أن تنطلق حملة بعنوان "بلدنا الحلوة" لكشف جمال وتراث وآثار البلد، لهو حدث مهم يستحق الاحتفاء، ويستحق أن نشيد به، وذلك لكون مصر تحفل بالعديد من المناطق والإطلالات التي تستحق أن يراها العالم فهي "أم الدنيا".. وربما تبدو تلك العبارة التقريرية القصيرة للبعض مجرد "كليشيه" مدرسي مكرر، أو قول تقليدي مفروغ منه.. ولأنني ما زلت أُسكِن بداخلي ذلك الصبي الفضولي الذي يبحث في أصل كل شيء وأي شيء قبل أن يُسلم به، فقد أنفقت قدرًا لا بأس به من وقتي وتفكيري للبحث عن الأصول والأسانيد التاريخية لاستحقاق مصر ذلك الوصف..
هل مرجع تلك الصفة حقيقة أن من بين حوالي 195 دولة مُعتَرَف بها دوليًا بشكل رسمي، فإن مصر تاريخيًا هي أقدم دولة ثابتة وموحدة ومستقرة على نفس إقليمها، ولم يحدث اتقطاع لوجودها ككيان سياسي له خصوصيته وشعبه وإقليمه وحكومته حتى عندما كانت واقعة تحت احتلال أو حكم خارجي، فبذلك تعد هي الأم لفكرة "الدولة التي تضم أقاليم ومدن، في المرحلة اللاحقة لمرحلة " كل مدينة دولة بذاتها"؟
أم لأنها، كما وصفها العلّامة عبد الرحمن بن خلدون "واسطة العمران"، وهو وصف تكرر لها عندما وصفها المؤرخ ابن دقماق ب"واسطة عقد الأمصار" في عنوان كتابه الشهير.. وهذا بحكم وقوعها جغرافيًا وحضاريًا في مركز حضارات العالم القديم، مما جعلها بمثابة ما يمكنني وصفه ب"بيت العائلة" لتلك الحضارات التي لعبت مصر دور المُلتَقَى لها، و"نظمت" لقاءها وحركة التبادل الحضاري فيما بينها؟ وهذا ليس مجرد كلام إنشائي أو شعارات رومانسية، فقد لعبت عواصم مصر في أكثر من مرحلة تاريخية دور "العاصمة العالمية/الكوزموپوليتانية"، مثل طِيبة في عصر الإمبراطورية والسيادة العالمية خاصة في عهد الملك أمنحتب الثالث، أو الإسكندرية في العصر البطلمي، أو القاهرة في العصر المملوكي، فالمتأمل في الكتابات عن المدن الثلاث خلال العصور سالفة الذكر يرى تكرار ملاحظات ضمها مختلف الثقافات والأعراق والنماذج الحضارية، وكونها قبلة للتجار والفنانين والعلماء والمبعوثين السياسيين وطلاب العلم من كل مكان..
وما دمنا قد ذكرنا الحضارة، فاعتقد أن فضل الحضارة المصرية القديمة على حضارات العالم يمكن أن نصفه بأنه "من المعلوم بالضرورة في التاريخ"، ولا أقصد فقط مظاهر الحضارة المادية كالمعمار والفن والفلك والطب والكيمياء والتحنيط والهندسة، بل أضيف مظاهر الحضارة اللامادية من فكر وأدب وفلسفة، ويكفي أن بينما عانى كثير من مفكرو أوروپا منذ العصور القديمة وحتى بداية عصر النهضة من المطاردة والحبس والقتل-وما قصة سقراط بمجهولة-كان المفكرون والحكماء في مصر يُعينون كوزراء مثل الحكيم بتاح حتب، وزير الملك زوسر.. ورغم سعي أوروپا خلال عصر الاستعمار أن تشيع أن بداية الفلسفة كانت فيها في اليونان القديم، إلا أن الواقع التاريخي يقول أن مصر هي أم الفلسفة، وتكفي قراءة لكتابات الحكماء إيبور وبتاح حتب وأوني وغيرهم للتأكد من ذلك.. وأضيف كذلك أن أوروپا التي تفخر بتشريعات المشرع اليوناني صولون وقوانين الإمبراطور الروماني چستنيان، قد سبقها بقرون الملك المصري حورمحب بتقديم أول نموذج في التاريخ للدستور المنظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم بالتشريع الإداري والرقابة الإدارية..
ومن ناحية الدين والحكمة، تستحق مصر أيضًا وصفها بالأم، منذ قدمت أول نموذج ل"الديانة الأخلاقية" في فكرة "الماعت" والبعث والحساب والثواب والعقاب، وهو ما جعلها تستحق وصف عالم الآثار الأمريكي چيمس هنري برستيد لها ب"فجر الضمير"، مرورًا بتفردها في كنيستها القبطية الأرثذوكسية العريقة-التي أسسها القديس مرقس- عن سائر كنائس العالم بمذهب يخلق مزيجًا رائعًا بين الانتمائين الديني والوطني، ونضالها ضد القهر الديني الروماني وتقديمها أقدم نموذج للرهبنة على أيدي القديسين أنطونيوس وباخوميوس ، ووصولًا لأنها البلد الذي "استقبل القرآن ثم علّم العالم قراءته"، وأنها على مر مختلف عصور الحضارة الإسلامية وإلى يومنا هذا قبلة لطلاب العلم الديني، ومسقط رأس المذهب الشافعي، أحد المذاهب الأربعة الرئيسية..
يذهب البعض في تفسير الوصف لأسباب "اقتصادية غذائية، فيذكر بعبارات منبهرة ثراء مصر بالخيرات حتى نرى من يقول أنها "إن جاع العالم تُطعمه، وإن جاعت هي لا يفي العالم بحاجتها"، وهي نعمة جلبت عليها نقمة التعرض المتكرر للغزو واستنزاف خيراتها من المحتلين كالرومان والبيزنطيين والعثمانيين والإنجليز..
وعودة للحضارة، فمما يؤكد جدارة مصر بلقب "أم الدنيا"، أنها حملت صفتان من صفات الأم: الحزم في غير تجبر، والحماية والإنقاذ.
فأما عن عدم التجبر، فهات لي حضارة في التاريخ القديم استطاعت أن تقيم إمبراطورية واسعة وسيادة عالمية قوية، دون أن توصم بارتكاب أمور كقهر الشعوب وترويعها واستنزاف ثرواتها، وما تاريخ الأشوريين والبابليين والرومان والفُرس بخالٍ من ذلك.. غير أن مصر قد حققت تلك المعادلة الصعبة، فبعد قيام الملك المحارب أحمس بطرد الهكسوس، وضع سياسة تبناها وطورها خلفاءه إزاء البلدان الواقعة في نطاق الأمن القومي المصري: تريد مصر فقط تأمين طرق التجارة والهجرة، وإقرار السلم واستقرار التبادل التجاري والحضاري، واحترام حق كل شعب في أن يحكم نفسه كما يريد، والضرب على أيدي أمراء الحرب المشاغبين.
لم تكن تلك مجرد دعاية كاذبة أو سعي لسلام غير عادل يقوم على قهر الشعوب كما فعل الرومان بما يوصف ب"السلام الروماني/Pax Romana"، بل كان أمرًا واقعًا، فاكتفى المصريون بترك حاميات بسيطة وتشييد بضع مراكز لمراقبة الأمن والتدخل السريع، والتحرك بالجيش في الأرجاء من وقت لآخر فيما يوصف ب"المظاهرة العسكرية"، واعتمدوا في إقرار السلم وحماية نفوذهم على إيمان الشعوب والمدن بالمشروع المصري، إلا لو وقع ما يتطلب تدخل جيش مصر بشكل مباشر.
وأما صفة الحماية والإنقاذ، فقد لعبت مصر دور "سفينة نوح" للحضارة الإنسانية أكثر من مرة.. فعنددما اجتاحت شعوب جزر البحر الهمجية شرقي المتوسط في العام 1177 ق.م. المعروف ب"عام سقوط الحضارة"، ودمروا حضارات شرقي المتوسط مثل مملكة خيتا في الاناضول ومملكة أوغاريت في الشام، صمدت مصر بقيادة ملكها رمسيس الثالث وخرج الأسطول المصري للبحر المتوسط لردع الغزاة لتصبح مصر حصن حضارة الشرق القديم..
وبينما تعرضت حضارات الشرق للدمار الأخير بسبب حروب فارس واليونان، احتضنت الإسكندرية المصرية مشروع كلا من بطليموس الأول وبطليموس الثاني "مكتبة الإسكندرية"، التي قامت على جمع كتب وانتاج حضارات مصر واليونان وآسيا الصغرى، لحمايتها من الاندثار.
وفي العصر المملوكي، بينما مزق المغول فارس والعراق، واجتاحوا الشام أكثر من مرة، وفي الغرب تمزق المغرب في حروب دول البربر وراح الإسپان يقضمون موطن حضارة الأندلس قطعة تلو الأخرى، تحولت حاضرتا مصر-القاهرة والإسكندرية-إلى وطن جديد للهاربين من ويلات تلك الحروب شرقًا وغربًا، واستقبلت مصر بينهم العلماء والفقهاء وصناع الحضارة لتصبح مصر هي الحصن الأخير للحضارة الإسلامية والتي سقطت نهائيًا بسقوط مصر في يد الاحتلال العثماني..
كل ما سبق إن لم يكفي لتوصف مصر بأنها أم الدنيا، فهذا في رأيي جحود فاحش وإنكار مشين لفضل-بل فضائل-هذا البلد على حضارة بني الإنسان، الذين يكفيهم في بحثهم عن أسباب وصفها بذلك أن ينظروا فقط لأحداث التاريخ المذمور فيها اسم مصر..