ناهد صلاح

قيس الزبيدي.. واهب الروح في السينما التسجيلية

الإثنين، 02 ديسمبر 2024 04:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بدا مجهدًا لدرجة جعلتني أفكر في التراجع عن إجراء الحوار.. كان قد انتهى لتوه من مشاهدة أحد الأفلام المشاركة في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، ذلك في العام 2001 دورة العودة لمهرجان الإسماعيلية كما أطلقت عليها الصحافة بعد إنقطاع دام نحو خمس سنوات سنوات، العودة برئاسة الناقد علي أبو شادي، حيث كان المخرج العراقي قيس الزبيدي عضوًا في لجنة التحكيم الدولية بالمهرجان الذي يرتبط به، فمن ناحية سبق أن كرمه المهرجان وعرض أفلامه وأصدر كتابًا عنه، ومن ناحية أخرى إنه المهرجان المتخصص في الأفلام التي يصنعها ويهتم بها.

لباقته الزائدة دفعته للإجابة عن السؤال تلو الآخر فتحدث عن مشاركته في المهرجان الاسماعيلية وعن علاقته بالسينما التسجيلية وعن أهم افلامه وعن وعن وعن أشياء كثيرة تتعلق بمشواره الذي هيأه لسينما شديدة الخصوصية آمن بها وقدم أفلامًا عديدة تناول خلالها أهم القضايا العربية وعبر فيها عن الهم العربي وخاصة القضية الفلسطينية.

ـجاءت أفلام قيس الزبيدي في مجملها تعبيرًا عن الهم العربي ونضال الشعب الفلسطيني، كان من الملحوظ فيها تركيزه على الأطفال، بما يثير التساؤل عن المخرج المهموم بالقضايا العربية، خصوصًا الموضوع الفلسطيني. باعتباره عراقيًا درس في ألمانيا وعمل في سوريا، كما لو أنه أدرك القاسم المشترك في الهم العربي العام، كما أخبرني مضيفًا أنه بالاطلاع على وضع السينما التسجيلية لاحظ غيابًا شبه تام لهذا الموضوع في الإعلام الغربي، فمن هذه الزاوية رأى ضرورة الحضور في هذا الإعلام، واستوعب أن المرشح الإنساني لهذه القضية هو الطفل الفلسطيني نفسه الذي يقع عليه الظلم وهو بريء،  الأمر الذي يعكس قسوة وجوهر القضية الفلسطينية لدى المجتمع الغربي. كانت الفكرة في البداية هي كيف يتناول شخص أطفالًا في مخيم، ووجد في فكرة فيلمه "بعيدًا عن الأرض" هذه الإمكانية، عندما قدم هذا الفيلم الذي تناول وضع الأطفال الفلسطينيين عام 69 وقت تشكيل المقاومة الفلسطينية الفعلية على أرض الواقع في أعقاب نكسة يونيو 67 ، لم يكن هذا الطفل بعيدًا فقط عن الوطن وإنما أيضًا عن دائرة الصراع وبالتالي عن وعي الجميع، في تجربته الثانية قدم فيلم "الزيارة" وهو روائي تجريبي قصير يستمد موضوعه ودلالاته من قصائد الشعراء الفلسطينيين: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد وغيرهم، ثم أعد في العمل الثالث شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب، هو حصيلة تجربة منى السعودي بمخيم البقعة في الأردن عندما أعطت أطفال المخيم أوراقًا وأقلامًا ملونة وطلبت منهم الرسم وأجرى معهم بضعة لقاءات.

إذن.. فإن أفلامه منذ البداية تعد وثيقة يمكن الاستناد عليها لتوضيح القضية العربية في فلسطين ـ التاريخ يعتمد كثيرًا على الوثائق، والفيلم التسجيلي أحد أهم مصادرها، وبالفعل لعبت أفلامه دور الوثيقة بشكل كبير دون شك، وهذا يتعلق أولًا بطبيعة القضية المطروحة وأكبر مثال لذلك فيلم "فلسطين سجل شعب"، إنه فيلم يستند إلى الوثيقة من الأرشيف سواء كانت سينمائية أم صور فوتوغرافية، إضافة إلى استنطاق مؤرخين في مقابلات حول تاريخ فلسطين والصراع العربي الصهيوني.

أما الفيلم الذي اعتمد على تنوع مصادر الوثيقة إلى حد كبير فهو "واهب الحرية" الذي يتناول المقاومة الوطنية اللبنانية، ففضلًا عن التصوير المباشر كان هناك إعتماد على الصحافة والصور الفوتوغرافية وشريط الفيديو المنزلي وأشرطة الفيديو التلفزيونية والمقابلة المباشرة مع الأشخاص، كما كان الرسم الذي يعنى بالموضوع كوثيقة وجدانية، والشعر والاغنية السياسية مارسيل خليفة وغيره، أيضًا كانت الموسيقى التصويرية التي استندت إلى الأغاني والألحان الشعبية اللبنانية والفيلم الروائي الذي صور مشاهد مقاومة تستند إلى وقائع أعيد تمثيلها وحدثت في الواقع وليست من ابتكار المخرج، فضلًا عن الأشرطة الاذاعية، إضافة إلى الكتاب الذي تحدث عن المقاومة في مقاطع منها مقطع يحكي عن حرب الجبل مثلًا وكيف جرت وقائعها، إضافة إلى المادة الأرشيفية البصرية، منها التصريحات السياسية مثل التصريحات الاسرائيلية حول المقاومة اللبنانية.. هذا التنوع في الوثيقة وطبيعتها منحه كمخرج وصانع فيلم إمكانية إعادة بناء وسرد الحدث والتصوير الذي امتد من السبعينيات وحتى العام 89، وهنا يتدخل مرة أخرى المونتاج والحركة بين ماهية الصور وربطها ببعضها البعض بشكل عضوي، كان الفيلم يقوم على قدرة المونتاج على تفجير صورة المقاومة بشكلها البصري والسمعي، كما كان يكشف أيضًا عن غنى المقاومة من عمليات عفوية إلى عمليات عسكرية منظمة ومن أحزاب إلى تنظيمات سياسية وعسكرية إلى مقاومة شعبية أو فردية.

إيمانه الكبير بالسينما التسجيلية، جعلني أتوقف عند محطات كثيرة في مشواره واسأله عما استفاده من تجربته مع هذا النوع السينمائي، فأجابني:  "الفيلم التسجيلي يضع أمام المخرج مهمة محددة ويلزمه أن يكون مطابقًا للحالة الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية بسبب طبيعة الفيلم، وهذا لا ينفي إمكانية عمل فيلم تسجيلي شاعري، ولكني اعتمدت  في الأفلام الأخيرة الطويلة على التوثيق للحفاظ على الذاكرة الشعبية الموجودة بالصور والوثائق ضمن قيمة تاريخ فلسطين مثلًا أو مقاومة شعب.. وهكذا".

هذا الإيمان والارتباط الشديد بالسينما التسجيلية، لم يمنعه من تقديم فيلمه الروائي الوحيد "اليازرلي" في العام 1974 من إنتاج مؤسسة السينما السورية، وفيه كان يتوق كما أخبرني إلى صنع حالة مغايرة، فقدم صورة مبتكرة تحمل خيالًا سرديًا ورؤىً وأحلامًا.

هاهو غادرنا قيس الزبيدي بعد نحو نصف قرن من الولع بالسينما التي لم تغادره لحظة، بل بقيت معه وبقيت له كأثر يسجل تاريخه كمخرج ومصوّر ومونتير وباحث سينمائي، واحدًا من رواد وآباء السينما التسجيلية العربية.. العربي المولود في بغداد (1945)، الدارس  للمونتاج والتصوير السينمائي في "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، في ستينيات القرن الماضي، المهموم بالقضايا العربية عمومًا والمنخرط فيها بحضوره في بيروت أثناء إندلاع حربها الأهلية (1975 ـ 1990)، وقبلها في دمشق وبغداد،  ليسجل تاريخه خطوات راسخة وممتدة على دروب نضالية على المستوى الإنساني والثقافي والفكري.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة