَعة كان يقتضى البُعدَ المُطلَقَ عن كلِّ المسارات الكفيلة بإسناد خطط الحصار، أو تسهيل مهمَّة المخابيل الصهاينة فى تغطية سُلوكِهم النازىِّ بغبار المعارك والدعايات.
ما بعد «الطوفان» لم يَكُن غامضًا على الإطلاق. و«السنوار» ورجاله عرفوا مُبكّرًا بالتأكيد أنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء، ربما بأضعاف ما كانوا يُخطِّطون ويأملون، وسيرتدُّ عليهم ذلك عدوانًا من دُونِ أَسقُفٍ أو ضوابط، كما سيكون المدنيِّون بين أدوات الضغط على عَصَب الحركة ومركز قرارها. وما كان بَاديًا بأيّة نسبةٍ، أنَّ المُمانَعة قادرةٌ على تغيير المُعادلات، كما أنَّ واشنطن مُنحازةٌ بأرذَل الصور، حتى أنها عندما أمهَلَتْ تلَّ أبيب شهرًا لتحسين الأوضاع الإنسانية، عادت فى المَوعِد المُحدَّد لتقولَ إنها أوفَتْ بالتزاماتها.
يُضافُ لهذا، ما كان ضد اللجان الإغاثية، سواء باستهداف فِرَق المطبخ المركزى العالمى، أم بقَصف مرافق «أونروا» ومنشآتها، قبل التصويب على الوكالة نفسِها بالقانون، وإصدار قراراتٍ غاشمة بإنهاء عملها فى الأرض المُحتلَّة.
صحيحٌ أنَّ محكمةَ العدل أشارت إلى الإبادة الجماعية، وأصدرت الجنائيَّةُ الدوليَّةُ مُذكِّرتَى توقيفٍ بحقِّ نتنياهو ووزير دفاعه السابق، إلَّا أنها مَواقفُ أقربُ إلى الرمزيَّة، ولا تختلفُ عن الاستفاقةِ الضميريَّة فى التظاهُرات ورسائل بعض الحكومات، من دون أثرٍ واضحٍ على الأرض، أو تصويبٍ للمُمارسات العَمديَّة فى الحصار والتجويع، وتسليح الاعتبارات الإنسانية التى لا تقبلُ الخَرقَ أو المُساوَمة.
العبءُ على كاهلِ الصهاينة قَطعًا، لكنَّ واجبَ «حماس»، من حيث كونِها سُلطةَ حُكمٍ مدنيَّةً، لا فصيلاً مُقاوِمًا فحسب، كان يقتضى البحثَ عن مُقارباتٍ مُغايرة، وإقامة الحجَّة بكلِّ السُّبل الكفيلة بتبرئة نفسها أوَّلاً، وإعلاء قيمة تحييد المدنيِّين، وعدم تكبيدِهم فاتورة الجمع الساذج بين السلاح والأدوار التنفيذية.
ليس القَصدُ إطلاقًا أنْ نُمارِسَ جَلْدَ الذات، ولا أن نلومَ المُخطئِين بأثرٍ رَجعىٍّ، إنما أنْ ننظُرَ فى الوقائع على ضوء المواقف القديمة، لاستشراف المآلات المُحتمَلَة، وتجنُّب أن ننزلِقَ فى الخطايا نفسِها. والحال، أنَّ «السنوار» أطلقَ طُوفانَه وجُرِفَ مع تيَّاره، ويجبُ ألَّا يُترَكَ القطاعُ بكاملِه لينجرِفَ لهاويةٍ قد لا يعودُ بعدَها مُجدَّدًا.
صارت الأمورُ صعبةً وشديدةَ التعقيد، لكنَّ الإنقاذَ فى المُتناوَل حتى اللحظة. بوَّابتُه الأُولى والاضطراريَّة فى الشِّقِّ الإنسانىِّ الضامن لمعاش الغزِّيين وسلامهم، وإدراكهم قبل أن يكتمِلَ كُفرُهم بالوطن وفصائله وأُفقِه السياسىِّ فى الحاضر والمستقبل، وإن كانت تلك المهمَّة العاجلةُ لا تغنى عن إعادة اللُحمَة بين المُكوِّنات الوطنية، والتوقُّف عن المُناكفة ومُغامرات الانقسام على الذات.
والحقّ أنَّ عناصر الرؤية الإنقاذيَّة المطلوبة راهنًا، لا تتحقَّقُ كاملةً إلَّا فى الطَّرح المصرىِّ المُتكامِل، والسائر بالتوازى على كلِّ المسارات دفعةً واحدة، دون تعالٍ على غايةٍ، أو تقديمٍ لهدفٍ قبل الآخر. وليست مُصادفةً أن تتزامَنَ مُحاولات إحياء المُفاوضات بمُقترَحٍ مُنشَّط، مع جولةٍ جديدة من الحوار بين الفصائل، واستقبال وفود الدول والمُنظَّمات الدوليَّة فى مُؤتمر الاستجابة الإنسانيّة.
تتقاطَعُ الخطوطُ الثلاثةُ بحُكم الواقع، وتنفَصِلُ فى الوقت ذاتِه بمُقتضيات الضرورة. والمعنى، أنَّ مسألةَ الإغاثة يجبُ أن تُوضَع خارج حسابات الحرب، وتظلَّ هكذا دائمًا، وأنَّ المُصالَحة واجبٌ لازمٌ فى كلِّ الأحوال، بقَدر ما كان الانقسامُ خطيئةً أيَّا كانت بَواعثُه ومُبرِّراته، كما لا بديلَ عن البحث فيما بعد العدوان، وقد تأكَّد الجميعُ أنَّه لا أُفقَ للحَسْم بالسلاح، ولا عِوَضَ عن اختبار السياسة، والاقتناع بأنها ستكونُ المُنتصِرَ الوحيدَ فى آخر الصراع، مهما طالت الجولاتُ وتعدَّدَتْ.
عملتْ روسيا والصين على محور المُصالَحَة فى جولاتٍ سابقة، وانشغلت قطر والولايات المُتَّحدة، وتركيا مُؤخَّرًا، بجهود الوساطة، وركَّزت مُنظّماتٌ ودُوَلٌ أُخرى على المسألة الإنسانية ومهمَّات الإغاثة. وتكاد مصر أن تكون الطرفَ الوحيدَ الذى اشتغل على الأهداف الثلاثة معًا، طوالَ الشهور الماضية، وبقدرٍ أعلى حاليًا.
وهى إذ تنطلقُ من الحياد والتوازن فى ملفِّ الهُدنة، تبدو مُنحازةً للغاية فى الشقِّ المدنىِّ وما يخصُّ حياة مليونَى مواطنٍ وقعوا فريسةً بين إراداتٍ حارقة، وتُقدِّمُ فى «المُصالَحَة» تصوُّرًا مُخلِصًا للقضية بما يفوقُ بعضَ أبنائها، لأنه لا ينبع من حساباتٍ نفعيّة، ولا يضعُ شيئا فوق فلسطين، أكان تيَّارًا أو أيديولوجيا أو مصالحَ مُتنازِعَةً فى لعبة المحاور والأحلاف.
مُؤتمرُ الاستجابة يسعى لبناء رأىٍ عام دولىٍّ لجهة تحييد المسألة الإنسانية، ويُحتَمَلُ أن يُفضى بجانب جهودٍ أُخرى إلى إعادة تشغيل معبر رفح فى مدىً قريبٍ. وتلك الخطوة تُستَكمَلُ بإنجازِ التوافُقات المطلوبة بين الفصائل، بحيث تتراجع «حماس» لصالح السلطة الوطنية، فتحقَّق المنفعةُ المُباشرة من الإغاثة، وتُزَاح أجندةُ الاحتلال الرامية لاستبعاد رام الله من أيَّة ورشة عملٍ بشأن مُستقبل غزَّة.
وإلى ذلك، فإنَّ مُحاولات تجديد مُقترحات الهُدنة يُمكِنُ أن تنشَطَ أيضًا، انطلاقًا من عُسْر الحَسْم الميدانىِّ على الطَرَفَين، وقناعة الحماسيِّين بأنهم استنفدوا فُرَص السير المفتوح فى الزمن، وانقطعَ عنهم المَدَدُ المَأمول بعدما خذلَتْهم المُمانَعةُ، وفاضَتْ مواجعُ الناس عن مقدرةِ الاحتمال والمُواصَلَة، بينما تشى الوقائعُ بأنَّ «نتنياهو» قد يكون مُجبَرًا على التفاهُم، لو صَدَقَتْ إدارةُ «ترامب» فى سَعيِها لتصفية الحروب، وأرادتْ أن تفتتِحَ ولايتها من نُقطةٍ طبيعيَّة باردة، وبأقلِّ منسوبٍ من الفوضى والتوتر.
ستتوقَّفُ الحربُ يومًا ما، ولن تكونَ الجَردةُ الأخيرةُ فى صالح أىٍّ من طَرفَيها المُباشِرَيْن. وحدهم الضحايا سينتصرون معنويًّا بإنقاذ مَنْ تبقَّى منهم، وباستشعار الأُصوليَّات المُتنازِعَة على أجسادهم أنها ما أحرزت نصرًا، ولا أنهَتْ قُدرةَ فلسطين على البقاء، واحتفاظها بصفاء قضيّتها من الاستتباع أو التشويه. والدُّوَل أيضًا ستقفُ أمامَ مراياها لتجرِدَ كُشوفَ الحساب، سيكونُ العارُ من نصيب الولايات المُتَّحدة، ولن يعودَ رأسُ الشيعيَّةِ المُسلَّحةِ لِمَا كان عليه أو يتمنَّاه، وسيحتاجُ العالمُ وقتًا طويلاً للتعافى من مأزقِه الأخلاقىِّ، وقتَها ستكونُ مصرُ بين طائفةٍ قليلةٍ مِمَّن لَمْ يَنزلِقوا فى المُغامرات، ولا تاجروا بالمَواجع والآلام، أو استهلكوا الدعايات بأكثر مِمَّا لعبوا أدوارًا حقيقيَّة مُثمِرَة. أراد لها البعضُ أن تتورَّط فى اللعبة الحارقة، وابتزَّها آخرون، وزايد عليها طرفٌ ثالثٌ، لكنها كانت أثبَتَ على المبدأ، وأكثر إخلاصًا للقضيَّة من التُجَّار والمُغامرين، وأقدرَ على الحَسْم فى المسائل المِفصَليَّة من مَرضَى العاطفة ومُدمِنى المنابر والخُطَب.
وعندما يُكتَبُ تاريخُ مرحلة الطوفان بصفاءٍ وتجرُّد، ودون تحريفٍ أو اصطناع، سيُذكَرُ أنها أحبطت خططَ التهجير وتصفية القضية بإرادةٍ شِبه مُنفَرِدة، وأنها ما حكَّمَتْ الماضى وذكرياته السوداء فى مَواقفها المُعتَدِلَة العادلة، كما لِمْ تَنظُرْ لفلسطين بالقطعة أو الهوى، مثلما فعلَ آخرون، ولم تَضَعْ فصيلاً فوق آخر، ولا وَضَعَتْ شيئًا على الإطلاق فوقَ الأرض والناس.