على الرغم من كون منطقة الشرق الأوسط، هي الأكثر اشتعالا في العالم، في اللحظة الراهنة، في ضوء العدوان الإسرائيلي المتواتر على العديد من دولها، ناهيك عن المستجدات الأخيرة في سوريا، تبدو تغييرات كبيرة يشهدها العالم، باتت تمس تلك الثوابت التي أرساها المجتمع الدولي، منذ عقود، في إطار البناء الأمريكي للنظام العالمي، في الأربعينات من القرن الماضي، عبر تصدير نموذج الديمقراطية، باعتباره الأساس الذي يمكن للأنظمة الحاكمة في الغرب استلهام الشرعية منه، عبر صناديق الانتخاب، بينما سعت إلى تعميمه ليتجاوز دول المعسكر الغربي بعد انتهاء الحرب الباردة، وما أسفرت عنه من سقوط الاتحاد السوفيتي، ومن ثم تدشين نظام أحادي القطبية يعتمد منهج الهيمنة.
وثمة العديد من الإرهاصات التي سبقت موجة الاعتداء على الديمقراطية، بدءً من الاحتجاجات التي طالبت بإسقاط الأنظمة الحاكمة في الغرب، مرورا بتراجع الثقة في الأحزاب السياسية، وحتى الصعود الكبير لتيارات اليمين المتطرف، وهي الظواهر، والتي وإن كانت معادية للمبدأ، إلا أنها تحققت من خلاله، فالتظاهرات، التي شهدتها دول ديمقراطية عريقة، خاصة في أواخر العقد الماضي، تجد مرجعيتها في مبدأ حرية التعبير، الذي ينبثق أساس من مفهوم الديمقراطية، وهو ما ينطبق كذلك على صعود التيارات اليمينية المعادية للمفهوم، والتي جاءت إلى السلطة، سواء التنفيذية أو التشريعية، عبر صناديق الانتخاب.
فلو رصدنا التغييرات الكبيرة التي شهدها الغرب، خلال السنوات الماضية، نجد أن حالة التمرد الشعبي، على الديمقراطية بصورتها التقليدية تصاعدت تدريجيا، وللمفارقة أنها انطلقت من واشنطن، عبر اختيار دونالد ترامب رئيسا، دون خلفية سياسية، على حساب قيادية حزبية مخضرمة على غرار هيلاري كلينتون، التي تنقلت بخطوات ثابتة بين أروقة القصور في واشنطن، بدءً من البيت الأبيض، باعتبارها السيدة الأولى، ثم إلى معقل وزارة الخارجية، خلال حقبة باراك أوباما، بينما تزايدت حدة الانقلاب على المفهوم، عبر مظاهرات شابها قدر كبير من العنف، في حين كان نجاح الصين، والموصومة من قبل الغرب بـ"الديكتاتورية"، في احتواء وباء كورونا، بمثابة مرحلة أخرى، مما يمكننا تسميته بـ"الحنين" إلى قدر أكبر من الصلابة السياسية، وهو الأمر الذي بات ممتدا، من الوباء إلى العديد من القضايا الأخرى، ومنها أزمة اللاجئين وأزمات الاقتصاد، وغيرها.
إلا أن المشاهد الأخيرة، سواء في ألمانيا، بعد سحب الثقة من الحكومة، أو قبل ذلك فرنسا، مع الصعود غير المتوقع لليسار، مع تقارب النسب مع اليمين واليمين المتطرف، لتحدث حالة من التعادل السياسي غير المسبوق، وحتى ما شهدته كوريا الجنوبية من تطورات، أشبه بالانقلاب والانقلاب المضاد، بمثابة مرحلة أخرى من التصعيد ضد الديمقراطية، بمفهومها التقليدي، وإن كان التغيير الحادث مازال يعتمد نفس الأدوات، إذا ما استثنينا المشهد الكوري، والذي يبقى أكثر حدة، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة المخاض التي يشهدها النظام الدولي، والحاجة الملحة إلى تحديث المفاهيم الحاكمة به، عبر تصدير تجارب جديدة، تبدو مناسبة للحقبة الراهنة، بما تحمله من مستجدات.
والمفارقة الملفتة، أن حالة العداء الشعبوية للديمقراطية، تزامنت بصورة كبيرة مع صعود ترامب للمرة الأولى، إلى عرش البيت الأبيض، بينما اصطبغت بحالة أكثر رسمية مع اقترابه من ولايته الثانية، في إطار حالة من الانقلاب المؤسساتي، في إطار صراع واضح بين السلطات التنفيذية والتشريعية، في ضوء التزايد الكبير في مقاعد المعارضة في البرلمانات، وحالة عامة أشبه بالخروج عن مبدأ تداول السلطة، عبر استباق الفترات الدستورية، سواء في الرئاسة أو البرلمان، بقرارات الحل أو العزل، وهو ما يمثل تطورا ملموسا لا يمكن تجاهله، عند رصد المشهد الديمقراطي العالمي.
ولعل الأزمة الحقيقية التي باتت تواجهها الديمقراطية، في صورتها التقليدية، والتي بزغت في واقع الأمر، تتجسد في ارتباطها بالاستقرار، سواء فيما يتعلق بالاقتصاد، أو الأمن، وهي العناصر التي باتت تفتقدها "دول العالم الأول"، فالغرب بات يعاني جراء تهديدات كبيرة، سواء على خلفية مخاوف مرتبطة بالزيادة الكبيرة في أعداد اللاجئين، أو على المستوى الإقليمي مع اقترابهم جغرافيا من نطاق الصراع العسكري المباشر، منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا، وهو ما ينطبق بصورة كبيرة على المشهد في كوريا الجنوبية، مع تصاعد حدة التهديدات المتبادلة مع جارتها الشمالية.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن المستجدات الأخيرة، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، عدم مصداقية النظرية التي طالما روجت لها واشنطن، والقائمة أن الديمقراطية، بالمنظور الغربي، هي أحد أهم الأسس لإرساء الاستقرار، في حين أن حالة المخاض الراهنة، التي يشهدها العالم أثبتت العكس، فالاستقرار هو السبيل لنماء النظم الديمقراطية، وهو ما يعكس فشل واشنطن الذريع، رغم محاولاتها المضنية، وصلت إلى حد التدخل العسكري لإسقاط أنظمة قائمة، تحت العديد من الذرائع، وخلق نماذج ديمقراطية بديلة، حيث كان السبب الرئيسي في فشلها هو انعدام الاستقرار، حتى وصل الأمر إلى العودة إلى نقطة الصفر، على غرار المشهد الأفغاني، والذي شهد سقوط طالبان، إثر الغزو الأمريكي، في عام 2001، لتعود الجماعة مجددا إلى السلطة، بعد عقدين بالتمام والكمال، وكأن شيئا لم يكن.
وهنا يمكننا القول بأن الديمقراطية ترتبط بالاستقرار، وليس العكس، وهو ما يرتبط بدوره بالعديد من العوامل، أبرزها التنمية في صورتها المستدامة، وتحقيق التوافقات مع دول الجوار، على أساس المصلحة المشتركة، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتم التعامل مع المفهوم على أساسه، بعيدا عن النهج القائم خلال أكثر من ثلاثة عقود، والقائم على فرض نموذج بعينه، في إطار النظرية المغلوطة التي طالما روجها الغرب، بقيادة واشنطن.