العام 2024 .. منذ أسبوعين ذهبت الى المسرح القومي بميدان العتبة بالقاهرة لمشاهدة عرضا مسرحيا، وتصادف حضور الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة للعرض صافحته وكدت أن أسأله كيف اخترق موكبه الشوارع المؤدية الى المسرح العريق وهل رأى ما رأيته من الفوضى والعشوائية بالميدان وحول المسرح وتحوله الى أكبر وأضخم سوق عشوائي لألاف الباعة الجائلين في الميدان التاريخي وفي الشوارع المتفرعة منه .وبضائع الباعة المعلقة على أسوار المسرح
المشهد العام لا يليق فقط بوجود قلعة فنية مجسدة في أبو المسارح في مصر وهو مسرح الأزبكية - المسرح القومي فيما بعد- بحديقته المعروفة لكنه أيضا لا يليق بأقدم ميادين مصر التاريخية والعريقة فقد اصاب التشوه قلب القاهرة الخديوية الذي كان يفيض بالفن والثقافة والطراز المعماري المميز لمبانيه ومنشآته ومحلاته القديمة .الزحام لا يوصف وكأن الميدان احتشد فيه وفي شوارعه المتفرعة منه كل الباعة الجائلين في مصر وتشوهت ملامحه واختفت مبانيه الفخمة. وعجزت محاولات انقاذه من هذا التشوه واستعادة بريقه الحضاري بمبانيه ومساحاته الخضراء حتى أطلق عليها اسم " العتبة الخضراء" وأظهر جمالها القديم الفيلم الشهير الذي حمل اسم الميدان ولعب بطولته اسماعيل ياسين وصباح وأحمد مظهر عام 59.
المشكلات تحاصر الميدان التجارى التاريخي بالعتبة والذي ظل محتفظا بصورته الحضارية حتى نهاية الثمانينات تقريبا مع ميدان الأوبرا
العام 1867 ...يعود الخديوي اسماعيل من باريس محملا بالاعجاب والانبهار بالفن المعماري الفرنسي في ميادين باريس وأراد انشاء ميادين مماثلة في القاهرة ليبدأ بإنشاء حديقة الأزبكية وميدان العتبة بداية من عام ١٨٧٢م على يد المهندس الفرنسى باريل ديشان، وتم الانتهاء من كافة أعمال التصميم والتجهز الخاصة بسوق العتبة عام ١٨٩٢، حيث كان يتكون من الداخل من شارعين رئيسيين يتوسطان المبنى، ويعلوهما سقف معدني مخروطى يبرز منه فانوس للإضاءة.
وبعد تطوير الميدان أصبحت العتبة أحد أشهر الأماكن التراثية في مصر، وتحولت إلى سوق ضخم يقصده الأثرياء والأوروبيون، وضم الميدان بعد تطويره واحدة من أقدم وأشهر العمارات التراثية بل تحفة معمارية في قلب ميدان العتبة وهى عمارة «تيرينج» والتى تتكون من خمسة طوابق أعلاها كرة كبيرة تحملها أربعة تماثيل بشكل مائع، فقد صممت بطريقة معمارية على الطراز الفرنسى على يد المهندس الشهير «أوسكار هورويتز"، والذى درس فن العمارة في النمسا، وجاء إلى مصر عام ١٩١٥م وقام بتصميم تلك العمارة حتى تكون مركزًا تجاريًا في قلب العاصمة المصرية.
العام 1990 ... بدأت موجات الهجرة الداخلية من محافظات الوجه البحرى والقبلى، ضربت العشوائية السوق التاريخية بعد أن غزت رحلات هجرة من المحافظات الملاصقة للقاهرة، ومن صعيد مصر، لتتحول السوق قبلة للباحثين عن البضائع الأوروبية عالية الجودة عندما أقيمت السوق، إلى مقصد لمتوسطى الحال الباحثين. وكان لاقرار قانون المالك والمستأجر الدور المؤثر في موجات الهجرة الداخلية من محافظات بحرى وقبلى، الى القاهرة، فالفلاحون لم يجدوا مصدر رزق سوى الهجرة من أجل التجارة وكسب العيش وهيمنت عائلات بأكملها على مناطق في قلب القاهرة، في الأسواق الشعبية مثل العتبة والموسكى.
نقل أسواق العتبة لخارج القاهرة لبدء مرحلة التطوير.. المحافظ يكشف تطورات هامة بوسط العاصمة
العام 2006 ... وفي الساعات الأولى من يوم الاثنين ٩ مايو ، اندلع حريق هائل بأحد الفنادق في شارع الرويعى بميدان العتبة، استمر لمدة ٨ ساعات قبل ان تنجح قوات الحماية المدنية باستخدام ١٥ سيارة إطفاء في السيطرة على الحريق الذى أحرق مبانى وبضائع تقدر بالمليارات، وتسبب في إصابة أكثر من ٤٥ شخصا.
العام 2019، وفي أحد ايام شهر يونيو التهمت النيران عشرات المحال التجارية العاملة في مجال إكسسوار المحمول بشارع العطار في سوق خضار العتبة، حيث أفاد شهود عيان بانفجار أنبوبة بوتاجاز ووقوع ماس كهربائى تسبب في اشتعال النيران في أكثر من ٨٠ محلا تجاريا، بخسائر تتجاوز الـ ١٥٠ مليون جنيه، حيث امتدت النيران للمحلات التجارية قبل أن تنجح الحماية المدنية في الدفع بأكثر من ٣٠ سيارة إطفاء نجحت في إخماد النيران، لتنطلق مطالب برلمانية وحكومية للمطالبة بتطوير سوق العتبة بعدما أشارت أصابع الاتهام إلى أن استخدام البائعين لوصلات كهربائية عشوائية هى ما تسبب حرائق متعددة في العتبة.
في أعقاب الحريق ، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي ، بتطوير" العتبة الخضرا" وإعادة تأهيلها، ووضعت الحكومة خطة لتطوير سوق العتبة بهدف تحويلها إلى سوق تجارية حضارية بمواصفات قياسية ضمن مشروع القاهرة الخديوية، لتكون أول سوق حضارية بالقاهرة الخديوية. وكلف الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء باستغلال الأرض الفضاء المجاورة للسوق، لبناء سوق بديلة عليها، لتسكين شاغلى المحلات بسوق العتبة القديمة، تمهيدًا للانتهاء من جميع أعمال تطوير السوق القديمة بأكملها وعودتها لرونقها وشكلها التاريخى مع الحفاظ على واجهاته التاريخية وطرازه المعمارى الفريد، وذلك ضمن مشروع تطوير القاهرة الخديوية بوجه عام.
وفي نوفمبر 2020، وافق مجلس الوزراء، على إسناد مبنى الجمالون الكائن بقطعة الأرض ٧ شارع الترجمان إلى شركة المقاولون العرب، لنقل جميع الشاغلين بمنطقة المثلث بسوق العتبة، كمرحلة أولى لسرعة البدء في أعمال تطوير السوق التى تستهدف العودة للشكل الخارجى التاريخى للسوق مثلما كان، والحفاظ على البوابات التراثية الموجودة بها، وتزويدها بالاحتياطات اللازمة، لعدم تكرار مثل هذه الحوادث.
بعدها بثلاث أو اربع سنوات تعددت الاجتماعات، فالدكتورة منال عوض، عقب توليها منصب وزير التنمية المحلية في يوليو الماضي، عقدت اجتماعًا موسعا مع الدكتور إبراهيم صابر محافظ القاهرة، وقيادات المحافظة وممثلين عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية هابيتات، و رابطة الباعة الجائلين بالعتبة، لاستعراض مقترح تطوير ورفع كفاءة شوارع الجوهري ويوسف نجيب والعسيلي في صورته النهائية والذي أعده استشاري برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية هابيتات، تمهيدًا لتنفيذه بعد إزالة آثار الحريق الذي نشب في عقاري شارع الجوهري بالموسكي.ويراعي المقترح الاشتراطات الخاصة بالإطفاء والحريق والصرف، وسهولة ويسر حركة المواطنين المترددين علي المنطقة وغيرها من المتطلبات، كما سيكون المقترح نموذجًا يمكن تطبيقه في شوارع أخرى بالمنطقة بما يساهم في الحفاظ علي أمن وسلامة المواطنين والباعة وأصحاب المحلات التجارية الموجودين في المنطقة.
وتم استعراض شكل التصميمات النهائية الخاصة بالوحدات المقترحة للباعة الجائلين في شوارع الجوهري ويوسف نجيب والعسيلي بالعتبة بدلًا من الفرشة التي كانت تستخدم قبل الحريق في عرض منتجاتهم وبضائعهم والتي سيتم تخصيصها لكل بائع في تلك الشوارع المستهدفة بجوار عقاري شارع الجوهري اللذين تعرضا للحريق.
وأخيرا يوم الاثنين الماضي يعلن محافظ القاهرة أنه سيتم تطوير منطقة العتبة قريبا..وإنه سيتم رفع كفاءة المنطقة بأكملها وتجهيزها على أعلى مستوى ومراعاة اشتراطات السلامة العامة والحماية المدنية، تجنبًا لحدوث أي حرائق قد تحدث، مشيرًا إلى أن التنفيذ سيكون في القريب العاجل بعد الانتهاء من الإجراءات النهائية لبدء تنفيذ المشروع.
فهل تبدأ عملية انقاذ العتبة الخضرا ..والمسرح القومي وما تبقى من القاهرة الخديوية في منطقة العتبة ...؟