هُوجِمَ عبد الحليم حافظ بضراوةٍ عن جُملةٍ فى أغنية. الشابُ الموهوب «إبراهيم» أحسَّ بأنّه تعرَّض للاحتيال العاطفىِّ من النجمة الشهيرة «سهير»/ شادية؛ فبثَّ شكواه فى بُكائيَّةٍ كتبها الشاعر الراحل كامل الشناوى، يقول فى ثناياها: «قدرٌ أحمقُ الخُطَى/ سحقَتْ هامتى خُطاه».
هاج الشيوخُ وماجوا، وقال القُطب الإخوانىُّ محمد الغزالى فى برنامجٍ إذاعىٍّ؛ إنَّ فى الوصفَ مُخالفةً للدين، وزادَ آخرون باعتباره عبثًا بالقدر وتحدِّيًا للمشيئة الإلهية. قصيدةُ «لست قلبى» جاءت ضمن فيلم «معبودة الجماهير» فى مطلع العام 1967، وامتدَّت تفاعلاتُها فيما بعد، لدرجةٍ يُمكن القولُ معها إنَّ مُقدِّمات الهزيمة فى يونيو، وتبعاتِها اللاحقة، لم تَكُن بعيدةً من موقف التيَّار المُحافظ تجاه العبارة وقائلها.
وبقَدر ما عبّرت الهجمةُ عن جمودٍ يَسِمُ الأُصوليَّةَ الدينية بالطبيعة؛ فإنها لم تَخلُ من انفعالٍ بالانتكاسة التى طالت الشعورَ الوطنىَّ، ومن ارتدادٍ إلى الوراء دفاعًا عن هُويَّةٍ مأزومة؛ كما جَرَتْ عادةُ المجتمعات فى أوقات الأزمات، وتحت ضغوط الحوادث الكُبرى والعثرات الطارئة.
مشهدٌ شَبيه؛ وإنْ اختلفَتْ السياقات. يجلسُ زعيمُ ميليشيا هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولانى، أو قائد غُرفة العمليَّات المُشتركة والإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بين وفدٍ لبنانىٍّ يضمُّ نُوّابًا وإعلاميِّين وعددًا من شيوخ عقل الطائفة الدُّرزية، يتقدَّمُهم رَمزُها التاريخىّ العُروبىِّ وليد جنبلاط، صاحب العلاقة المُعقَّدة مع سوريا من زمن حافظ الأسد إلى ابنه بشَّار.
يُهنِّئ الضيوفُ بالنصر، ويَعرِضُ المُضِيف رؤيتَه للمرحلة وعلاقات البلدين، وما يجمعُهما من مُشترَكاتٍ إزاء ميراث «البعث» وتحالُفاته مع الجمهورية الإسلامية، ويقولُ بين كلامٍ كثيرٍ، إنه لا منطقَ فى حساب المنطقة على أحداثٍ انقضَتْ قبل أربعةَ عشرَ قرنًا، وإنَّ هذا «من سُخرية القَدَر».
يعرِفُ الرجلُ الذى التحَمَ بالأُصوليَّة الدينيَّة من أشدِّ نقاطِها صَخبًا وحدّية، أنَّ السماءَ ليست فى خصومةٍ مع الأرض، وبالتأكيد لا تلعبُ بها أو معها لُعبةَ الخداع والتضليل.
وعقائديًّا؛ فإنه لا ينظرُ للتاريخ من زاويةٍ ماديَّةٍ خالصة، وهو آخرُ مَنْ يُمكِنُه تفسيرُ العالم وتفاعلاته بديالكتيك هيجل وطَبقيَّة ماركس. خيرُ البشر من الله، وما أصابهم من شَرٍّ فَمِن أنفسهم؛ ما يعنى أنَّ القدرَ عنده فرعٌ على أصل، وليس أكثرَ من ظِلٍّ لُغوىٍّ للإرادة العُليا.
وبعيدًا من تعكير المياه، واصطياد الهفوات؛ فإنّه لا يتقصَّدُ التشغيبَ على المُقدَّس قَطعًا، ولا يُخرِجُ نفسَه من زاوية التسليم بسابق القضاء ولواحقه. كلُّ ما فى الأمر غالبًا أنَّها مهاوى اللسان، والكلام إذ يسيلُ بالتداعى الحُرِّ، دون مَنطقٍ أو مُراجعةٍ ذهنية؛ ثمَّ غياب الرؤية والعُمق المَعرفىِّ أوَّلاً وأخيرًا.
من زاويتى؛ لا أنطلِقُ فى تأويل اللغة من ثابتٍ أُصولىٍّ، ولا تحت سقفٍ يُحدِّده الفُقهاء والمشتغلون بالدين. جُملتُه لم تَكُن صادمةً لى على أىِّ مستوىً؛ لكنها بدَتْ مُناقِضَةً لتأسيسه الأيديولوجىِّ.
تلقَّيتُها على معنى الاسترسال العارض، وأنها تُعبِّرُ عن خِفَّة الرجلُ وهشاشة بِنيَتِه العقلية. وإذا كان القدرُ مالِكًا لناصية السخرية؛ فإنه قادرٌ على إنتاج المآسى أيضًا. وقد يكونُ منها أنْ تظلَّ الشيعيَّةُ المُسلَّحة حاكمةً للشام بالحضور والغياب، وأنْ تُستبدَلَ أُصوليَّةٌ بأُخرى: تُزاحُ البَعثيَّة المُعمَّمة بصَفَويَّةٍ شِيعيَّة، وتَحِلُّ جِهاديَّةٌ مُغطَّاة بسُنَّيّةٍ عُثمانيَّة، ويتدفَّقُ الجميع على قَصر الشعب؛ إلَّا الشعب نفسه.
لا أتطلَّعُ لإدارة معاركَ هامشيَّةٍ مع الرجل، ولا لتحريضِ بيئته عليه. إنما أليسَ غريبًا أنَّ الإخوان الذين انتفضوا ضدَّ مُطربٍ لم يُطلِق على الناس لِحيةً أو سلاحًا، وما زالوا على العهد إزاء كلِّ مدنىٍّ يُقاوم مشاريعهم، ابتلعوا ما قاله «الجولانى» من دونِ نَقدٍ أو اعتراض؟َ
وبينما تبدو المسألةُ بسيطةً فى وجهِها الظاهر؛ فإنها تَنُمُّ فى الواقع عن ذهنيَّة الحركات الإسلامويَّة كُلِّها، وتُعرِّى سلوكَها؛ بما فيه من تناقُضٍ يُقيِّمُ المواقفَ بالهَوَى، ويُوظِّفُها بما يُحقِّقُ المنفعةَ فحسب؛ بعيدًا من أيَّة اعتباراتٍ أخلاقية، أو انحيازاتٍ قِيَميَّةٍ مُجرَّدة.
ومَنْ يُكَفِّرُ شاعرًا بجُملةٍ، ويُمرِّرُها لو جاءت من شَبيهٍ أو حليف، هو نفسُه الذى ينتقدُ شُموليَّةَ الأنظمة العربية، ثمَّ يَسقطُ فيها مع أوَّل فُرصةٍ مواتية، ويُدِينُ العائلةَ الأسديَّةَ بإيران، ثمَّ لا يُوفِّرُ فُرصةً للعمل والعمالة لصالح أجندةٍ مُضادَّة.
بُنِيَت سرديَّةُ التيَّار الإسلامىِّ على أنَّ الحكومات فاشلةٌ وفاسدة، تُعَيِّنُ المُوالين وذَوى القُربَى، وتُعِينُ البعيدَ على القريب. انتُقِدَت عواصمُ المنطقة، قبل الربيع العربىِّ وبعده؛ لأنها تُهادِنُ الغربَ، وتُفرِّطُ فى الأرض، وتُقدِّمُ للعالم ما يُريدُه منها، وليس ما يُعبِّرُ عن ميراثِها الحضارىِّ وثوابتها الأخلاقيَّة.
ولنَدَع الماضىَ جانبًا؛ بما احتواه من وُلوغٍ فى الدم أو اشتغالٍ لدى المُستعمر. الحاضرُ الذى ما زال ساخنًا لم يُقدِّم صورةً مُغايرةً على الإطلاق.
صَعَد الإخوانُ للسلطة فى مصر؛ فاختاروا بالولاء لا الجدارة، وهادَنوا العدوَّ والمُحتلّ، ونَكَّلوا بخُصومهم جميعًا بكلِّ وسيلةٍ مُمكِنَة، وما اختلفَ عنهم «الغنّوشى» الذى عاش عُمرًا فى حاضنةٍ أوروبيَّة، وعندما مَلَّ من غُربته؛ كسرَ صيامَه عن تونس بدماء محمد البراهمى وشُكرى بلعيد.
أمَّا فى الحالة السورية؛ فالثورةُ الشعبيَّةُ صارت حربًا أهليّة، وانتُدِبَ لها المُقاتلون من كلِّ صَنفٍ ولون. النظامُ مسؤولٌ عن تصعيد المُشكلة لتصيرَ إشكاليَّةً؛ لكنَّه لم يَفرِض وَصفَتَه على مُعارضيه، ولا كان الاتِّساقُ الوطنىُّ والمَفاهِيمىِّ يُجيزُ لهم استبدالَ راعٍ بآخر.
وانطلاقًا من العُقدة الدراميَّة؛ فإنَّ «الجولانى» يُركِّزُ على الفاصلة الإيرانيَّة فى جُملةٍ مَليئة بالتدخُّلات الخارجية، لأجل أنْ يُبرِّر لنفسِه أوَّلاً أنه كان بَيدقًا على رُقعة الآخرين، ولا يختلفُ عمليًّا عن الأسد، ثمَّ ليصرِفَ الأنظار عن التفاعُلات التالية، وما يترتَّب عليه من التزاماتٍ تجاه المُمسِكِين بقيادِه حاليًا.
صحيحٌ أنَّ طهران سبَّبتْ إزعاجًا كبيرا؛ لكنها ليست المُهَدِّدَ الوحيدَ للهُويَّة السورية، ولا لثقافتِها الدَّولَتِيّة ومُقدَّراتها الصُّلبة والناعمة. إنه التناقُضُ العميق فى النظر للاستتباع؛ بالضبط كما فى الازدواجية بين قَدَر العندليب الأحمق وقَدَر الجولانى المَلهَاوىّ الساخر.
مفهومٌ أنَّ «الجولانى» مُحمَّل بماضيه الثقيل، ومشدودٌ فى قيود حاضره الخانقة. لا يسهُل عليه أن يشطُبَ وجهَه القديم من ذاكرة الآخرين، ولا أنْ يَصطنِع بديلاً جديدًا؛ بانقطاعٍ كاملٍ عن ظهيره الأيديولوجىِّ.
لعلَّه يَصدُق فى قليلٍ أو كثير؛ لكنَّ الأهمَّ ما يكذب فيه مَهمَا كان ضئيلاً وهامشيًّا، وما يُخفِيه أو يعجز عن حسمِه فى دواخلِه، قبل أن يصطَدِمَ بما سيُمليه عليه المجال العام.
وإن كان يتولَّى مُهمَّةً سياسية فى الراهن؛ فإنّه آتٍ من حقل الثورة، وعليه الوصول إلى لُغةٍ معيارية تُزاوج بينهما، أو تنحازُ لجانبٍ وتقطعُ صِلتَها بالآخر، والمسألةُ ذاتُها فيما يخصُّ ثُلاثيَّةَ: المُقاتل والحاكم والشيخ.
تحرَّرت الغابةُ من مَلكِها الغاشم؛ لكنها بين خيارين مُتعارضين تمامًا: أن تعودَ لساكنيها دون تفرقةٍ بين أُسودٍ وحِملان، أو أن يستأثر بها الضباعُ. وكما لا تصلحُ لُغةُ النظام القديم للمرحلة؛ فإنَّ ضجيج الوارثين لا يُناسِبُ السياقين: القائم والمأمول.
يجتهدُ الضَّبع فى ارتداء فراء خروف؛ لكنه يتعثَّرُ فى الوظيفتين معًا: الغريزة الجارحة تُثيرُ الشَّكَّ والإزعاج، وكذلك انتحالُ الحالة الحمائميَّة؛ كلاهما نَقدٌ للآخر وقَيدٌ عليه، وتوفيقُهما لا يتخطَّى مهارات اللاعب فحسب؛ بل يتعذَّر أصلاً، لأنهما من حَقلين وزمنين لا وِفاقَ بينها.
وفى كلِّ حالةٍ ما يُرضِى طرفًا ويُغضِب طرفًا، وفى خِفَّة جَمعِهما ما يُهدِّدُ باستثارة الجميع؛ أو على الأقلّ إعلاء تحفُّظاتهم، وإبطاء اندماجهم التضامُنىِّ الكامل فى العهد الجديد.
أسبوعان فقط على سقوط النظام، ورأينا عِدَّة نُسَخ «جولانيَّة»، تتشابه حينًا وتتمايز فى أغلب الأحيان. ولا يُعرَف أيّها تُعبِّر عن طبعتِه الحقيقية: الكَيِّس اللبق مع الوفود الدولية، أم الأُصولىِّ العنيف فى استقبال الميليشيات وعناصر الإخوان، والمَدَنىّ المُنفتح أمام الإعلام الغربىِّ، أم خطيب المَنبر فى اللقاءات المحليّة!
فى حواراته الإعلاميّة يقولُ كلامًا طيّبًا عن الدستور والقانون، وعن الانتخابات وحقِّ الشعب فى اختيار مُمثّليه. وإذ يستقبل وفدًا من الإعلاميين والنشطاء يُحاضرُهم فى الفضيلة، وقِيَم الجاهلية التى عبرَتْ إلى الإسلام ورسَّخها القرآن، ويُسرِفُ فى إعلاء الضابط الأخلاقى بمعناه العقائدى، ولا يَعبرُ تقريبًا على العقد الاجتماعىِّ وسُلطة التشريع المدنيّة.يقولُ للغرب ما ينتظرون سماعَه، ويُدغدغ آذان السوريِّين بالوعود التى لا تتسانَدُ لإجراءٍ حقيقىٍّ. صَمتٌ شِبه مُطلَق على اعتداءاتٍ صهيونية لم تَنقطِع، وصَخَبٌ لا يهدأ عن مرحلةٍ طواها الواقع ومآلها النسيان.
قُماشة جماعته تُزاحِمُ عَلَم الثورة والدولة فى كلِّ مكان ومحفل، والسُّلطة تتوزّع على شقيقٍ وصِهر وشريكِ تنظيمٍ وحُلفاء جهاد، ويُعطيك من طَرف اللسان حلاوة، ويَروغُ منك كما يروغ الثعلبُ؛ على قَول الشاعر.
الميليشيَّاتُ الشيعيّة هزمَها جيشٌ نظامىٌّ؛ لا ميليشيات سُنيَّة مُنافسة. يحقُّ له ولغيره أن يبتهجوا بخلاصهم، وأن يَشمَتوا فى جلّاديهم؛ إنما لا تحتملُ اللحظةُ أن ينسبوا لأنفسِهم ما لم يفعلوه، ولا أن يُجمِّدوا الزمنَ عند ما يَعدُّونه إنجازًا؛ وهو أقلّ التحدّيات على الإطلاق.
غادرت إيرانُ الجغرافيا الشاميّة، تلك حقيقةٌ لم تَعُد مَحلَّ جدلٍ، ولا رادّ لها ولو قرَّر المُرشِدُ وعصاباتُه أن ينثروا الغبار أو يُشاغبوا السياق الجديد.
وليس مُضحكًا أن يتجاذبَ أطرافَ الحديث مع «جنبلاط» من جهة الثنائيّة «الحسينيَّة اليزيديَّة» المُهيمنة على عقل الجمهورية الإسلامية؛ ثمَّ لا يتحرّكُ خطوةً أو ينطق قولاً خارج استلابه لصالح السرديّة نفسِها، واستثماره فيها، وتأسيس شرعيّته من مادّتها.
ربما يفوته أن الإفراط فى الشىء دليلٌ على الاحتياج إليه، وليس على الثراء فيه والشبع منه. ما يعنى؛ أنه ما زال واقعًا فى أَسْر اللحظة الأسدية الإيرانية؛ وتلك قِلّة نُضج. أو يُوظّفها لفائدة مُضمَرة؛ وهذه واحدةٌ من بوَّابات الخديعة والاحتيال.
يتجاهلُ عَمدًا أنَّ المسألةَ لو كانت فى الدين فإنها تمسّهما معًا، وإن فى المَذهبيّة فإنه لا يُقدِّم تصوُّرًا مُفارِقًا بالكامل، أمَّا لو أنَّ المآخذ على اختراق الدولة الوطنية، وعلى تَغلغُل الخارج وإمساكِه بمفاصلها؛ فإنه مَمسوسٌ بالعِلَّة، وتُطوِّقه ذاتُ الشُّبهات.
إنها مَرحلةُ توزيعٍ للوعود والتطمينات. مَتجرُ هدايا مجَّانية افتتحَه فى قصر الشعب؛ لكنه عَمَّا قريب سينفد مخزونه، ولمَّا يَتّضح بعد فيما سيتخصَّصُ لاحقًا، وما الحِرفة التى سيتكسَّب عيشَ نظامه من خلالها.
إلقاءُ السلاح، ثمّ الاعتراف بالسلطة الجديدة، ورَفع العقوبات، وافتتاح مسارٍ جادٍّ نحو التأهيل وإعادة الإعمار، كلُّها أمورٌ مُهمَّة للسوريِّين؛ لكنها لن تَمُرَّ إلَّا من قناة «الجولانى» حاليًا، وثمّة استحقاقات عليه أن يُوفِّيها، وأن يُبرهِنَ عَمليًّا على أنه ليس خطوةً قَدَريّة حمقاء أو ساخرة.
ملفُ المُساءلة غامضٌ، والمُصالحة أكثر غموضًا. تفكَّكَ الجيشُ واستُدعِيَت الميليشيات لتنوبَ عنه، والهيئة تُخرِّجُ دفعةً شُرَطِيّة جديدة طبختها فى أيَّام، وتضعُ علمَها فى الحفل قبل سوريا كالعادة. وإذ يتلوَّن قلبُ الدولة الصُّلب مُبكِّرًا؛ فلا ضمانةَ فى المُقبِل لأنْ تكون صناديقُ الاقتراع أعلى صوتًا من السلاح.
لو جاءت تحوُّلات «الجولانى» قبل إطاحة النظام لكَانَتْ أثارت الارتياب، وأوجَبت السؤال والمُجادلة؛ أمَّا بعدها فتُثير الهلعَ، وتدفَعُ كلَّ عاقلٍ لأن يتحسَّس رأسَه، وأن يُسىء الظن، ويفترض الأسوأ.
أدبيّاتُ الأُصوليَّة الإسلامويّة تنطلقُ من غايةٍ عُليا، تَحُدُّها بواجب استعادة العالم من جاهليّته، ولأجل ذلك تُنازِعُ السُّلطةَ على مواقعها تحت راية الشريعة.
والإيحاءُ اليومَ بأنها بعدما تمكَّنت ستنزلُ عن عرشِها، وتتركُ الدِّينَ عُرضةً للناخبين؛ يبدو كما لو أنهم يُحاولون إقناع الشاة بالنوم فى أحضان الذئاب.
الإسلامُ دينُ فَضلٍ وتعقُّلٍ وإحسان؛ إنما ليس بالوَصفة التى تقترحُها الجماعات الرجعية، فما بالك بالتيَّارات المُسلَّحة والعنيفة منها!
يستحيلُ التوفيق بين ما تعتنقُه القاعدة والإخوان وداعش وجبهة النُّصرَة وأشباهها، وما تحتكمُ إليه الدولة الوطنيَّة الحديثة، أكان لجِهَة التأسيس الصُّلب فى الجغرافيا والحدود، أمْ فى مُكوِّنها الناعم من مُدوَّنات وصِيَغِ قَونَنةٍ وتشريع.
فى مُلتقاه بدروز لبنان قبل يومين، قال ما يحملُ رائحةَ العُهدة العُمَريَّة أو ميثاق المدينة. وكلاهما طيِّب فى سياقه الزمنىِّ؛ إنما لا يصلح على الإطلاق لزمَنِنا الحالى.
دينُنا سَمح ويحفظُ حقوق الأقليَّات. جُملةٌ قد تُعجِبُ الناظرين من بعيدٍ؛ إنما تُوجِب ُالتحفُّظ وإثارة الدفاعات كُلِّها لدى المَعنّيين بفكرة المُواطَنة، وتَسَاوى المواطنين على مقاييس الوطن.
ومَكمن الخطورةِ ليس فى أنها مرحلةُ سيولةٍ ثوريّة، وفيها هَدمٌ وبناء؛ لكن أن أحد الأطراف فيها يبدأ من أفضليّة بقوّة الواقع والبندقية، وعليه لا يُؤمَل أن يكون الحوار الوطنى المطلوب من مراكز مُتكافئة؛ هذا إن جرى من الأصل!
الدولة الحديثةُ مُحايدةٌ أمام العقائد، لا لكُفرٍ بها أو تجديفٍ عليها؛ إنما لأنها مُلزَمةٌ بالمساواة بين سُكّانها جميعًا، أجاءوا بكتابٍ سماوىٍّ أم ببقرةٍ مُقدَّسة.
والانطلاقُ من هيمنةِ تصوُّرٍ عَقَدىٍّ على غيره؛ ولو تسامَحَ مع بقيّة الرؤى والأطروحات الروحيّة بشتَّى تلاوينها، يُحيلُ الكيان إلى شىءٍ يُشبِه الدُّوَل، ولا يضطلع بأدوارها، ويُنتجُ ميثاقًا ذِميًّا؛ بدلاً من العَقد الاجتماعى ودستوره المُلتَحِم بالعصر.
يصحُّ أن يكون «الجولانى» راغبًا فى التغيُّر فعلاً، ووقتَها يتوجّبُ الرِّفق به، وإعانته على أن يتخطَّى ضغوطَ تيّاره العنيف. وبالعقل أيضًا؛ لا ينبغى الانصرافُ عن احتمال أنه يُناوِر ويتلاعَب، وأنَّ الثورات عرَفَتْ الانتهازيِّين، مثلما عرَفَتْ المُناضلين.
حديثُ القَدَر، إلى جُملةٍ من السوابق العديدة، يُبشِّر بأنه قد لا يجدُ ناقدًا خَشِنًا من دائرته الأصولية، ولا ناصحًا أمينًا. فلن يُنتَقَد فى القول كحال العندليب، ولا فى الفعل مثلما كان مع الأسد. واجب القوى المدنيّة أن تملأ الفراغ؛ حتى لا يُحتَكر لروايةٍ بعينها، ولا يُهيمن عليه لون واحد.
القيادة فى إصبع من أصابع الرجل، والحكومة فى خزانة التيّار، والولاية الخارجية انتقلت من طهران إلى أنقرة، والصهيونية تقضم من الجنوب والعُثمانية من الشمال، و«إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا».
كانت صكوكُ الغفران فى العصور الوسطى تُباعُ وتُشتَرَى؛ لكنها اليوم تُوزَّع وفقَ اللون والطائفة. سوريا ملأى بالميليشيات، وإذا عرفنا منطقَ الإدانة لِمَن يتحدّثون الفارسيّةَ منها؛ فلا نعرف لماذا صار مُتحدّثو التُركيّة سُلطةً، بينما يُوصَم الكُردُ ناطقو اللهجة السوريّة بالإرهاب!
باختصارٍ؛ ثمّة لُعبة عظيمة تُدار من وراء الجولانى، واللاعبون سيُوظّفونه كُلّما كان مُجديًا، وقد يستبدلونه إن زادت التكاليف أو تعاظَمَت المخاطر. لن يُنتَقدَ فى تناقُضاته، ولن يُمتَدحَ إلَّا بمقدار ما يُواتِى مصالح الفاعلين.
كُلٌّ يُغنى على ليلاه، أجندة عثمانية تُنازع مشروعًا صَفويًّا، وسُنّة يختصمون شِيعَة، وميليشيات تعُدُّها بدايةَ التمكين، وإخوانٌ يحسبونها على رصيد التنظيم الدولىِّ ومُقدِّمات أُستاذيَّة العالم. والتناقُضات أعمقُ من ظاهرها، وأعقدُ من إدارتها بالصيغة الحاضرة، أو تغليب أوهام التاريخ على حقائق الجغرافيا.
ستُفيقُ سوريا وتَخلُص لوَجهِها الحقيقىِّ، وإما يتغيَّر أحمد الشرع فعلاً لا بالهيئة والاسم فقط، أو تسحقه سنابكُ الخيول العادية على امتداد الشام.