ما زلنا نتحدث عن الخلافة وشروط تحصيلها لتكون خلافة راشدة على منهاج النبوة، وبالطبع لا يمكن أن نتجاهل ما حدث فى سوريا ومَن خلف الأحداث ومن أوصل سوريا لهذا النفق المظلم الذى ندعو الله أن يخرج منه أهل سوريا على كل خير، وأنا أكتب تذكرت المثل الشهير "ما أشبه الليلة بالبارحة"، وأول من أطلقه هو الشاعر الجاهلى "طرفة بن العبد" من سجنه الذى قُتل فيه يلوم فيه قومه، عندما قال :
أسلمنى قومى ولم يغضبوا
لِسَوأةٍ حلّت بهم فادحة
كلّ خليلٍ كنتُ خاللتُهُ
لا ترك اللهُ لهُ واضحة
كلهمُ أروغُ من ثعلبٍ
"ما أشبه الليلةَ بالبارحة"
ولا بد أن نذّكر هنا بسقوط بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية فى عصر المستعصم بالله آخر خلفاء بنى العباس الذى حدّث المؤرخون عنه أنه انغمس فى المعاصى وعشق النساء، وأوكل أمر البلاد لوزير رافضى خائن وهو ابن العلقمى الذى كان يحقد على المسلمين وخاطب هولاكو ليغزو العراق ومهد لذلك بنصيحة خبيثة نكراء للمستعصم بتقليل عدد الجند إلى عشرة آلاف جندى بدلا من مائة ألف، حتى كان الجند بعد وقف رواتبهم يتسولون بالطرقات، وذلك على أمل أن يُعطى نصيبا من الحكم فى عهد هولاكو، وهناك رواية شهيرة أنه أمر بحلاقة رأس أحد خدمه، ثم كتب بالوشم على فروة الرأس رسالة، وترك الغلام حتى يطول شعره فبعث به لهولاكو، وقال فى نهاية رسالته إن وصلتك رسالتى وقرأتها فمزق الكتاب، فذبح هولاكو حامل الرسالة، وبعد اقتحام بغداد وقتل المستعصم وجنوده وحاشيته وما يقرب من مليون مسلم أهان هولاكو ابن العلقمى إهانة بالغة.
وقد رأته يومًا امرأةٌ وهو يقادُ به وهو راكبٌ على بِرذَون، وكان قبل ذلك يسيرُ فى موكبٍ وأبَّهةٍ، فقالت له: أهكذا كان يعامِلُك بنو العبَّاسِ؟!! فكانت هذه الكَلِمةُ سَببًا فى زيادة كَمَدِه وغَمِّه، فوقعت كلمتُها فى قلبه وانقطع فى دارِه إلى أن مات كمدًا وضيقًا، وقِلَّة وذِلَّة، فلم يلبث بعدها يسيرًا حتى هلك ودفن فى قبور الروافض.
ويقول الهمذانى فى كتابه: "جامع التواريخ": "إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد، دخل قصر الخلافة، وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له: "أنت مضيف ونحن الضيوف.. فهيا أحضر ما يليق بنا.. فأحضر الخليفة ـ وهو يرتعد من الخوف ـ صناديق المجوهرات والنفائس، فلم يلتفت إليها هولاكو، ومنحها للحاضرين، وقال للخليفة: "إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة، وهى ملك لعبيدنا، لكن اذكر ما تملكه من الدفائن، ما هى وأين توجد؟". فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه، كان مليئا بالذهب الأحمر، وكان كله سبائك، تزن الواحدة مائة مثقال".
ويواصل الهمذانى: "وقصارى القول، إن كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون، وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل (وأخذوه جميعه)". وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التى ورثها هولاكو من الخليفة العباسى، فإنه صهرها جميعا فى سبائك وأقام لها قلعة محكمة فى أذربيجان.
لقد كان هولاكو - ذلك الهمجى السفاح - يعى تماما أنه عقاب إلهى للخلافة العباسية ولكل ظالم فى المنطقة وقتها وحرص على إبراز هذا المعنى فى رسائله إلى الحكام.
فيقول فى رسالته إلى السلطان قطز فى مصر: "يعلم الملك المظفر قطز ـ وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ـ أنا نحن جند الله فى أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن كلام، وخنتم العهود والإيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة"!
وربما استفاد السلطان قطز من هذه الرسالة، فكف المماليك عن الظلم، واستعاد شعوره الدينى...وفى غمرة عين جالوت، حين أوشك جنوده على الفرار صرخ "واإسلاماه" وألقى بخوذته، ونزل للمعركة بنفسه، فكان الانتصار.